مشروع دراسة الحركة الحسينية ج1

توطئة

إنّ ما نطرحه من هذه البحوث ليس تحقيقاً لمفاصل الحركة الحسينية، ولا هو اختيارٌ لرأي من الآراء، وإنّما هو منهجيةٌ لكيفية دراسة حركة الإمام الحسين عليه السلام، ووضعٌ أو بيانٌ للأُسس العلمية التي ينبغي الدخول منها إلى دراسة الحركة الحسينية، فهذه الدراسة تشكل الهيكلية العامة لهذه الحركة المباركة.

جهات البحث

إنّ مشروع دراسة الحركة الحسينية بأُسس علمية معرفية، وكذا تناولها في إطار البحث الموضوعي، يحتاج إلى البحث والتأمّل في جهات متعدّدة ومتنوعة، منها:

الجهة الأُولى: هل نحن معنيّون بتفسير الحركة الحسينية؟

لا بدّ في بداية البحث من طرح هذا السؤال، وهو: هل نحن معنيون ومطالبون بتقديم تفسير للحركة الحسينية وشرح المبررات والأهداف لهذه الحركة أم لا؟ وهنا قد يُجاب بالنفي أو الإثبات:

وجوه النفي

 قد يقال: إنّنا غير معنيين بذلك؛ بلحاظ أحد أُمور:

الأول: إنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام يُعتبر امتثالاً لتكليف شخصي، والتكليف الشخصي لسنا معنيين بتفسير هويته أو مطالبين بامتثاله، وهذا كتكليف النبيّ صلى الله عليه وآله ببعض الأُمور الخاصة كوجوب صلاة الليل ونحوها؛ فيعتبر هذا التكليف من التكاليف الخاصة بذلك المعصوم، ولسنا مكلَّفين به أو مسؤولين عنه.

 الثاني: لو تنزّلنا ـ عمّا سبق ـ وفرضنا أنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هو تطبيق لتكليف عام لا يختص به، مع ذلك فنحن غير مسؤولين عن ذلك التكليف؛ والسبب في ذلك هو أنّ تطبيقه لا يكون إلّا من  خلال شروط موضوعية، وتعيين تلك الشروط والظروف المناسبة وتشخيصها بيد المعصوم عليه السلام، وهو أمرٌ خارج عن إطار قدرتنا وإمكاناتنا البشرية العاديّة القابلة للخطأ والصواب.

وبالتالي؛ فنحن لسنا معنيين بتفسير هوية الحركة أو شرح مبرراتها؛ إذ لا ثمرة في ذلك.

 الثالث: إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يتصدوا لشرح حقيقة هذه الحركة، ولم يتصدوا لوضع المبررات لها، وإنّما اكتفوا بربط الأُمّة الإسلامية بحركة الإمام الحسين عليه السلام ربطاً غيبياً من خلال المراسم  العزائية، أو ربطاً عاطفياً من خلال إثارة الضمائر المتفاعلة مع حركة الإمام الحسين عليه السلام. فإذا كان هذا هو موقف أهل البيت عليهم السلام من النهضة الحسينية، فموقف غيرهم لا بدّ أن يتطابق معهم؛ لأنّهم أهل العصمة والطهارة.

وجوه الإثبات

ولكن قد يقال في مقابل وجوه النفي المتقدّمة: بأنّ هناك وظيفة ومسؤولية على عواتقنا وهي ضرورة شرح حركة الإمام الحسين عليه السلام المباركة؛ وذلك لوجوه ثلاثة تصلح للرد على ما تقدم من وجوه النفي:

 الوجه الأوّل: إنّ حركة الإمام الحسين عليه السلام كانت تطبيقاً لتكليف عام توافرت فيه كافّة الشروط، وحيثما توافرت الشروط تعيَّن التكليف، وأمّا تشخيص الظروف المناسبة لتطبيق مثل هذا التكليف في كل  زمان فهو بيد الأُمّة من خلال طرق الإحراز التعبّدي؛ إذ ليس المطلوب من المكلَّف أن يصل إلى تشخيص موضوع التكليف وقيوده تشخيصاً حقيقياً يقينياً، وإنّما هو مُطالَب بالطرق التعبّدية بإحراز موضوع التكليف وقيوده، وهذا أمرٌ ممكن، بل لازم على المكلَّف في كل زمان، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً. وبذلك يتبيَّن ضرورة دراسة وتحليل النهضة الحسينية بشكل مفصَّل وواضح.

 الوجه الثاني: إنّ شرح حقيقة هذه الحركة هو مصداق من مصاديق التعرّف على مقامات الإمام المعصوم عليه السلام، فإنّ من مقامات الإمام المعصوم وصوله إلى مرتبة الشهادة، ومن مقاماته عليه السلام  قيامه بحركة تُعدّ مظهراً لمشيئة الله} ومظهراً للهداية الإلهية التي أُنيطت بهداية المعصوم عليه السلام؛ فالتعرّف على هذه الحركة هو مصداق وصغرى من صغريات معرفة مقاماتهم العظيمة.

ومن الواضح، فنحن مكلَّفون بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الوجودية الإلهية.

 كما أنّ التعرّف على مقاماتهم يُعتبر من صغريات إحياء أمرهم، ولا يتوقف إحياء الأمر على إقامة المراسم العزائية فحسب، وإنّما من أوضح مصاديقه هو شرح مقاماتهم وتفسير مسيرتهم وبيان الأسرار الخفية والأهداف الإلهية في هذه المسيرة العظيمة. ومن الواضح فنحن مأمورون بإحياء أمرهم عليهم السلام.

 الوجه الثالث: إنّ التعرّف على حركة الإمام الحسين عليه السلام هو تعرّفٌ على السنن التاريخية والسنن الإلهية في مسيرة تاريخ المعصومين بصفة عامة، فكما أنّ لحركة التاريخ سنناً اجتماعية تحكمها في كل جيل  وفي كل فترة من الفترات، فإنّ هناك ـ أيضاً ـ سنناً إلهية متكررة تحكم تاريخ الرسالة السماوية وتاريخ مسيرة الدين نفسه، فإنّه يستفاد من الآيات المباركة: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ  وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾[2]، وقوله} عن لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[3]: إنّ العلم والعصمة والنبوّة هي في أُسرة واحدة وسلالة واحدة، انحدرت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وإنّ جعل هذا العلم في هذه الأُسرة وفي هذه السلالة هو عامل من عوامل نشأة الحجية لكل معصوم من هؤلاء المعصومين بلحاظ أنّه انحدار من هذه الأصلاب الطاهرة، بعضها من بعض، وهو عامل في تخلق النطفة منذ تكونها في هذا الإطار القدسي المعطر بالعلم والعصمة والكتاب، فالانحدار من عصمة واحدة عاملٌ من عوامل تخلق النطفة وهي مقترنة بالحجية والإمامة على الخلق، وهذا هو معنى أنّ فيهم ميراث النبوّة والإمامة، وهو معنى ما ورد في الزيارة الشريفة للإمام الحسين عليه السلام: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله... »[4]، فإنّه ليس المقصود هو الإرث الحسّي وهو تناقل الكتب السماوية من يد إلى يد أُخرى، بل إنّ هذا النوع من الإرث ما هو إلّا مظهر من مظاهر الإرث الحقيقي؛ بمعنى أنّ هذا السنخ من المعلومات والقداسة والعصمة حمله صلب واحد وعرق واحد ممتد في هذا النور الذي تَقلَّب في الأصلاب والأرحام: «أشهدُ أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها»[5]. فقراءة ثورة الحسين عليه السلام وتفسير ماهية تلك الحركة المباركة ـ من أجل التعرّف على السنن الإلهية في حركة تاريخ الرسالة ـ من الأُمور المهمّة جدّاً، والتي لا بدّ من دراستها والتنقيب عنها بشكل مفصّل وواضح.

فإنّنا عندما نسأل ـ مثلاً ـ: ما هي العلاقة بين أن يُقيم إبراهيم عليه السلام الكعبة وأن يكون بزوغ نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله من الكعبة، وأن يكون ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف من الكعبة؟

 وما هي العلاقة بين تقديم إسماعيل عليه السلام للذبح قرباناً إلى الله، وتقديم الحسين عليه السلام قرباناً إلى الله تبارك وتعالى وفداءً للدين؟

 وما هي العلاقة بين زواج الإمام علي عليه السلام من امرأة عراقية فاطمة أُمّ البنين وبين خروج الإمام علي عليه السلام إلى العراق والانتقال بالعاصمة الإسلامية إلى هناك؟ وما هي العلاقة بين خروج الإمام علي عليه السلام إلى العراق، واختيار الإمام الحسين عليه السلام العراق مهداً لحركته، واختيار المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف العراق عاصمة لدولته دولة العدل والقسط؟ وما هي العلاقة بين زواج الحسين عليه السلام من امرأة فارسية لتكون أُمّاً لزين العابدين عليه السلام، وبين كون بلاد فارس قاعدة للتشيع وخروج الخراساني الذي هو من أنصار الإمام المهدي من هذه القاعدة؟ وما هي العلاقة بين كون أُمّ الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف جارية رومية وكون المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ركناً من أركان دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف؟

فإنّ هذه الأحداث ليست أُموراً وقعت صدفة من دون أن تكون بينها روابط، بل إنّ هذه الأحداث تكشف لنا عن سنن إلهية كانت بمثابة وضع روابط مفاصل حركة الدين وحركة الرسالة منذ نوح عليه السلام ـ الذي أرسى سفينته في الكوفة ـ إلى ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف وقيام دولته المباركة في الكوفة. فالتعرّف على حركة الحسين عليه السلام وتفسير ماهيّتها وشرح مبرّراتها لربطها بهذه المسيرة مسيرة الرسالة منذ اليوم الأول لها إلى آخر يوم على وجه البسيطة[6]، فالمبرّر لدراسة حركة الإمام عليه السلام وكوننا معنيين بالدراسة هو الوصول إلى كل تلك المعارف المهمة على مرّ تاريخ الرسالة الإلهية، وهو الغاية القصوى من الدين.

الجهة الثانية: الرؤية الفقهية للحركة الحسينية

وفي هذه الجهة هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، أولاً: هل ما قام به الإمام الحسين عليه السلام امتثال لتكليف شخصي يخصّه، كما قد يستشعره البعض من قوله عليه السلام: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه»[7]، أم أنّه عليه السلام كان في إطار تطبيق تكليف عام، لا امتثال لتكليف شخصي؟

ثم لو كان التكليف عاماً، نسأل ثانياً: هل ذلك التكليف العام تكليف فردي أم تكليف اجتماعي؟ أي: هل المخاطب بذلك التكليف كل فرد فرد، أو أنّ المخاطب بذلك التكليف الأُمّة والمجتمع بأسره؟

 فإن اخترنا أنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هو تطبيقٌ لتكليف فردي، فنسأل ثالثاً: ما هو ذلك التكليف الفردي؟ هل هو الدفاع عن النفس[8]؟ أم أنّ ذلك التكليف الفردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنّ من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنّه إذا توقّف تأثير النهي عن المنكر على إتلاف النفس ـ أحياناً ـ أو المال أو الجاه والمنصب، فإنّ النهي عن المنكر يُقدّم على تلك الأضرار وإن كانت جسيمة؛ وذلك لكون المنكر جسيماً جداً، وهذا ما يستشعره بعضهم من خلال قول الإمام الحسين عليه السلام: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[9]؟

وإذا اخترنا أنّ حركة الإمام الحسين عليه السلام هي تطبيقُ تكليفٍ يخصّ الأُمّة والمجتمع الإسلامي، وليس المخاطب به فرداً من الأفراد؛ لذلك فقد أراد الإمام الحسين عليه السلام بحركته تشريع هذا الأمر الذي تُخاطَب به الأُمّة، وتطبيقه في الوقت نفسه؛ من هنا تظهر لنا عدّة احتمالات:

الأول: هل ذلك الأمر الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية ـ آنذاك ـ هو الأمر بحفظ مقام الإمامة عن الإذلال، والذي قد يُستفاد من قوله: «إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بِنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[10]، وقال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون»[11]. فالأُمّة مخاطبة بصيانة هذا المنصب من أن يكون معرَّضاً للإذلال، وقبول بيعة يزيد بن معاوية تعريضٌ لهذا المنصب للإذلال؟

 الثاني: أو يقال: إنّ المسألة لا ترتبط بمنصب الإمامة بما هو منصب الإمامة، بل إنّ منصب الإمامة هنا ملحوظ على نحو الطريقية للدين نفسه وليس ملحوظاً على نحو الموضوعية؛ فيكون الخطاب للأُمة في هذا الأمر متوجِّهاً لإعزاز الدين، فإذا ما بايع الإمام الحسين عليه السلام يزيدَ بن معاوية وأمثاله تحقّق معنى الإذلال للدين نفسه، ومن الواضح أنّ الأُمّة مطالبة بإعزاز الدين نفسه؛ إذ العزّة لله ولرسوله، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[12]، وهذا هو المقصود من قوله عليه السلام: «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون...».

الثالث: أو يقال: إنّ التكليف الذي خوطبت به الأُمّة هو تسليم مقام الخلافة إلى أهله، فليس المطلوب مجرد صيانة المنصب عن الإذلال، أو مجرد أن يكون الدين عزيزاً، بل لا بدّ من تسليم هذا المقام إلى أهله، وهذا كما يُعتبر تكليفاً للأُمّة فهو حق من حقوقها أيضاً؛ لأنّ من حقوق الأُمّة نفسها أن تكون تحت قيادة معصومة تمثل الإرادة السماوية تشريعاً وتطبيقاً. وبالتالي؛ فلا بدّ للأُمّة أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل إرجاع هذا المنصب إلى أهله، وفي سبيل المطالبة بحقها في القيادة المعصومة.

 الرابع: أو أن يقال: إنّ الأمر الذي خوطبت به الأُمّة هو إقامة العدالة، كما في قوله}: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[13]، فهي مطالبة بذلك سواء تمكّنت الأُمّة من إرجاع الأمر إلى أهله أم لم تتمكن من ذلك؛ لأنّ المطلوب الأصلي هو إقامة العدالة على الأرض، وإن كانت العدالة التامة لا تتحقق إلّا بقيادة المعصوم وكون الأمر بيده تشريعاً وتطبيقاً، إلّا أنّ هناك مرتبة أُخرى من العدالة يمكن للأُمّة تحقيقها.

فحينئذ ـ وبعد هذه الاحتمالات ـ لا بدّ من دراسة أنّ هذا التكليف الجماعي أو التكليف العام الذي خوطبت به الأُمّة الإسلامية، والذي أراد الحسين عليه السلام بحركته تشريعه وتطبيقه مع أيٍّ من هذه الاحتمالات السابقة ينسجم ويتطابق؟

وهنا تنشأ أسئلة أُخرى، بأن يقال: على فرض أنّ ما قام الإمام الحسين عليه السلام بتطبيقه هو التكليف بإرجاع مقام الخلافة إلى أهله، أو التكليف بإقامة العدالة على الأرض، فهل كان المخطط الحسيني هو أن يتمّ هذا الهدف ـ وهو إقامة العدالة أو دولة العدالة أو الدولة المعصومة ـ على يده، أم أراد أن يكون هو المفتاح لهذا المشروع ولهذا الخط؟ فكما أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام كانت مهمتهما التأسيس للدولة الإسلامية؛ إذ أتمّ الإمام علي عليه السلام في عصره التشريعات المتعلّقة بالدولة الإسلامية من حيث السلطة القضائية والتنفيذية ووضع القوانين الاجتماعية والاقتصادية للدولة الإسلامية ـ كما يظهر من عهده لمالك الأشتر رضي الله تعالى عنه ـ وأصبح الدور الآخر على عاتق الإمام الحسين عليه السلام ومن بعده الأئمّة عليهم السلام، وهذا الدور هو الشروع في حركة تطبيق تلك التشريعات والقوانين على أرض الدولة الإسلامية، فالحسين عليه السلام أراد أن يكون هو المفتاح للشروع بهذا الدور، لا أن يتمّ هذا الأمر على يده في عصره وفي زمانه، بل هو المفتاح لجميع ما حصل من ثورات وحركات منذ يومه عليه السلام إلى ظهور الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، فجميع ذلك مراحل لنفس حركة الإمام الحسين عليه السلام، وإنّ دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف ما هي إلّا امتداد لهذا المشروع الحسيني العظيم ومرحلة من مراحله.

وبالتالي؛ فلا مانع من أن يكون دور الحسين عليه السلام هو وضع الإطار العام لهذه الحركة العظيمة، وأن تكون شهادته عليه السلام بذرة لبداية وانطلاقة هذا المشروع إلى ظهور المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف، وليس ذلك تحجيماً لدور الحسين عليه السلام ومقامه؛ فإنّ حركة كل إمام معصوم هي بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، فعندما يقال: إنّ الدور الحسني كان دور الصلح وحقن الدماء والتمهيد لثورة الحسين عليه السلام، فإنّ هذا ليس تحجيماً لدور الحسن عليه السلام؛ وإنّما دوره ومسؤوليته في زمانه بحجم الظروف الموضوعية التي عاش فيها، وكذلك دور الصادِقَين عليهما السلام، ودور الكاظم عليه السلام، ودور الرضا عليه السلام، ودور الإمامين العسكريين عليهما السلام الذي اقتصر على إجابة المسائل والاستفتاءات وصرف الحقوق من خلال وكلائهم؛ فإنّ الظروف هي التي جعلت الدور بهذا الإطار، وليس ذلك تحجيماً لدورهم عليهم السلام.

 فكل تلك الأسئلة بحاجة إلى دراسة فقهية من أجل معرفة أنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هل هو تطبيق لتكليف خاص أو لتكليف عام، وما هي حقيقة ذلك التكليف؟

(يتبقى جهتين في الجزء الثاني إن شاء الله)

 

الكاتب: سماحة السيد منير الخبار

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد السادس

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________________

 

[1]     آل عمران: آية33ـ34.

[2]     الحديد: آية26.

[3]     البقرة: آية129.

[4]     ابن قولويه، محمد بن جعفر، كامل الزيارات: ص375.

[5]     الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص721.

[6]     خصوصاً مع الأخذ بروايات الرجعة وأنّ الإمام الحسين عليه السلام كما هو فاتح لهذه الثورة فهو خاتم أيضاً، حيث إنّه في الرجعة يكون له الحكم، ويكون قيام الدولة المباركة أيضاً على يده، كما هو على يد حفيده الإمام المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف.

[7]     ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص21.

[8]     كما في بعض كلمات المحلّلين لحركة الإمام الحسين عليه السلام: أنّه حيث ضويق في المدينة خرج إلى مكة، وحيث ضويق في مكة خرج منها، وحيث ضويق في حركته إلى الكوفة دافع عن نفسه وهو في طريقه إلى الكوفة، فانتهى هذا الدفاع بمقتله وشهادته العظيمة وبتلك الفاجعة الكبرى.

[9]     المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[10]    ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص17.

[11]    المصدر السابق: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.

[12]    المنافقون: آية8.

[13]    الحديد: آية25.