يُعد اختيار الشريك من أهمّ القرارات المصيرية التي يرسم من خلالها الإنسان شكل مستقبله واستقراره النفسي والاجتماعي. وتبرز أهمية هذا القرار حين يرتبط ببناء الأسرة، تلك النواة التي تقوم عليها بنية المجتمع وتستمد منها الأجيال قيمها ومعاييرها. وفي وسط هذا المشهد تتقدم المرأة بوصفها ركنًا أساسًا في صناعة القرار الأسري، لا بوصفها طرفًا تابعًا، بل باعتبارها شريكًا فاعلًا يمتلك القدرة على التمييز، والرؤية، والاختيار الواعي.
لقد أولى الإسلام للمرأة أهمية كبيرة في هذا الجانب، فجعل الرضى والاختيار شرطًا لصحة العقد. فالزواج أمر عظيم، ورابطة مقدّسة في الإسلام، لا ينبغي أن نتعامل معه معاملة اللامبالاة، وعدم الاكتراث، فليس من الصحيح أن يُقدِم المسلم على هذه الخطوة من دون الاختيار الصحيح للشريك إذ إنّ ذلك قد يؤدّي إلى حصول الخلافات والنزاعات بين الزوجين في المستقبل، وبالتالي لا تستمرّ هذه العلاقة الزوجية، أو أنَّها تستمرّ بحالة من الفتور بحيث لا يتأدَّى الغرض المرجوّ منها.
حيث قال النبي صل الله عليه واله وسلم {ما بُني بناءٌ في الإسلام أحبُّ إلى الله تعالى من التزويج}[1]
من هنا نريد أن نركّز في هذه المدونة على مسؤولية مهمّة تقع على عاتق الرجل والمرأة قبل الزواج، وهي مسؤولية الفحص الدقيق عن صفات الشريك المناسب، وعدم التسرّع في اتخاذ قرار الزواج، ولكن بما أنه قد يُتوهّم عدم مسؤولية المرأة تجاه المشاكل التي قد تعتريها من قِبَل الزوج مستقبلاً فلا بأس أن نقتصر في الحديث على مسؤولية المرأة تجاه هذا الموضوع؛ إذ إنّ قرار الموافقة على الزواج يبقى بيدها، فلا بدّ أن تستشعر هذه المسؤولية.
فالكلام يقع في عدّة نقاط:
النقطة الأولى: ماهي صفات الرجل المطلوبة في الزواج؟
من المهمّ قبل أن توافق المرأة على عقد النكاح أن يتمّ التحقّق من الرجل الذي يتقدّم للمرأة طالباً الزواج منها؛ لأنّ هذا التحقّق يساهم بشكل كبير في حفظ وصيانة المرأة والأسرة، فقد ورد عن الإمام الصَّادِقِ (ع)عن آبَائه (عليهم السلام) قال: قَالَ النَّبِيُّ: صل الله عليه واله وسلم {إِنَّمَا النِّكَاحُ رِقٌّ، فَإِذَا أَنْكَحَ أَحَدُكُمْ وَلِيدَةً فَقَدْ أَرَقَّهَا، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ لِمَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ}[2]
ومن هنا لا بأس أن نذكر أهمّ الصفات التي ينبغي التركيز عليها والتحقّق منها في الرجل قبل قبوله كزوج، مستفيدين في ذلك من كلام أهل البيت عليهم السلام.
الصفة الأولى: أن يكون كُفْأً
الكُفءُ في اللغة يعني المثْل في الحسب والمال والحرب، وفي التزويج يقال: الرجل كُفءُ المرأة.[3] وهو أَن يكون الزوج مُساوياً للمرأَة في حَسَبِها ودِينِها ونَسَبِها وبَيْتِها وغير ذلك[4].
فمن المهمّ جدّاً أن نتحقّق حول هذه الصفة، فهل هذا الرجل كفءٌ لهذه المرأة؟ فإنّ هذه الصفة إذا توفّرت فإنّها تذيّل العديد من العقبات والمشاكل الزوجية التي قد تحصل في حال عدم توفّر هذه الصفة، ولذا جاءت الروايات العديدة التي تحثّ على عدم المماطلة والتأخير عند مجيء الرجل الكفوء.
فقد ورد عن رسول الله صل الله عليه واله وسلم {أَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَانْكِحُوا فِيهِمْ وَاخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ}[5]
ولهذه الكفاءة عدّة أنحاء، لا بأس أن نتطرّق إلى بعضها، ونرى ما الذي ركّز عليه الشارع المقدّس:
النحو الأول: الكفاءة الإيمانية
الإسلام جعل الإيمان أحد معايير الكفاءة بين الرجل والمرأة، والمقصود بالإيمان هو الاعتقاد القلبي بالله تعالى وصفاته، وبالنبوّة والإمامة والمعاد، وغيرها من الاعتقادات الحقّة، فالإيمان أعزّ ما يملك الإنسان المؤمن، فلذا جُعِل معياراً للكفاءة، حيث جاء في الروايات أنّ الرجل الكفوء هو الرجل المؤمن، فقد ورد أنّ رجلاً قام إلى رسول الله صل الله عليه واله وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ نُزَوِّجُ؟ فَقَالَ(الأَكْفَاءَ) فَقَالَ: وَمَنِ الأَكْفَاءُ؟ فَقَالَ {الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ}[6] .
وورد في قصة تزويج جويبر من الذلفاء بنت زياد بن لبيد أنّ النبي صل الله عليه واله وسلم قال لزياد {يَا زِيَادُ، جُوَيْبِرٌ مُؤْمِنٌ، وَالْمُؤْمِنُ كُفْوُ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْمُسْلِمُ كُفْوُ الْمُسْلِمَةِ، فَزَوِّجْهُ يَا زِيَادُ وَلا تَرْغَبْ عَنْهُ}[7]
النحو الثاني: الكفاءة المالية
الإسلام لم يركّز في مسألة قبول الزوج على العامل المالي، بل حثّ على التزويج وإن كان الرجل فقيراً، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في شأن التزويج أنه قال {ِإنْ خَطَبَ إِلَيْكَ رَجُلٌ رَضِيتَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجْهُ، وَلا يَمْنَعْكَ فَقْرُهُ وَفَاقَتُهُ،} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}[8] وَقَالَ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ[9]}[10] .
والآية إخبار من اللَّه تعالى الذي وسعت قدرته كل شيء وهو عالم بكل شيء، إنه عز وجل يمنَّ بفضله وكرمه على أولئك الذين يقدمون على الزواج، وبالتالي فالحالة المادية للرجل قبل الزواج ليست هي الحالة النهائية، بل يتأمل أن يوفّق بعد الزواج، كما تفيد هذه الآية الكريمة.
فليس من الصحيح أن يتمّ التركيز من الناس على الجانب المالي عند الرجل، والجانب الوظيفي، وغير ذلك، ويهملون جانب التديّن الذي ركّز عليه الشارع المقدّس كثيراً.
نعم، هذا لا يعني أنّ الكفاءة المالية ليست عاملاً مهمّاً في جلب الاستقرار في الحياة الزوجية؛
إذ إنه قد ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ {الْكُفْوُ أَنْ يَكُونَ عَفِيفاً وَعِنْدَهُ يَسَارٌ}[11]
أي أن يكون ميسور الحال بقدر ما يقوم بأمرها والإنفاق عليها لا أكثر من ذلك، فالعامل المالي مهم، ولكن لا بحيث يكون هو الدافع الأساسي للزواج.
النحو الثالث: الكفاءة في النسب
الإسلام جعل المعيار في التفاضل هو التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[12]
فليس المعيار في التفاضل هو النسب والمال وما شابه ذلك، بل هو أمر مرجوح، وهذا ما ورد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَا عُقْبَةُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَسَدِيُّ، وَأَنَا فِي الْحَسَبِ الضَّخْمِ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَقَالَ((مَا تَمُنُّ عَلَيْنَا بِحَسَبِكَ، إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ بِالْإِيمَانِ مَنْ كَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُ وَضِيعاً إِذَا كَانَ مُؤْمِناً، وَوَضَعَ بِالْكُفْرِ مَنْ كَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَه شَرِيفاً إِذَا كَانَ كَافِراً، فَلَيْسَ لأَحَدٍ فَضْلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى))[13]
الصفة الثانية: التديّن والخُلُق الحسن
الرجل المتديّن يخشى الله تعالى، ولا يظلم زوجته، وكذلك صاحب الأخلاق الحسنة لا تصدر منه الأفعال القبيحة، وبالتالي يساهم هذا بشكل كبير في صيانة المرأة.
فتدين الرجل من أول الشروط التي ينبغي النظر فيها من قبل المرأة، وهذا ما أشارت له الرواية، فقد روي أنه جاء رجل إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام يستشيره في تزويج ابنته؟ فقال عليه السلام ((زوجها من رجل تقي، فإنه إن أحبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها))[14]
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه واله وسلم ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَنِيّاً فِي نَسَبِهِ، قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ،)) {إِلّٰا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ}[15]
وعندما نتحدث عن التدين فمن البديهي أن لا يكون من أهل الخمر والسكر، فقد أكدت الكثير من الروايات أن لا يزوج الرجل ابنته من شارب للخمر، كالرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شرب الخمر بعدما حرمها الله فليس بأهلٍ أن يزوج إذا خطب))[16]
وعلى المرأة أن تلتفت إلى خطورة هذا الزواج، لأن تعليق الآمال على شارب الخمر أمر لا طائل منه، فقد حذرت الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام أشد التحذير ((إياك أن تزوج شارب الخمر، فإن زوجته فكأنما قدت إلى الزنا ))[17] فالفسق وسوء الخلق من أعظم الآفات في الحياة الزوجية، بل قد تصبح الحياة الزوجية أشبه بالجحيم عند المرأة، وهو من أهم العوامل المؤدّية إلى انهيار الأسرة وتشتّتها، ومن هنا تبرز أهمية التحقّق من توفّر صفة حسن الخلق قبل القبول بالرجل. وهذا ما أشار له الإمام الرضا عليه السلام حينما كتب إليه الحسين بن بشار يسأله عن ذلك، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام): أَنَّ لِي قَرَابَةً قَدْ خَطَبَ إِلَيَّ وَفِي خُلُقِهِ شيء. فَقَالَ: عليه السلام ((لا تُزَوِّجْهُ إِنْ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ))[18]
الصفة الثالثة: المسؤولية وحُسن التدبير
إنّ مسؤولية إدارة الأسرة تقع على عاتق الرجل بشكل أساس، فلا بدّ أن يكون عند الزوج حسّ المسؤولية، وأن يكون مؤهّلاً لتحمّل تبعات الزواج، وأن يكون متوفّراً على أساسيات الإدارة اللازمة لا أقل، وأن يُحسن تدبير شؤون الأسرة ومعاشها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام ((آفة المعاش سوء التّدبير))[19]
وعنه عليه السلام ((إذا أراد اللّه بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التّدبير، وجنّبه سوء التّدبير والإسراف))[20]
هذه هي أهم الصفات الواردة في الروايات الشريفة، ومن هنا ينبغي التأكيد على أنّ المرأة لا ينبغي أن تُسيطر عواطفها ومشاعرها على عقلها، بحيث تتعلّق بذلك الرجل الفاقد للصفات المؤهّلة له للزواج، ومن ثم تضغط على وليّها من أجل أن يأذن لها بالزواج من هذا الرجل، وبالتالي تقع في مشاكل لا تحصى مع هذا الرجل فتندم وتتأسّف. إذاً، المرأة تتحمّل المسؤولية الكبيرة في مسألة اختيار الزوج، وهي المالكة لقرارها، فينبغي أن تحمل هذه المسؤولية على محمل الجدّ، وأن لا تتهاون فيها؛ حتى تكون في طريق تحصيل الوقاية من المشاكل المستقبلية.
الهوامش:-----
[1] -الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص383.
[2] -المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج100، ص371.
[3] -الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج5، ص414.
[4] -ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج1، ص139.
[5] -الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص48.
[6] -الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص61.
[7] -الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص68.
[8] - النساء، اية 130
[9] - النور، اية32
[10] - منسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فقه الرضا، ص237.
[11] - المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار، ج100، ص372.
[12] -الحجرات:13
[13] -الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج4، ص19.
[14] -- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1182.
[15] -الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، ج20، ص78.
[16] - مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص204.
[17] -ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج2، ص1183.
[18] -الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج11، ص300.
[19] -الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، ص280.
[20] - الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، ص291.

اترك تعليق