اصالة الموروث ..

عمد الفنان التشكيلي العربي والعراقي على وجه الخصوص في رسم مواضيعه المتنوعة، ولا شك ان ذلك كان تحت سطوة ببيئته وموروثه الحضاري والفكري، فهناك من رسَمَ الريف واخر رسم المدينة والحياة اليومية، في حين ذهب البعض منهم الى توثيق عمارة ونقوش المساجد والمراقد المقدسة، وقد كانت الفنون في العراق والمنطقة العربية ومنذ بدايتها محصورة بين فئة قليلة من الفنانين والمشاهدين وبالتحديد بين الطبقات المترفة في المجتمع، فالعامة من الناس كانوا يعدّونه ضرب من الترف بعيداً عن متطلبات حياتهم المعيشية المتواضعة.

ان الفنان عادة ما تكون له علاقته متبادلة مع البيئة الاجتماعية التي لها الأثر الواضح في إعداده وتنشأته المهنية والثقافية، فالبيئة هي المحيط الذي يعيش فيه الفنان وعادة ما يُعبّر عنها برسوماته بطريقة او بأخرى.، فهي بلا ادنى شك مركز اثراء لإبداعاته بكل المعاني والأشكال التي يستمد منها عناصر لوحته والوانها وحبكتها، فنرى ان كثير من الفنانين التشكيليين قد وضفوا الرموز الإسلامية ليعبروا بها عن الدلالات الدينية والاجتماعية بين أبناء مجتمعهم، فميزوا اعمالهم بالأشكال المتمثلة بالقباب والمآذن والأبواب المقوسة والخطوط العربية وانواع الزخارف المحمّلة بحقائق ذات معانٍ إنسانية وروحية ، اذ يفصح عنها باشكال الرموز المتعارف عليها في تلك المجتمعات لتكون وسيلة تواصل مع الناس، وقد أدرك الفنان نواحيها الجمالية فاستخدمها كأداة جذب ومحط اهتمام بصري وفكري .

واللوحة أعلاه من سلسلة الإبداعات التشكيلية للفنان العراقي المغترب احمد الشهابي الذي مثل العراق في المحافل الدولية من خلال لوحاته وإبداعاته التي وُشّحت في الغالب بالتراث المحلي بخطوطه العربية وزخارفه ونقوشه المختلفة التي صاغها بأسلوب تشكيلي اشبه بالقصصي و بتقنيات مختلفة متباينة بين لوحة وأخرى، وتعد هذه اللوحة مميزة بتنوع رموزها الناطقة بعربيتها المتمثلة بالحروف العربية الملونة والمكونة لسورة الفاتحة المباركة وهي تختط رمز حمامة السلام، فالشهابي احد ابرز الفنانين الذين ابدعوا باستخدام أسلوب المزج بين الخط والرسم واللون وتوظيف الحرف كعنصر تشكيلي اساسي في العمل الفني من خلال جمالياته الواسعة المرتبطة به والحرص على ضبط قواعده وأصوله في تنفيذ العمل التشكيلي الحروفي كقيمة رمزية تعبيرية خالصة ، فللخط العربي القدرة على التماهي مع مختلف الفنون الابداعية الاخرى وبالخصوص الفن التشكيلي.

انطلق الفنان في هذه اللوحة - كما هو حال ابداعاته الفنية الاخرى- من مبدأ  أن النقطة هي بداية كل هدف فني حروفي كونها تعد البناء الاساسي للحرف العربي ، وعمد لربط النقطة بالخط ومن ثم باللون والاشكال الاخرى داخل اطار اللوحة ، وهو نمط فني مستحدث لا ينأى عن القواعد التقليدية للخط اوالرسم التي يشتغل وفقها الفنانين، مؤكدا من خلالها ضرورة الالتزام بالخارطة التقليدية للخطوط العربية كونها الحجر الأساس في هذا الفن الحروفي ، والذي يساعد على تقديم لوحة فنية مفهومة للمتلقي ، كون الفن التشكيلي يحتاج لقدرة استثنائية على الإدراك والتلقي دون نفي إمكانية استحداث تقنيات جديدة تغني الأساليب الكلاسيكية المتداولة في الرسم.

تنطق اللوحة بحوار جدلي بين المحلي الايقوني والمحلي الرمزي في حضور متجانس ضمن التكوين العام للوحة ، تمثل بموضوعة اللوحة بأشكالها التراثية الرمزية التي تصور جوانب الحياة العراقية في علامات ورموز شعبية متاصرة ببناء إخراجي يرتبط بمقولة اللوحة المستمدة من حضارة العراق ، والموروث الشعبي الرمزي، ولو تتبعنا تفاصيل اللوحة وبنيتها التكوينية وأشكالها المسطحة الخالية من المنظور عن كثب لاتضح لنا جليّاً إنها تتألّف من تراكيب لونية ذات قوام تطغى عليه أشكال الرموز الاسلامية المختلفة، فقد استخدم الفنان اسلوب التجريد الفني بأقترابات تعبيرية في تمثيل عناصر اللوحة وقد طغى الجانب التصميمي على الجو العام للمشهد، فالمتعرض للوحة وهو يراقب أشكالها لا يمرُّ بالتفاصيل المكوّنة للبناء إلّا بعد اكتمالها كشكلٍ فني رمزي متوازن، فقد وظف الفنان أشكاله بطريقة زخرفية تخللت سطح اللوحة الكلي وعناصره الجزئية لتضفي عليه قيمة جمالية عالية من خلال تناسق التفاصيل والعناصر الموزّعة على المشهد وبتكوينات متباينة ومنسجمة في الوقت ذاته ، محققة لحناً متوازناً للأشكال من خلال تنظيمها الإيقاعي ، فضلاً عن القيمة التشكيلية التي حملها المشهد من خلال ربط مفردات الموضوع وأشكاله المختلفة الملمس والألوان بوحدة الموضوع المتمثلة بالسلام والامان الذي تحمله حروف وكلمات الله التامات في سور القران الكريم وسورة الفاتحة وايضاً الطائر وما يحمله من الفة ودلالة على السلام والتي تعود بذاكرة المشاهد إلى العقيدة الاسلامية وما نقله لنا تراثنا العربي الاسلامي .

 

وهنا نجد ان الفنان الشهابي قد استجمع في لوحته رموزاً عربية اسلامية أصيلة ، صاغها باتقان على ارضية اللوحة ، حيث  اتخذت البنية الكلية للوحة نسقاً اشبه بالزخرفي، اعتمد في تكوينه على شكل النقطة وبعض الحروف فضلا عن انصاف الدوائرو والخطوط المنحنية في تداخل وتراكب ممتع يمنح الرسمة صفات تزينيية شعبية ، تركت طابعا مميزا للعمل الفني يتسم بالتفصيل في تكوين وحداته من لون متجانس واشكال متداخلة بغية كسر الرتابة من خلال التنويعات الشكلية المتداخلة مع كلمات الذكر الحكيم التي اتخذت موقعا سياديا في وسط اللوحة وبشكل افقي ، وهنا نستطيع ان نتلمس معالجة احمد الشهابي اللونية على اللوحة والتي توحي بالخبرة والحرفية العالية ، فالمتأمل لتفاصيل اللوحة والوانها يشعر انها قد انجزت بتقنية الاكريلك .. في حين نفذت اجزائها بتقنية الزيت على القماش، وهذا ما يدل على خبرة ودربة الفنان العاليتين وقوة فرشاته في تنفيذ وتسطيح المساحات اللونية بالوان الزيت وبشفافية بعيدا عن الاثقال اللوني بطبقاته المضافة و المتراكمة فوق بعضها البعض ، فضلا عن قدرة الفنان على ايجاد تدرجات لونية من ذات اللون نفسه كما في اللون البنفسجي في وسط واسفل اللوحة .

كاتب : سامر قحطان القيسي