الظاهرة الثقافية الحسينية

مما امتازت به الظاهرة الحسينية منذ انطلاقها الى يومنا هذا هي ظاهرة الثقافة التي عمت أوساط هذه الثورة المباركة بل غدت الثورة الحسينية مصدرا لتثقيف اتباعها وتعميمه إلى غيرهم حتى صارت هذه الثورة نافذة مهمة على الثقافات الاخرى تستقطبها بل لعلها تنظر لها في أحيان أخرى.

لقد عرفت الثورة الحسينية بأنها افتتحت مشروعها بالظاهرة الثقافية، أي سبق الظاهرة الثقافية للثورة شيء يثير الانتباه، فالتثقيف الذي سعت اليه الثورة قبل انطلاقها كانت قضية ملازمة لها، فالوقوف على جهود الإمام الحسين عليه السلام قبل ثورته المباركة أمر تدركه المصادر التاريخية التي وثقت للأحداث التي سبقت الثورة، فقد كانت بيعة يزيد في زمن معاوية امرا أثار استهجان العامة واستنكارهم نتيجة لما بذله الإمام الحسين عليه السلام من جهود للتثقيف على رفض هذه البيعة والتشهير بها، فقد كتب الإمام عليه السلام الى معاوية كتاب تأنيب ومما جاء فيه:

«ثم وليت ابنك وهو غلام يشرب الشراب ويلهو بالكلاب، فخنت أمانتك واخربت رعيتك، ولم تؤد نصيحة ربك، فكيف تولي على امة محمد من يشرب السكر؟ وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار، وليس شارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمة؟ فعن قليل ترد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار»(1).

فالرسالة تفضح السياسة الأموية الطائشة التي تجاوزت كل القيم الإسلامية والإنسانية، وهي تنذر الأمة بعاقبة الانحراف التي تمر بها الأمة، وتحصد سوء فعلها وإسرافها في أمرها.

وفي السنة التي توفي بها معاوية كان الإمام عليه السلام يحضِّر لمشروع الثورة، وذلك من خلال الإعلان العام لرفضه واستنكاره لبيعة يزيد والعمل على قهر الأمة بقبولها، ففي منى اجتمع أكثر من سبعمائة رجل عامتهم من التابعين ونحو مائتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال عليه السلام:

«أما بعد، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسالكم عن شيء، فإن صدقت فصدقوني، وان كذبت فكذبوني، وأسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقربتي من نبيكم لما سيرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم من أمنتم من الناس.

وفي رواية أخرى بعد قوله "فكذبوني" قال:

«اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا، فإني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

وما ترك شيئا مما انزل الله فيهم من القرآن الا تلاه وفسره، ولا شيئا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه.

وكل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم، وقد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي اللهم قد حدثني به من أصدقه وائتمنه من الصحابة، فقال:

أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه.

قال سليم بن قيس الهلالي راوي الخطبة: فكان فيما ناشدهم الحسين عليه السلام وذكرهم ان قال:

أنشدكم الله أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وانا اخوك في الدنيا والآخرة؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه، فتكلم في ذلك من تكلم فقال: ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس ان يناموا في المسجد غيره، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وله أولاد.

قالوا: اللهم نعم. قال:

أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوةٍ قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه، ثم خطب فقال: إن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدكم الله أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: ليبلغ الشاهد الغائب؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدكم الله أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت ولي كل مؤمن بعدي؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدكم الله أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه؟

 قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدكم الله أتعلمون انه دفع إليه اللواء يوم خيبر ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار يفتحها الله على يديه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل به شدةٌ قط إلا قدمهُ لها ثقةً به، وانه لم يدعه باسمه قط إلا يقول: يا أخي وادعوا لي أخي.

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أنه كانت له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم خلوة، وكل ليلة دخلة إذا سأله أعطاه وإذا سكت أبداه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انا سيد ولد بني آدم وأخي علي سيد العرب، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة والحسن والحسين ابناي سيدا شباب أهل الجنة؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بغسله واخبره أن جبرئيل يعينه عليه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في آخر خطبة خطبها: إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي فتمسكوا بهما لن تضلوا؟

قالوا: اللهم نعم.

فلم يدع شيئا أنزله الله في علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللهم نعم قد سمعنا ويقول التابع: اللهم قد حدثنيه من أثق به فلان بن فلان، ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه يقول:

من زعم انه يحبني ويبغض عليا فقد كذب ليس يحبني ويبغض عليا.

فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال:

لأنه مني وانا منه، من أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغضه فقد أبغض الله ومن أبغضني فقد أبغض الله.

فقالوا: اللهم نعم، قد سمعنا وتفرقوا على ذلك(2).

وقد حرصنا على متابعة فصول الخطاب كله؛ لأنّه يترجم قضية مهمة وخطيرة وهي كون الثورة الحسينية لم تنطلق من فراغ بل كانت تحتل مساحة واسعة من الثقافة العامة للأمة؛ ومسؤوليتها في ذلك تكمن في إدراك خطورة الموقف الذي تداعت بسببه أمور أدت إلى الثورة والنهوض لتغيير الواقع، فالإمام يذكرهم بتاريخ طويل مشرف لأهل البيت في تثبيت الرسالة ودعائم أركان الدين، وأي تقويض لهذه الدعائم فستكون الأمور خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يشعرالصحابة الشهود على احداث عقود بان هناك انقلابا حدث على المبادئ والقيم كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم:

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ)

فالانقلاب الذي حذر من مغبة ارتكابه القرآن الكريم يستوضحه الإمام في مواقف شهد عليها الصحابة، فلا مندوحة لهم من الاعتذار، ما لم يعلموا على طبق ما أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحفاظ على أصول الدين وبقاء الثوابت.

فالثورة إذن بدأت بالتثقيف وسبقتها أطروحة التغيير الفكري والجهاد من أجل استبيان الحقائق وإسداء النصح.

هذه الخاصية لم تكن تاريخية بحتة بل صارت من موروثات الثقافة الشيعية التي قدست المعرفة كما قدست الجهاد ضد الظالمين وغدا التثقيف إحدى علامات الوضع الشيعي الذي لا ينفك عن محاولة الوعي الذي يبثه بين اتباعه، أي وَرِث الوجود الشيعي حركته التثقيفية من عاشوراء يوم كان الإمام الحسين عليه السلام يقدم الحقائق والنصح لأصحابه بل حتى لأعدائه.. وغدت هذه الحالة ظاهرة تتميز بها الشخصية الشيعية وكل حركاتها الإصلاحية.

قلنا إن هذه الظاهرة صارت من الموروثات الشيعية وظهرت ملامحها في الحركة الشعائرية التي رافقت التاريخ الشيعي منذ كربلاء الشهادة حتى يومنا هذا، فالشعائر الحسينية" نضجت" فيها الظاهرة الثقافية وعملت على تفعيلها وهي من اهم منجزات الشعيرة الحسينية التي طاردتها الأنظمة الحاكمة، إذ كانت هذه الشعائر ترتضخ المعرفة لاتباعها وتعمل على تثقيفهم، فالمجلس الحسيني لم يقتص على مصيبة الحسين عليه السلام وأهل بيته بل يسبقها الخطيب بمحاضرة تاريخية أو قضية عقائدية أو مسألة علمية أو جميعها كما هو الغالب حتى يخرج بحصيلة عامة يربط نتيجتها بالمصاب الحسيني الذي اجتمع من أجله الحاضرون، أي سيتحمل المشارك في المجلس ثقافة ما تنسجم وتطلعات القضية الشيعية بل تتجاوزها الى قضايا عامة دولية منها ومحلية أخرى، لذا نجد أنّ هذه المجالس تكفلت بتنضيج الرؤية الشيعية لدى اتباعها، وحققت انجازا عظيما في فك الحصار المضروب على الفكر الشيعي وأبدت فعاليتها في تعزيز الثقافة المطاردة التي ضرب عليها النظام السلطوي طوقا من الحظر الذي حاول قمعها وإقصاءها.

إن الثقافة الشيعية كظاهرة ترعرع معها الفرد الشيعي وبنت كيانه في اللبنة الأولى من معرفته وشخصيته الممزوجة بها رؤيته الأولى منذ أن نشأ حتى تكاملت ثقافته ورشدت رؤيته.

الهوامش:__________________________________

(1) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام:258.

(2) كتاب سليم بن قيس: 206.

المرفقات

: السيد محمد علي الحلو