الإصلاح في قراءة الموروث الحسينيّ

الإصلاح في قراءة الموروث الحسينيّ قصة الطيور والصبيّة اليهودية

قد لا يتفاعل الفقيه أو الباحث في مجال الأصول والفكر والعقيدة مع بعض النصوص والمرويّات في التراث الديني، إما لضعف طرقها وأسانيدها، وإما من جهة الاعتقاد بعدم حجّيّة أخبار الآحاد الظنيّة في مجال العقيدة وأصول الدين، وإما لأسباب ودواعٍ أُخرى، قد ترتبط بالمضامين أو المعارضات أو مقاصد الشريعة أو نحو ذلك.

ولكن من الخطأ أن نُسقط ذلك التراث عن الاعتبار والفائدة في كافّة المجالات والميادين الأُخرى؛ إذ قد ينتفع كاتب التاريخ، والباحث في السيرة والتراجم والأنساب ونحو ذلك من زاويةٍ صوّرها له ذلك التراث ـ الضعيف سنداً ـ تتناغم وتنسجم تماماً مع صورة كبيرة، أو مشهد خطير، أو مقطوعة مهمّة ومفصليّة في سيرة شخص أو تاريخ أمّة أو بلد أو حكومة.

كما قد يتفاعل ـ أيضاً مع ذلك التراث ـ الراويةُ للقصص والحكايات، أو المؤلِّف في مجال التمثيل وكتابة السيناريو والحوار، وصياغة الأفلام السينمائية والأعمال الدراميّة، وكل ما يرتبط بالفن والإعلام بصورة عامّة.

وهذا ما نريد إدخاله بالحسبان في دائرة قراءة التراث الحسينيّ، حيث تعترضنا في هذا المجال جملة من النصوص والروايات، قد لا تكون مسندة، أو قد يكون طريقها في نظر البعض ضعيفاً، وقد يتحامل عليها ذلك البعض، ويشنّ هجوماً كاسحاً على مَن يتناقل تلك النصوص أو يتعاطاها أو يتعامل معها بجديّة وموضوعيّة، غافلاً عمّا تحمله من صور رائعة لا يستذوقها إلا أهل الفن والاختصاص في المجالات المشار إليها، حيث ينحصـر فكر المحقّق والفقيه بالإثبات الواقعي لتفاصيل المروي بالكامل، بينما يجول ذهن الراوي للقصّة والحكاية في أفق واسع من الخيال المملوء بالتفاصيل التي ربما لا تكون واقعيّة؛ ليسلّط الضوء على فكرة واحدة واقعيّة محدّدة، يهتمّ بها وبإيصالها إلى الآخرين، ولا يهمّه الإخبار الواقعي عن تلك التفاصيل، كما قد لا يهمّه الإخبار بالمباشرة عن تلك الفكرة، وإنما يسرح خياله في تفاصيل ربما يؤلّف أكثرها من عنده؛ ليوصل تلك الفكرة المهمّة ولو بالمدلول الالتزامي أو الكنائي، فيقوم بتأليف قصّة مُفصّلة؛ ليتلقّى المقابل من خلالها فكرة العدالة أو الظلم، أو التضحّية أو الحريّة أو غير ذلك، وهو صادق ومُصيب فيما يُوصله للمتلقّي من حقيقة وفكرة ذات قيمة خُلقية أو اجتماعيّة أو دينيّة، في ضمن القصّة التي يؤلّفها ويرويها، وإن أمكن أن تكون خياليّة في كثير من جزئيّاتها وتفاصيلها، ولكنّها مع ذلك ترسم بمجموعها صورة متكاملة لإيصال تلك الحقيقة والفكرة القيميّة، وبصدق هذه الفكرة وواقعيّتها يكون الراوي صادقاً ومصيباً للحقيقة والواقع، الذي تضمّنته القصّة والرواية.

وتطبيقاً لهذه الرؤية والنظرة في تقييم النصّ الديني بآفاقه الواسعة، نحاول أن نتناول ـ ببيان موجز ـ واحدة من مرويات التراث الحسيني، وهي رواية منقطعة وغير مسندة ولا معتبرة ـ بحسب مقاييس أهل التحقيق في علمي الدراية والرجال ـ ولكنها مع ذلك تتناغم كثيراً مع الأسلوب القصصي للأطفال، وتحمل صوراً رائعة ومتناسقة لحكاية أحداث عاشوراء، وإيصالها للصغار بأسلوب القصّة الذي يتماشى مع سطحهم الذهني وآفاقهم الفكريّة. وهي تكشف ـ في فرض عدم واقعيّة بعض تفاصيلها ـ عن التقدّم والتطوّر القصصي فيما يرتبط بالنهضة الحسينيّة في الأزمنة الماضية، والذي نفتقده كثيراً في وقتنا الحاضر، بل قد يتهجّم عليه البعض، بدعاوى الكذب والخرافة والأسطورة وعدم الواقعيّة!!

وتدور حكايتنا بين الطيور والأطفال، لتروي لنا حقيقة ما جرى على الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء، ببيان حزين يُلفت أنظار الصغار ويلامس ضمائرهم ونفوسهم البريئة.

وأذكر أنني قرأت هذه القصّة ـ التي سأرويها لكم ـ على مسامع أبنائي الصغار، وكانوا يستمعون بتركيز وإصغاء كاملين، وجاءني علي ـ ابن الأربعة ربيعاًـ في ليلة لاحقة، يطلب منّي أن أحكي له قصّة تماثلها، فتمنّيت حينها أن يمتلئ تراثنا الحسيني والديني بمثل هذه القصص والحكايات التي ترمي بأسلوبها الجذّاب إلى إيصال الحقائق والوقائع الثابتة بالقطع واليقين.

أعود إلى روايتنا التي تدور أحداثها حول أفضع فاجعة شهدها التاريخ الإسلامي والإنساني بصورة عامّة، حيث ترسم لنا الصورة والهيئة التي بقي عليها الحسين عليه السلام بعد استشهاده، وأنه قد بقي صريعاً ودمه على الأرض مسفوحاً.

وأبدأ بنقل القصّة الكاملة، ثم أنتقل إلى توصيف أسلوبها، وتحديد الحقائق التي تضمّنتها، واستهدفت إيصالها إلى الصغار وغيرهم.

قال المجلسي في البحار: >وروي من طريق أهل البيت عليهم السلام أنه لما استُشهد الحسين عليه السلام، بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائر أبيض قد أتى وتمسّح بدمه، وجاء والدم يقطر منه، فرأى طيوراً تحت الظلال، على الغصون والأشجار، وكل منهم يذكر الحَبّ والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدم: يا ويلكم! أتشتغلون بالملاهي وذكْر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ، ملقًى على الرمضاء، ظامئ مذبوح ودمه مسفوح؟!

فعادت الطيور كل منهم قاصداً كربلاء، فرأوا سيدنا الحسين عليه السلام ملقًى في الأرض، جثّة بلا رأس ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض قد هشّمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره وأزهر الجوّ من أزهاره.

فلمّا رأته الطيور؛ تصايحن وأعلنّ بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كل واحد منهم إلى ناحية يُعلِم أهلها عن قتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فمن القضاء والقدر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيدنا رسول الله، يُعلن بالنداء: ألا قُتل الحسين بكربلاء! ألا ذُبح الحسين بكربلاء!

فاجتمعت الطيور عليه، وهم يبكون عليه وينوحون، فلمّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح، وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير لم يعلموا ما الخبر، حتى انقضت مدّة من الزمان، وجاء خبر مقتل الحسين؛ علموا أن ذلك الطير كان يخبر رسول الله بقتل ابن فاطمة البتول وقرّة عين الرسول.

وقد نُقل أنه في ذلك اليوم الذي جاء فيه الطير إلى المدينة، كان في المدينة رجل يهودي وله بنت عمياء زمناء طرشاء[1] مشلولة، والجُذام قد أحاط ببدنها، فجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه، ووقع على شجرة  يبكي طول ليلته، وكان اليهودي قد أخرج ابنته تلك المريضة إلى خارج المدينة إلى بستان، وتركها في البستان الذي جاء الطير ووقع فيه، فمن القضاء والقدر أن تلك الليلة عرض لليهودي عارض، فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان التي فيها ابنته المعلولة، والبنت لما نظرت أباها لم يأتها تلك الليلة، لم يأتها نوم لوحدتها؛ لأن أباها كان يحدّثها ويسلّيها حتى تنام.

فسمعت عند السحر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلّب على وجه الأرض إلى أن صارت تحت الشجرة التي عليها الطير، فصارت كلما حنّ ذلك الطير تجاوبه من قلب محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع قطرة من الدم، فوقعت على عينها ففُتحت، ثم قطرة أُخرى على عينها الأُخرى فبرأت، ثم قطرة على يديها فعوفيت، ثم رجليها فبرأت، وعادت كلما قطرت قطرة من الدم تُلطّخ به جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين عليه السلام.

فلما أصبحت أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتاً تدور، ولم يعلم أنها ابنته، فسألها: أنه كان لي في البستان ابنة عليلة، لم تقدر أن تتحرك؟ فقالت ابنته: والله، أنا ابنتك. فلما سمع كلامها وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير، فرآه واكراً على الشجرة يئن من قلب حزينٍ محترقٍ؛ ممّا رأى ما فُعل بالحسين عليه السلام.

فقال له اليهودي: أقسمتُ عليك بالذي خلقك أيها الطير أن تكلّمني بقدرة الله تعالى. فنطق الطير مستعبراً، ثم قال: إني كنت واكراً على بعض الأشجار مع جملة الطيور عند الظهيرة، وإذا بطيرٍ ساقطٍ علينا، وهو يقول: أيها الطيور، تأكلون وتتنعّمون، والحسين في أرض كربلاء، في هذا الحرّ على الرمضاء، طريحاً ظامئاً، والنحر دامٍ، ورأسه مقطوع على الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا، حفاة عرايا؟! فلما سمعن بذلك تطايرن إلى كربلاء، فرأيناه في ذلك الوادي طريحاً، الغسل من دمه، والكفن الرمل السافي عليه، فوقعنا كلّنا عليه ننوح ونتمرّغ بدمه الشريف، وكان كل منَّا طار إلى ناحية، فوقعت أنا في هذا المكان.

فلما سمع اليهودي ذلك تعجّب، وقال: لو لم يكن الحسين ذا قدر رفيع عند الله ما كان دمه شفاءً من كل داء. ثم أسلم اليهودي، وأسلمت البنت، وأسلم خمسمائة من قومهفهاتيك أجسادهم مجرّدة، وثيابهم مرمّلة، وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوّارهم العقبانهذا الحسين بالعرا، مرمّل بالدما، مقطّع الأعضاوا محمداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، صريع بكربلاء، مقطّع الأعضاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي مَن معسكره نهباً... أنا الفداء للعطشان حتى قضى، أنا الفداء لمَن شيبته تقطر بالدمافما نسيت من الأشياء، لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرّت بأخيها الحسين صريعاً، وهي تقول: يا محمداه، يا محمّداه، صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعرا، مرمّل بالدما، مقطع الأعضا، يا محمّداه! وبناتك سبايا، وذريّتك مقتّلة، تسفي عليها الصبا. قال: فأبكت ـ والله ـ كلّ عدوّ وصديقوأقبل القوم حتى أحدقوا بالخيمة، وأقبل الشمر بن ذي الجوشن ـ لعنه الله ـ حتى وقف قريباً من خيمة النساء، فقال لقومه: ادخلوا فاسلبوا بزيّهنّ. قال: فدخل القوم، فأخذوا كلّ ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرط كان في أُذن أُم كلثوم ـ رضي الله عنها ـ فأخذوه وخرموا أُذنها، وخرج القوم من الخيمة وأضرموها بالنار.

قال: وساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه وآله من كربلاء كما تُساق الأسارىثم أُخرج النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلةونساؤه سبايا، حفاة عراياسمعت الجنّ تنوح على الحسين بن عليرواه الطبراني ورجاله رجال الصحيحسمعت الجنّ يبكين على الحسينسمعت أُم سلمة قالت: سمعت الجن يبكين على الحسين، وسمعت الجن تنوح على الحسينورواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أُمّه، عن أُم سلمة، قالت: سمعت الجن ينحن على الحسين، وهنّ يقلن:

أيها القاتلون جهلاً حسيناً

                        أبشـروا بالعذاب والتنكيل

 

كل أهل السماء يدعو عليكم

                        ونبي ومرسل وقبيل

 

قد لعنتم على لسان ابن داود

                        وموسى وصاحب الإنجيل

 

 

وقد روي من طرق أُخرى عن أُم سلمة بشعر غير هذا، فالله أعلمبكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين بن علي عليهما السلام، حتى ذرفت دموعهابأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة، والله، كأني أنظر إلى الوحوش مادّةً أعناقها على قبره، من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح، فإذا كان ذلك فإياكم والجفاءإن أبا عبد الله الحسين بن علي عليه السلام لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهنّ، ومَن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنار، وما خلق ربّنا، ما يُرى وما لا يُرى