إن مبدأ الخلافة العامة الذي نادى به الإسلام يؤمن بأن الله تعالى هو المالك الوحيد للكون وكل ما فيه من ثروات، وأنه قد استخلف الإنسان على ما يملك، وقد استحق الإنسان شرف خلافة الله في الأرض، لأن الاستخلاف يعني الإحساس بالمسؤولية وشرف الأمانة، والإنسان هو الكائن الأرضي المتميز بالإحساس بالمسؤولية، ومن هنا كان من الطبيعي نتيجة للاستخلاف أن يتصرف الإنسان في الأمانة التي يتحملها وفقًا لأوامر الله الذي استخلفه على الكون وائتمنه على كل ما يحويه من خيرات وطيبات. وأحكام الثروة في الإسلام تمثل جانبًا من أوامر الله تعالى التي تحدد أمانة الإنسان وفقًا لدرجة التزامه بها وتطبيقه لها.
غير أن هذه الأحكام تعطى إسلاميًا من خلال صورتين: إحداهما - الصورة الكاملة، وهي: الصورة التشريعية التي تعطى إسلاميًا في حالة مجتمع كامل يراد بناء وجوده على أساس الإسلام وإقامة اقتصاده وخلافته في الأرض على ضوء شريعة السماء.
الأخرى - الصورة المحدودة، وهي: الصورة التشريعية التي تعطى إسلاميًا في حالة فرد متدين يُعنى شخصيًا بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الآخرين على أساس الإسلام غير أنه يعيش ضمن مجتمع لا يتبنى الإسلام نظامًا في الحياة بل يسير وفق أنظمة اجتماعية وإيديولوجيات عقائدية أُخرى.
ويتكفل الإسلام في الصورة الكاملة قيادة الحياة وتنظيمها ومعالجة المسائل الاقتصادية ضمن أطره الحية؛ ذلك أن الاقتصاد الإسلامي تمثله أحكام الإسلام في الثروة وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر:
الأول - العناصر الثابتة: وهي الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة فيما يتصل بالحياة الاقتصادية.
الثاني - العناصر المتحركة: وهي العناصر التي تُستمد من العناصر الثابتة.
ففي العناصر الثابتة ما يقوم بدور مؤشرات عامة تُعتمد كأسس لتحديد العناصر المتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة، ولا يستكمل الاقتصاد الإسلامي صورته الكاملة إلا باندماج العناصر المتحركة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد وأهداف مشتركة.
وعملية استنباط العناصر المتحركة من المؤشرات الإسلامية العامة تتطلب ما يلي:
أولًا: منهجًا إسلاميًا واعيًا للعناصر الثابتة وإدراكاً معمقاً لمؤشراتها ودلالاتها العامة.
ثانيًا: استيعابًا شاملًا لطبيعة المرحلة وشروطها الاقتصادية، ودراسة دقيقة للأهداف التي تحددها المؤشرات العامة وللأساليب التي تتكفل بتحقيقها.
ثالثًا: فهمًا فقهيًا قانونيًا لحدود صلاحيات الحاكم الشرعي (ولي الأمر) يوصل إلى صيغة تشريعية تجسد تلك العناصر المتحركة في إطار صلاحيات الحاكم الشرعي وحدوده ولايته الممنوحة له.
ويمكن تلخيص الخطوط العامة للمؤشرات التي تشكل أساسًا في الصورة الكاملة للاقتصاد الإسلامي فيما يلي:
الأول: أن تتواجد في الشريعة أحكام تتجه نحو هدف مشترك على نحو يبدو اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف.
ومثال ذلك: الأحكام التي تتجه إلى استئصال الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل، ورفض الاستثمار الرأسمالي أي تنمية ملكية المال بالمال وحده، وهذا الاتجاه يشكل مؤشرًا ثابتًا وأساسًا للعناصر المتحركة في اقتصاد المجتمع الإسلامي وعلى الحاكم الشرعي أن يسير على هذا الاتجاه ضمن صيغ تشريعية تتسع لها صلاحياته ولا تصطدم مع عنصر ثابت في التشريع.
الثاني: إذا نصت الشريعة على حكم ونصت على الهدف منه، كان الهدف علامة هادية لملء الجانب المتحرك من صورة الاقتصاد الإسلامي بصيغ تشريعية تضمن تحقيقه على أن تدخل هذه الصيغ ضمن صلاحيات الحاكم الشرعي الذي يجتهد ويقدر ما يتطلبه تحقيق ذلك الهدف عمليًا من صيغ تشريعية على ضوء ظروف المجتمع وشروطه الاقتصادية والاجتماعية.
ومثال ذلك: نصوص الزكاة التي صرحت بأن الزكاة ليست لسد حاجة الفقير الضرورية فحسب بل لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالناس في مستواه المعيشي، أي: لا بد من توفير مستوى من المعيشة للفقير يلحقه بالمستوى العام للمعيشة الذي يتمتع به غير الفقراء في المجتمع، وهذا معنى أن توفير مستوى معيشي موحد أو متقارب لكل أفراد المجتمع هدف إسلامي لا بد للحاكم الشرعي من السعي في سبيل تحقيقه.
الثالث: تأكيد النصوص الشرعية على قيم معينة وتبنيها كالمساواة والأخوة والعدالة والقسط ونحو ذلك تشكل أساسًا لاستيحاء صيغ تشريعية متحركة وفقًا للمستجدات والمتغيرات تكفل تحقيق تلك القيم وفقًا لصلاحيات الحاكم الشرعي في ملء منطقة الفراغ.
الرابع: أن النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة (عليهم السلام) لهم شخصيتان، الأولى بوصفهم مبلغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكامًا وقادة للمجتمع الإسلامي يضعون العناصر المتحركة التي يستوحونها من المؤشرات العامة للإسلام والروح الاجتماعية والإنسانية للشريعة المقدسة، وعلى هذا الأساس كان النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة (عليهم السلام) يمارسون وضع العناصر المتحركة في مختلف شؤون الحياة الاقتصادية وغيرها وهذه العناصر - بحكم صدورها عن صاحب الرسالة أو ورثته المعصومين - تحمل بدون شك الروح العامة للاقتصاد الإسلامي وتعبر عن تطلعاته في واقع الحياة ومن هنا كانت ممارسة القائد المعصوم في هذا المجال ذات دلالة ثابتة وعلى الحاكم الشرعي أن يستفيد منها مؤشرًا إسلاميًا بقدر ما لا يكون مشدودًا إلى طبيعة المرحلة التي رافقتها، ويحدد على أساس هذا المؤشر العناصر المتحركة.
الخامس: أن الشريعة وضعت في نصوصها العامة وعناصرها الثابتة أهدافًا لولي الأمر وكلفته بتحقيقها أو السعي من أجل الاقتراب نحوها بقدر الإمكان، وهذه الأهداف تشكل أساسًا لرسم السياسة الاقتصادية وصياغة العناصر المتحركة في الاقتصاد الإسلامي بالصورة التي تحقق تلك الأهداف أو تجعل المسيرة الاجتماعية متجهة بأقصى قدر ممكن من السرعة نحو تحقيقها.
فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (أن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا) [وسائل الشيعة، أبواب المستحقين للزكاة، الباب 28، ح3].
وكلمة (من عنده) تدل على أن المسؤولية في هذا المجال متجهة نحو ولي الأمر بكل إمكاناته لا نحو قلم الزكاة خاصة من أقلام بيت المال، فهناك إذن هدف ثابت يجب على ولي الأمر تحقيقه أو السعي في هذا السبيل بما أوتي من إمكانات وهو توفير حد أدنى يحقق الغنى في مستوى المعيشة لكل أفراد المجتمع الإسلامي، وهذا مؤشر يشكل جزءًا من القاعدة الثابتة التي يقوم عليها البناء العلوي للعناصر المتحركة من الاقتصاد الإسلامي فيما إذا لم تفِ العناصر الثابتة بتحقيق الهدف المذكور.
إن الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلامي هي الصورة التي تبرز فيها العناصر المتحركة إلى جانب العناصر الثابتة لتتعاون معًا لتحقيق العدل الإسلامي على الأرض وفقًا لما أراده الله سبحانه وتعالى، وهذا هو منهج الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلامي، وذكرت لكم قسمًا من العناصر الثابتة والأهداف الثابتة التي تشكل بدورها أساسًا للعناصر المتحركة ومؤشرًا لاتجاهاتها العامة وعلى ضوء هذا يمكننا أن نلخص عددًا من الخطوط المهمة التي تشتمل عليها الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلامي.
فالاقتصاد الإسلامي يؤمن بأن مصادر الثروة الطبيعية كلها لله تعالى وأن اكتساب حق خاص في الانتفاع بها لا يقوم إلا على أساس الجهد والعمل.
ويؤمن أيضًا بأن أي إنتاج بشري للثروة الطبيعية لا يعطي حقًا في الثروة المنتجة إلا للعامل المنتج نفسه، وليست الطبيعة أو وسائل الإنتاج إلا أدوات لخدمة الإنسان.
ويؤمن أيضًا بأن على الدولة أن تسعى في سبيل ربط الربح بالعمل والاستئصال التدريجي لألوان الربح التي لا تقوم على هذا الأساس وبقدر ما يتضاءل دور المخاطرة برأس المال في المشاريع والعوائد التجارية ينبغي أن يعمل للتقليص من الربح الذي يقوم على أساس رأسمالي بحت ويؤكد بالمقابل دور الربح الذي يقوم على أساس العمل.
ويؤمن أيضًا بأن عليها أن توفر مستوى معيشيًا موحدًا أو متقاربًا لكل أفراد المجتمع وذلك لقوة الحد المعقول من جانب والمنع من الإسراف وتحريمه من جانب آخر.
ويؤمن أيضًا بأن عليها الحفاظ على التوازن الاجتماعي بالحيلولة دون تركيز الأموال وعدم انتشارها.
وتتجه الدولة في ظل الصورة الكاملة للاقتصاد الإسلامي إلى إعادة النقد إلى دوره الطبيعي كأداة للتبادل لا كأداة لتنمية المال بالربا أو الادخار، وإعداد ضريبة على الادخار والتجميد وحذف ما يمكن حذفه من العمليات السوداء الطفيلية التي تتخلل بين إنتاج السلعة ووصولها إلى المستهلك، وتحديد الاحتكار أي كل عملية يستهدف منها إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها.
وتتجه الدولة أيضًا إلى تحويل دور النظام المصرفي من كونه وسيلة للتنمية الرأسمالية للمال إلى كونه وسيلة لإثراء الأمة ككل وتجميع أموالها المتفرقة في مصب واحد لإسهام أكبر عدد من المواطنين في عملية الادخار والتجميع واستثمار ما يدخر في مشاريع إنتاجية مفيدة تخطط لها الدولة على أساس قواعد المضاربة (المشركة) في الفقه الإسلامي بين العامل والمالك.
كما تلتزم الدولة أيضًا بتوفير العمل في القطاع العام لكل مواطن وبإعالة كل فرد غير قادر على العمل أو لم تتوفر له فرصة العمل وتقوم بجباية الزكاة لتوفير صندوق للضمان الاجتماعي كما أنها تخصص خمس عائدات النفط وغيره من الثروات المعدنية للضمان الاجتماعي وبناء دور سكني للمواطنين وفق تنظيم تضعه الدولة.
وتلتزم الدولة بالإنفاق من واردات القطاع العام على التعليم مجانًا وفي كل مراحله وعلى الخدمات الصحية مجانًا وبكل أشكالها على نحو يوفر لكل مواطن القدرة على الاستفادة من المجال التعليمي الصحي بدون مقابل وفقًا لنظام معين تقرره الدولة.
هذه صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
*انظر: كتاب الإسلام يقود الحياة للسيد محمد باقر الصدر (قدس).

اترك تعليق