الحروف والاهلة.. تجريدات موروثة

يمتلك الحرف العربي أبعاداً لغوية وجمالية يمكن لمسها حين التعرض اليه في مجال الفنون التشكيلية.. فنحن نرى كثير من اللوحات تحمل بين اطرها كلمات وجملاً تحيل الخطاب التشكيلي إلى مفهوم لغوي كما هو الحال عند بعض رواد الفن العراقي من الحروفيين امثال الفنان جميل حمودي وشاكر حسن ال سعيد وغيرهم، والذين استمروا وبشكل دؤوب في مطاوعة الحروف العربية شكلياً إضافة إلى محمولاتها اللغوية في بناء موضوعات لوحاتهم، في حين نشاهد في مورد فني اخر استلهام الحرف بطريقة تخرجه عن منطوقه اللغوي لصالح القيمة الشكلية كما في أعمال الفنان راكان دبدوب .

يشكل الموروث الحروفي فكرة بارزة للأعمال الفنية التشكيلية خصوصاً في التكوينات الفنية العراقية، وذلك لاعتبارات محيطية دينية ولغوية، فالفنان العراقي المعاصر احدث توازناً مضمونياً من خلال تشفير نتاجاته بأشكال حروفية أو هندسية وباستعارات حضارية، اذ إنه عادة ما يحاول الإبقاء على الجذر الطبيعي والبعد الثـقافي الذي نعيشه منذ خمسة وثلاثين قرناً قبل أن تعايننا ثـقافة الصورة او ما تسمى بثـقافة ما بعد المكتوب، فالتـــداول المعرفي والمعلوماتي مازال يشكل التركة الأكبر في اتصالنا بالمحيط، وهذا ما يفسر الرواج الجمالي في دائرة المتلقي العراقي، فضلاً عن طواعية الحرف في لغة التشكيل، فأننا قد نجد ان بعض من رسامينا وفي بعض من لوحاتهم يخرجون بالحروف عن ثوابتها القواعدية.. كما في اعمال التشكيلي العراقي أياد الحسيني الذي حاول طبع حروف لوحاته بطابع الاستطالات والتعرجات وبعض النتوءات ووظفها لصالح رفع قيمة الحروف تشكيلياً.

 في حين ان هنالك أشكال أخرى رافقت تشكيلات الحروف كسمة مميزة لأعمال بعض الفنانين او مرحلة فنية معينة ينتمون اليها، فكانت عبارة عن أشكال هندسية مختلفة كالمربع والمثلث والمعين ولهذه الأشكال جذرها الحضاري بالتأكيد، فضلاً عن سمات الحداثة في لغتها الجمالية الجديدة - وأن كانت للحداثة خاصيتها من الاستعارة لاسيما من الحضارات القديمة-، وهذا ما جعل الفنان العراقي يقوم بالبحث والتنقيب داخل اعماق التركة الحضارية الخاصةً به وبانتمائه.. واستكمل حفرياته في الوقوف على مفردة مثل المثلث الذي له سحره في الحضارة السومرية ومثل الشكل المميز لكثير من مفردات البيئية، فالتكرار العددي للمثلث يعطي مغايره شكلية تتوالد منها أشكال أخرى فان تقابل اثنين من المثلثات يرمز للفأس السومري وأن تطابقهما من اتجاه ضلعيهما القائمين يشكلان المربع كما هو معروف، في حين ان الشكل المستطيل في الحضارات القديمة نحصل عليه من عدة مثلثات، والمثلث المنفرد باتجاهه إلى الأسفل يمثل شكل الغزال في حالة الركض قبل الوثب.. فالضلعين باتجاه الأسفل يمثلان الطرفين الأماميين، والرجلين وباقي الجسد فيمثلها الضلع الأفقي منه.

واذا ما دقننا النظر في شكل المثلث كمفردة بصرية جمالية، فهو يمثل حالة الاستقرار والقلق معاً وأن توظيفه في اللوحة يحمل إيحاء في ظل علاقته مع الأشكال المجاورة، وهذا واضح للمشاهد في اللوحات اعلاه فهي كمثال ثلاثي الأبعاد للأشكال حيث وظف مبدعيها الموروث الحروفي والشكل الهندسي بتشكيلاته السابقة الذكر في بنية اللوحة الواحدة، في حين ان الاشكال الأخرى التي ظهرت كسمة للفن العراقي الحروفي الحديث وورثها بعض الفنانين عن فن الرواد فهي تمثلت بأشكال الاهلة المحمولة بتمثيلاتها المحيطية المحلية كما في أعمال الراحل جواد سليم، فالهلال شكل مستعار من الموروث الحضاري الرافديني القديم والفن الإسلامي الذي تلاه ،فشكل الهلال في السماء ارتبط مع قرني الثور كقوس ارتبط بفكرة الخصب والأضحية أما الرمز الديني فقــد ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ ))، فالهلال - كغيره من المفردات التشكيلية شائعة الاستخدام - مفردة ازدحمت تمثلاتها على القباب والمآذن وأقواس المحاريب فقد عاود الفنان العراقي استعارة هذا الشكل في مجاميع كبيرة من النتاجات الفنية حملت هذا الموروث .

من هذا نخلص الى ان التشكيل العراقي زاخر بموضوعة البيئية المحلي والموروث الحضاري الذي تزخر به ، فالفنان الحروفي العراقي تعامل مع الحرف العربي بمرونة كبيرة ، فلم يتعامل معه بصفته خطاً فحسب بل امتد ذلك الى ان يعده خلقاً وتشكيلياً فنياً بحثياً، له عدة أبعاد، فهو حرف نوراني روحاني وباعتباره حرف القرآن الكريم، وهو في نفس الوقت قابلا ومطواعاً  للتشكيل الفني بالدوائر والتنقيط الأفقي والعمودي، فهو بالضرورة  قابل لأن يصبح حرفاً عالمياً لا منافس له، وهذا ما نراه اليوم في اعمال المشتغلون على هذا الاتجاه الحروفي،  اذ تجاوزوا بإبداعاتهم وتجاربهم الحروفيّة الحدود الضيقة وتمكنوا من جعل الكلمات تنفجر وتنساح فوق لوحاتهم، أو تنهض في معمار كتلهم الفراغيّة، مجددين اكتشاف الجمال والسحر والتعبير العميق الكامنين في هذه الكلمات والحروف التي استلوا منها، الجماليات الفريدة للخط العربي، وأودعوها ضمن بنية منجزاتهم البصرية المسطحة أو المجسمة لتكون بهذه الصور الرائعة.

 

 

كاتب : سامر قحطان القيسي