هناك اعتقاد سائد أن بعض الأعمال الفنية يُكتب لها البقاء أكثر من غيرها كونها تتناول وتعالج حالة إنسانية ما أو تتضمّن عنصرا له علاقة بالتاريخ أو الهويّة ، دينية كانت ام وطنية، وهذه اللوحة تشتمل على كل هذه الامور مجتمعة ، كيف لا وهي تتناول موضوعة يوم الغدير ثالث اعياد المسلمين يوم عُين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام مولى للمؤمنين وخليفة للرسول الامين محمد صلوات الله عليه واله في غدير خم سنة 10 هـ حينما خطب الرسول الاعظم صلوات الله عليه واله في المؤمنين وهم في طريق العودة الى المدينة المنورة بعد حجة الوداع قائلاً " إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاهُ، اللّهمّ وَالِ مَن وَالاَهُ ، وَعَادِ مَن عَادَاهُ " منفذا بذلك امر اللطيف الخبير المنزل عليه في قوله تعالى (( يَا أَيُّهَا الرّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفْعَل فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ)) المائدة67.
تحمل هذه اللوحة توقيع الفنان الايراني محمود فرشجيان (Mahmoud Farshchiyan) نفذت عام 2007 بألوان الاكريلك بحرفية ودقة عاليتين ، موجودة حاليا كاحد المقتنيات النادرة في متحف خاص بالثقافة والفنون في مدينة سعد اباد الايرانية و تعتبرمن أجمل مواردالفنان التي اغنى بها الساحة الفنية على مستوى العالم ، فهو يمتلك مخيلة واسعة وقوية كان لها الدور الاكبر بولادة نمط جديد في الفن امسى اليوم يشكل مدرسة خاصة به في فن المينياتور باسلوب يجمع بين المنمنمات (الرسم التصغيري) والرسم الكلاسيكي .
يتميز هذا الاسلوب الفني الذي اعتمده فرشجيان في لوحاته بتمثيل او سرد لوقائع معينة بلغة التكوينات اللونية مبتعدا عن واقع المنمنمات المعتمدة على الكلمة واللون كما في مقامات الحريري وكليلة ودمنة وغيرها من القصص والحكايات والاساطيرالتراثية المدعومة برسوم المنمنمات.
أستطاع الفنان في هذه الرائعة الفنية أن يوظف قدرته في نقل صورة هذا الحدث العظيم للمتلقي وكأن الفنان يحيل اية التبليغ وقول الرسول الاعظم صلوات الله عليه واله في دعواه لموالاة علي عليه السلام الى مشهد مصوريحاكي به عقل المشاهد للوحة.
فلو تمعنا في اللوحة نجد ان الفنان اعتمد الالوان والخطوط الرقيقة الناعمة في استحضار مكونات وشخصيات اللوحة فقد استوحى الفنان شخص الرسول الاعظم صلى الله عليه واله مصورا اياه وخليفته وهم يرتفعون عن الناس بموضع وقوفهم مميزا الرسول صلى الله عليه واله اكثر ارتفاعا من علي عليه السلام في اللوحة غاية منه لبيان اهمية النبي بالنسبة لامير المؤمنين عليه السلام وعامة الناس ، فضلا عن اهتمام الفنان بتراكيب الخطوط والحركة وصولا الى انتقاءه الالوان وخبرته في التعامل معها فنلاحظ احاطة راس الرسول الكريم بهالة صفراء من النور المحمدي وايضا اهتمام الفنان بابراز طيات عباءة الرسول ولباسه الشريف بتموج من الالوان بين البني الغامق وتدرجاته والاصفرالممزوج ببعض البني و الاخضر باطيافه الهادءة المتمثل بغطاء راسه الشريف المسجى على كتفيه فضلا عن لباس امير المؤمنين عليه السلام وتقارب الوانه وطياته بما ينسجم ويتناغم وهيئة الرسول الكريم الى جانبه مما يجعلهما ككتلة واحدة متناسقة يمثلان مركز السيادة في اللوحة لا محال .
من جانب اخر نرى يد الرسول المرفوعة الى اعلى قد اختلطت الوانها مع الوان السماء المشرقة بالنورالالهي والمكتظة بالملائكة وطيور الجنان والتي مثلت عمق اللوحة وبعدها المنظوري متصلة بخطوط لونية ناعمة رقيقة بافق ضبابي منير الهيئة ينضوي على اجنحة ملائكة محلقة فوق روؤس الواقفين احتفاءا بهذا الامر الالهي .
عمد الفنان في هذه اللوحة الى تكريس مخيلته ومزجها مع ماهو مؤمن به من واقع الموضوعة المرسومة للوصل الى تلك الاجواء الروحانية التي تم فيها تنصيب الولي عليه السلام مستثمرا فضاءات اللوحة وتوزيع الاشكال فيها فلو ركزنا الانظار الى مادون الافق لوجدنا وجوها مبتسمة مبتهجة تمثل شيوخا وشبابا ونساء مستبشرين هذا الامر الالهي وقد اعطى الفنان اهمية لوجوه الاطفال ايضا فعلى يمين اللوحة نشاهد عددا من الاطفال المبتسمين تحملهم امهاتهم ليكونوا شاهدين مستقبلا على هذا الحدث العظيم .
كل هؤلاء مجتمعين بالوانهم الهادئة وخطوطهم الناعمة يمثلون والسماء من فوقهم خلفية للوحة كان من شانها ابراز شخص الرسول الاكرم والامام علي عليه السلام في مركز السيادة في اللوحة لما تحمله من الوان أتقن الفنان اسقاطها على سطح اللوحة بما يتلائم وقدسية هذا الحدث العظيم .
سامر قحطان
اترك تعليق