ورد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع فقال للذي اتبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع» فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: «السلام عيكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها» ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً(1).
وقد وردت روايات شريفة في هذا الباب.
هدم القبور الطاهرة
بعد أن تم سيطرة الوهابيين على تلك البلاد المقدسة قاموا بهدم تلك القباب الطاهرة في البقيع وغيرها، وكان هدم البقيع في الثامن من شوال عام 1344هـ الموافق لـ21 نيسان (إبريل) 1925م.
الوهابيون وهدم البقيع:
يعتقد الوهابيون على خلاف جمهور المسلمين أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!.
ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار.. فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوبا والأحمر والخليج غربا وشرقا.
ولقد انصب الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين طهرهم الله من الرجس تطهيرا.. وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد.
وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.
الهدم الأول عام 1220هـ
كانت الجريمة التي لا تنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 هـ وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.
يقول أحد الرحالة الإنجليز حين وصف المدينة المنورة بعد تعميرها بأنها تشبه اسطانبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام 1877 - 1878م أي قبل تعرض المدينة المباركة لمحنتها الثانية على أيدي الوهابيين العتاة.
الهدم الثاني عام 1344هـ
ثم عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344 هـ وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعاظهم.
فاصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
يصف الرحالة الغربي واسمه (ايلدون رتر)، المدينة المنورة بعد الجريمة الثانية التي نفذها الوهابيون عند استيلائهم على المدينة وقتلهم الآلاف من الأبرياء، يقول: (لقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي.. وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسحقت وهشمت).
العزم على هدم قبر الرسول (ص):
وتشير الوثائق والقرائن إلى أن الوهابيين لم يكتفوا بتلك الجرائم بل حاولوا مرارا هدم قبة الرسول (صلى الله عليه وآله) الا انهم غيروا رأيهم بسبب حدوث ردود فعل إسلامية قوية من مختلف البلدان الإسلامية.
الجريمة كما وصفها الغربيون:
يقول الرحالة السويسري لويس بورخارت والذي اعتنق الاسلام وسمى نفسه ابراهيم: (تبدو مقبرة البقيع حقيرة جدا لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها. وقد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها، فهي تخلوا من اي قبر مشيد تشييدا مناسبا، وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب. يحد كل منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها.. ويعزي تخريب المقبرة الى الوهابيين.
ثم يصف هذا الرحالة قبورة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقبر العباس (عليه السلام) وعمات النبي (صلى الله عليه وآله) بالقول (فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة ومزابل!
أما جبل أحد فيقول عنه هذا الرحالة بأنه وجد المسجد الذي شيد حول قبر حمزة (رض) وغيره من شهداء أحد مثل مصعب بن عمير وجعفر بن شماس وعبد الله بن جحش قد هدمه الوهابيون.. وعلى مسافة وجد قبور اثني عشر صحابيا من شهداء أحد (وقد خرب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها)(2).
القبور قبل الهدم
كان البقيع قبل هدمه هكذا:
الأئمة الأربعة (عليهم السلام) في قبة، وتزار فاطمة الزهراء (عليها السلام) في بقعتهم حيث من المحتمل أنها دفنت هناك، وإن كنت أنا رأيت في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفاً في قبره الشريف.. وقال لي وهو يشير إلى ما بين قبره ومنبره: أن قبر فاطمة ابنتي (عليها السلام) هناك، والله العالم بحقيقة الحال.
كما يحتمل أنها (عليها السلام) دفنت في بيتها، ولعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حمل صورة جنازة إلى عدة أماكن، كما حمل الإمام الحسن (عليه السلام) صورة جنازة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البصرة.
ومن هنا لا بأس بزيارة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في البقيع، وفي المسجد، وفي بيتها وذلك لخفاء القبر الشريف، وسيظهر إن شاء الله تعالى عند ظهور ولدها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن كان من المحتمل إخفاء قبرها (عليها السلام) إلى يوم القيامة ليبقى سنداً على مظلوميتها طول التاريخ.
وكان في نفس تلك القبة مدفن العباس عمّ النبي(صلى الله عليه وآله).
وكانت خارج القبة بفاصلة قليلة قبةٌ مبنية على بيت الأحزان، حيث كانت الزهراء (عليها السلام) تخرج إلى ذلك المكان وتبكي على أبيها.
وكانت تشتمل مقبرة البقيع على قباب كثيرة، مثل أزواج النبي وأولاده وبناته ومرضعته (صلى الله عليه وآله) حليمة السعدية، وكانت هناك قبة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) والدة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقبة أم البنين(عليها السلام) زوجة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبتها قرب قبة عمات النبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت أيضاً قبة جابر بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم مما هو مذكور في التاريخ.
الهوامش:-----------------------------------
(1) بحار الأنوار: ج22 ص466 ب1 ضمن ح19.
(2) البقيع الغرقد: ص43-44.
اترك تعليق