القراءة وأهميتها في الفكر المتطور

إن مفهوم القراءة في فكر الإنسان المتطور، هي أنها درع يحمي العقول والنفوس، خصوصاً عقول الشباب ونفوسهم، ويحرّر الإنسان من قيود الجهل والانقياد للأفكار السلبية. 

إذ أن في القراءة تهذيب للنفس، وهي تمنحنا الثقة والقدرة على التحاور والنقاش، وتجعل صاحبها يترفع عن سفاسف الأمور وتوافهها، ويبحث في بواطن الأمور وروائعها، وتزود صاحبها بقوة الصبر.

 

وكما أننا نستشرف بالقراءة المستقبل، ونُغذي بها الخيال وبذور الابتكار، فإننا نهدف بها أيضاً إضافة عمراً جديداً إلى أعمارنا، فبها نسافر إلى أمكنة لم نزرها، ونعيش تفاصيل أزمنة لم نعشها، وذلك بربط الماضي بالحاضر، فنستفيد من السِّيَر(السير) عِبر الزمان بتلافي سلبيات من قد مضى، وتبنّي إيجابياتهم وإبداعاتهم، لتحسين الواقع وتطويره.

 

ومن حُرم نعمة القراءة فقد حُرم خيراً كثيراً، ففيها المتعة والسياحة، وفيها العمل والبناء، وفيها التطور الفكري، وبها ترتقي درجات الإنسان الأخلاقية والمعرفية والعلمية، وترتقي معها مهاراته الاجتماعية، فقراءته للتجارب البشرية تزيد من حنكته وذكائه الاجتماعي، فالقراءة على هذا تُغذي الروح والعقل معاً.

 

أما القراءة تحليلياً فهي عبارة عن القدرة المكتسبة لمعرفة تحويل الرموز من الأصوات إلى الصورة المجسدة بشكل حرف مكتوب، ومعرفة قراءة تلك الأصوات مجتمعة في نسق خاص يسمى اللفظ أو الكلمة المفردة، وذلك للدلالة على معنى مراد ومعين، حيث تُشكل الكلمات من مجموعها جملة ذات كلمات تؤدي معنى كلي يحسن السكوت عليه، وهي تركّب تركيباً اسنادياً، وموجهاً توجيهاً دقيقاً لتشخيص المراد من إنشاء الكلام الذي به يعرف القصد والمراد، وبه يكتسب نور المعرفة ويزداد، كلما زادت حصيلة القراءة وتطور مستواها، ولذلك فمن الجميل أن تكون هنالك مجالس قراءة، أو ما يسمى صالونات القراءة في كل مكان، سواء كان مدرسة أو مؤسسة أو منزل، وذلك لمناقشة وتحليل ما تتم قراءته، وإلقاء النظر على مكامن الإبداع فيه، والاستفادة من محتواه.

 

ونحن اليوم بحاجة إلى اكتساب مهارة القراءة المفيدة، ويتم ذلك تدريجياً بالتدريب اليومي على القراءة، وذلك بالتدريج الذي يلزم أن يكون متسلسلاً ويشمل الكم والنوع، فإذا تمت الأمور هكذا فإننا عندها سنجد أنفسنا تلقائياً نطلب القراءة دون أي دوافع، وفي كل المجالات.

 

وقد يعتقد البعض أن الأمر صعب للغاية، و يعتقد البعض الآخر أنه سهل جداً، والحقيقة أنه ليس صعباً ولا سهلاً، إنما هو أمر مُيسّر، لكن لمن استمر وواظب عليه، أي: أن المفتاح لتحقق ذلك هو الاستمرارية بالقراءة، والمواظبة عليها، فهي الاستراتيجية المُثلى في هذا المضمار.

وما نحتاجه لتحقيق هذا المكتسب النافع الضروري للحياة، هو اكتساب مهارة استقطاع وقت من مشاغلنا اليومية لنشغله بالقراءة المفيدة، ولأجل التمرين على اكتساب هذه المهارة، قال الإمام الصادق(عليه السلام) قال: ((القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية))[1]، فالعهد أهم الأمور التي يجب أن نشغل أنفسنا بها لأدائها، فاستقطاع الوقت للقراءة ليس أمر ضروري للحياة الدنيا فقط ، بل هو أمر لازم للنجاة ورفعة الدرجات في الدنيا الآخرة.

 

وقد جعلت قراءة القرآن الكريم عهد بين الإنسان وربه، تأكيداً على ضرورة اختيارها وتقديمها على أي اختيار، فمعنى كلمة العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا}[2].

وليزيد الاهتمام بالقراءة كان يلزم التعامل الإنسان معه على ضوء قاعدة الأهم فالمهم، وقد قال الله تعالى في أولى آياته بما هو أهم في هذه الدنيا: { اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[3]، فالإيمان بذلك يجعل الإنسان يترك جزئيات الحياة الدنيا وراء ظهره، لأنها جزئيات فيها الكثير من الخطأ والضعف وعدم المعرفة، وعدم النفع، متقيدة ومحددة بزمانها ومكانها بخلاف القرآن الكريم.

 

فاستراتيجية الاستمرارية بالقراءة، والمواظبة عليها، تتحقق بهذا الفعل، إذ أن القرآن الكريم فيه قابلية جذب الإنسان بالجودة والجمال ووسعة المعلومات ودقتها وعمقها التاريخي كتجارب ناجحة أو فاشلة، وتخطيطها ونظرتها للمستقبل، وقد عبر الحديث عن هذه الحقيقة بالتعاهد، بدلالة: ((وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)).

 

وقد دعمت هذه الاستراتيجية أحاديث كثيرة، لتكون القراءة فاعلة ومثمرة وتؤتي أكُلها، وبها يكون الارتقاء المعرفي والتطور الحضاري.

 ومن الأحاديث الداعمة لذلك:

 

1- قال الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): ((... وعليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، فكلّما قرأ آية رقا درجة، ...))[4]، فالقراءة وممارسها في خير شديد وهو أمر مشوق ومرغوب لدى الإنسان.

 

2- وبسنده عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: ((قال أمير المؤمنين(عليه السلام) البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيئ لأهل السماء كما تضيئ الكواكب لأهل الأرض وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عز وجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين))[5].

 

3-  فقد قال الزهري: قلت للسجّاد(عليه السلام): أيّ الأعمال أفضل؟ قال (عليه السلام): ((الحالّ المرتحل، قلت: وما الحالّ المرتحل؟ قال (عليه السلام): فتح القرآن وختمه، كلّما حلّ في أوّله ارتحل في آخره))[6].

 

أما من ناحية الانتفاع فقد عدت الروايات قراءة القرآن لا مجرد قراءة لكتاب بل قراءة لها أثر عظيم يجعل من الإنسان في قمة الغنى المعرفي، قال أبو عبدالله الصادق(عليه السلام): ((من قرأ القرآن فهو غنيٌّ، ولا فقر بعده وإلاّ ما به غنىً))[7].

 

ومن هنا لزم الاهتمام بالمقروء ما هو نوعه ونوع المقروء فيه ومدى صحته ودقته والفائدة المتحققة منه، فاختيار كتاب للقراءة يعتمد على غرضك من القراءة:

 

1- فقد يكون الغرض القراءة المعرفية: كأن يقرأ الإنسان رغبةً في التثقيف والحصول على المعرفة والمعلومات من الكتاب الذي يقرؤه، ما يزيد من حصيلته الثقافية.

 

2- فقد يكون الغرض قراءة ترفيهية: هي أن يقرأ الإنسان للاستمتاع بالكتاب المقروء، وتعتبر وسيلة للترفيه بالنسبة له.

 

3- فقد يكون الغرض قراءة تفاعلية: هي أن يقرأ الإنسان للتفاعل مع الواقع، كما يفعل الزوج والزوجة عند تحضيرهما لولادة طفل، فيعتمدان على الكتب كوسيلة لتعزيز قدراتهما على التربية.

 

4- فقد يكون الغرض القراءة الوظيفية، وهي أن يقرأ الشخص حول مجال عمله ليفهمه بشكل أكبر يساعده على إتمام المطلوب منه كإنسان مسلم مؤمن.

 

5- فقد يكون الغرض القراءة التطويرية، أي أن يقرأ الشخص ما يتفق مع مجال عمله لكن تطور، فهو على دراية بما يفعله، لكنه يبحث أكثر.

 

ولا تجتمع هذه الأغراض جميعها في قراءة ما، إلا في قراءة القرآن من حيث صحة تركيبة وبلاغة عباراته وتعبيره عن الحقائق بدون مجاملات ووصفه للحال بدقة واشتماله على معلومات وتجارب الأولين والآخرين، لذا يلزم أن تكون جميع الأغراض حاضرة عند قراءته.

 فقد ورد عن رسول الله الأكرم(صلى الله عليه وآله): ((لا حسد إلّا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار))[8].

 

وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ: ((عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً، فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض))[9].

 

وكان الإمام علي ابن موسى الرضا(عليه السلام) حليفاً للقرآن الكريم، يتلوه باستمرار، ويتأمل آياته بإمعان، وكان يجد في تلاوته له متعة لا تعادلها أية متعة في الحياة، ويقول الرواة: ان جميع كلامه تأثر تأثيرا مباشرا بالقرآن فكان جوابه وتمثله عبارة عن انتزاعات منه، وقد بلغ من شغفه وولعه بالقرآن انه كان يختمه في كل ثلاثة أيام، ويقول(عليه السلام): ((لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة أيام لفعلت، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها وفي أي شئ نزلت، وفي أي وقت؟ فلذلك صرت أختم في كل ثلاثة أيام))[10]، ومعنى ذلك: أنه كان في أغلب أوقاته مشغولا بتلاوة القرآن الكريم، والامعان في تفسيره، وأسباب نزول آياته، إذ يقول المؤرخون: إنه كان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة أو النار بكى، وسأل الله الجنة، وتعوذ به من النار[11].

 

فبقية الكتب المدونة والمؤلفة لا تشتمل على الغنى العلمي والمعرفي والسلوكي والتدريبي واكتساب المهارات، وبتطبيق قاعدة الأهم والمهم يرجح القرآن الكريم في الاختيار والترجيح، لأن تحقق النمو المعرفي والتطور العقلي وتحسين الحياة الدنيا قائم متحقق لا محالة بعكس بقية الكتب إلا الكتب التي جمع فيها أقوال المعصومين(عليهم السلام).

 

 

 

الهوامش:----------------------------------------------

[1] الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص: 609.

[2] سورة الاسراء: 34.

[3] سورة العلق: 1. 

[4] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج98، ص: 197.

[5] الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص: 610.

[6] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج٨٩، ص٢٠٤. 

[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج6، ص: 178. 

[8] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج٨٩، ص١٩٨. 

[9] المصدر نفسه. 

[10] حياة الإمام الرضا(عليه السلام)، باقر شريف القرشي، ج1، ص: ٢٩٦.

[11] انظر: عيون أخبار الرضا(عليه السلام

: الشيخ مازن التميمي