الإمام الباقر (عليه السلام ) ومواقف كربلاء
وُلد الإمامُ أبو جعفرٍ محمدُ بن عليِّ بن الحسينِ الباقر(عليه السلام) في مدينةِ الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) سنةَ سبعٍ وخمسين من الهجرة في غُرَّةِ رجب، وقيل في الثالث مِن صفر، فيكونُ قد أدركَ من حياة جدِّه سيدِ الشهداء(عليه السلام) قرابةَ الأربعِ سنين، وقد أبصرتْ عيناهُ تفاصيلَ تلك الفاجعةِ الأليمة التي لم يكن لها مِن نظير في تاريخِ الرسالات، فبأمِّ عينيه الصغيرتين شاهدَ أعمامَه وبني عمومتَه مجزَّرين تنزفُ الدماءُ من جوانبِهم وأطرافِهم وتصعَدُ أرواحُهم شاكيةً إلى بارئها، وشاهدَ جدَّه المعظَّم صريعاً تتحلَّقُ حولَه الأوباش، ورأى الذُعرَ والخوفَ على محيَّا العلويَّات، وشاهدَ النارَ تلتهمُ المخيَّماتِ والعساكرَ تجوبُ أفنيتها تسلبُ ما يُتاحُ لها سلبُه مِن مَتاع، وقد امتلئتْ مسامعُه وجوانحُه من أنينِ الأطفال ونُدبةِ النساء، وكان فيمَن كابدَ ضراوةَ الظمأِ وحرارة الهجير، ومشقةَ الأسرِ من العراق إلى الشام، لذلك حفرتْ هذه المشاهدُ عميقاً في وجدانِه ومشاعرِه.
أحداث المدينة وانهيار النظام الاموي
عاش بعدها في كنَفِ والده زينِ العابدين (عليه السلام ) ما ينيفُ على الثلاثين سنة، عاصرَ فيها كُبرياتِ الأحداثِ المؤسِفة كاجتياح الجيشِ الأموي لمدينةِ الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) واستباحتِها ثلاثاً والقتلَ الذريعَ الذي وقعَ في الصحابةِ وأبناءِ الصحابة، والانتهاكَ غيرَ المسبوق لحرمة المسجد النبويِّ الشريف حتى راثتْ خيولُهم عند القبر المقدَّس، واصطبغتْ جدرانُ المسجدِ وأفنيتُه بدماء الناس، وعاثَ الجيشُ الأموي فساداً في طولِ المدينة وعَرضِها، ثم زحفَ إلى مكةَ المحرَّمة وحاصرَها، وضربَ الكعبةَ بالمنجنيق فهدمَ أطرافاً منها وأحرق أستارها(1).
وبعد الانهيار الأول للنظامِ الأُموي آلتِ الأمور إلى الزبيريِّين، فلم يكونوا أقلَّ وحشيةً وقسوةً واضطهاداً لأهل البيت (ع) وأتباعِهم من النظام الأُموي، وامتدَّ سلطانُهم لِما يقربُ من عشرِ سنينَ عِجاف قبل أنْ يُحاصِرَ الجيشُ الأمويُّ بقيادة الحجَّاجِ بنِ يوسفَ الثقفي مكةَ من جديد مدةً تزيدُ على الستة أشهر قطعَ فيها عن أهل مكةَ الإمدادَ والغِذاء حتى أضرَّت بهمُ المجاعة، ونصبَ المجانيقَ على جبل أبي قُبيس وسائرِ الجبالِ المشرفةِ على بيوتاتِ مكة ثم صار يَرجمُها بمقذوفات الضخور، فقُتل من ذلك خلْقٌ كثير واحترقت أستار الكعبة بمقذوفات المنجنيق وتصدِّع بنيانَها.
وبذلك تهيأَ له اجتياحُ البلدِ الحرام، فسفكَ فيها الدمَ الحرام، وجالت خيولُهم في المسجدِ الحرامِ يتعقَّبونَ العائذينَ به مِنَ الناس بأسلحتِهم وحِرابهِم يقتلونُهم صبراً ويصلبونَ جثامينَهم على الأعواد، فاستعادَ بذلك الحَجَّاجُ سلطانَ الأمويِّين على الحجاز، فكافئوه بأنْ أطلقوا يدَه عليها، فحكمَها بالسيفِ والنار قبل أنْ يتمَّ تعيينُه والياً مُطلقاً على العراقين(2).
النصُّ عليه ضمن الأئمة الاثني عشر (عليه السلام)
كلُّ هذه الأحداثِ الجِسام كان قد عاصرَها الإمامُ أبو جعفرٍ(عليه السلام ) وهو في كنَفِ والده الإمامِ زينِ العابدين (عليه السلام) وبعد رحيلِ والدِه شهيداً على يدِ الأُمويِّين سنةَ خمسٍ وتسعينَ(3) للهجرة نهضَ (عليه السلام) بأعباءِ الإمامةِ الإلهيَّة حيثُ هو الذي نصَّ عليه رسولُ الله (صلى الله عليه واله وسلم) ضمن الأئمةِ الاثني عشر الذين نصَّ على أسمائهم كما دلَّت على ذلك الأخبارُ المتواترة المأثورةُ عنه (صلى الله عليه واله وسلم ) وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)(4).
موروث الإمام الباقر (عليه السلام )
وامتازتِ المرحلةُ التي اطَّلع فيها الإمام أبو جعفر(عليه السلام) بمهام الإمامة بشيءٍ من الاستقرار السياسي، فاستثمرَ هذه الفرصةَ لبثِّ علومِ آل محمد (صلى الله عليه واله ) في الفقهِ والعقيدةِ وعلومِ القرآن والتفسيرِ والحديثِ والآثار والحِكمة وتصحيحِ ما أُتيحَ له تصحيحُه من تحريفٍ لأصولِ العقيدةِ والتفسيرِِ والسيرةِ النبويَّة وقِيَمِ الدينِ ومعالمِه، ومعالجةِ الشبهاتِ التي كان يُثيرُها المضلُّون ويعملُ على ترويجِها وتأصيلِها النظامُ الأموي، وقد جاء تراثُه غزيراً واسعاً متنوِّعاً، ما زال العلماء ينهلونَ منه، فما ينفدُ ولا ينضُب، فكان بحقٍّ كما وصفَه جدُّه النبيُّ الكريم (صلى الله عليه واله وسلم ) أنَّه باقرُ العلم، وأنَّه يبقرُ العلمَ بقرا كما ورد في المستفيضِ مِن الأخبار وفيها الصحاح عن الصحابيِّ الجليل جابرِ بن عبد الله الأنصاري(5).
فمِن ذلك ما أورده الشيخُ المفيدُ في الإرشاد عن جابر بن عبد الله في حديثٍ قال: قال لي رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): "يُوشَكُ أنْ تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين يُقال له: محمَّد، يبقرُ علمَ الدينِ بقرا، فإذا لقيتَه فاقرئه منِّي السلام، وفي نصٍّ آخر: يهبُ اللهُ له النورَ والحكمةَ فأقرئه منِّي السلام"(6).
البشارة النبويَّة للإمام الباقر(عليه السلام)
وحديثُ البشارة النبويَّة بالإمام الباقر(عليه السلام ) وتكليفُ جابرٍ بنقل التحيةِ إليه مضافاً إلى استفاضته من طُرقِنا فإنَّنا لا نختصُّ بنقلِه بل نقلتْه العديدُ من كتبِ العامَّة، فمِن ذلك ما ذكره ابنُ حجر الهيتمي المكي -وهو من أكابر علمائِهم- في كتابه الصواعقِ المحرِقة قال ما نصُّه: في ترجمة الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام): "وارثُ -زينِ العابدين (عليه السلام)- عبادةً، وعلماً، وزهادة أبو جعفر محمدٌ الباقر، سُمِّي بذلك مِن بقرَ الأرضَ أي شقَّها وأثارَ مُخبئاتِها ومكامنَها، فكذلك هو، أظهرَ مِن مُخبئات كنوزِ المعارف وحقائقِ الأحكام والحِكَم واللطائفِ ما لا يخفى إلا على مُنطمِس البصيرة أو فاسدِ الطويةِ والسريرة، ومن ثَم قيل فيه هو باقرُ العلم وجامعُه، وشاهرُ علمِه، وعمرتْ أوقاته بطاعةِ الله، وله من الرسوخ في مقاماتِ العارفين ما تكلُّ عنه ألسنةُ الواصفين، وله كلماتٌ كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملُها هذه العُجالة، وكفاهُ شرفاً أنَّ ابن المديني روى عن جابرٍ أنَّه قال له وهو صغير-أي قال جابر للإمام أبي جعفر- رسولُ الله يُسلِّم عليك، فقيلَ له وكيف ذاك؟ قال: كنتُ جالسا عنده -أي عند رسولِ الله (صلى الله عليه واله وسلم )- والحسينُ في حجره وهو يُداعبُه فقال: يا جابر يُولدُ له مولودٌ اسمُه علي إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ ليَقمْ سيدُ العابدين فيقومُ ولدُه، ثم يُولدُ له ولدٌ اسمُه محمد، فإنْ أدركته يا جابر فأقرئه منِّي السلام"(7).
اثر طلبته في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
هذا وقد تتلمذَ على يديه الكثيرُ من روَّاد العلم، فكانَ لهم أبلغَ الأثر في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف الحواضر الاسلاميَّة، فكان منهم مثلاً محمدُ بن مسلم الذي كان يقولُ كما روى الكشي بإسناده عنه: ما شجَرَ في رأيي شيءٌ قطُ إلا سألتُ عنه أبا جعفر (عليه السلام) حتى سألتُه عن ثلاثينَ ألف حديث(8) وروى الكشي كذلك عن محمدِ بن مسلم أنَّه قال: سمعتُ من أبي جعفرٍ (عليه السلام) ثلاثين ألفَ حديث"(9) ولم يكن نصيبُ زرارةَ بنِ أعين في ذلك أقلَّ منه، وكذلك أبانُ بن تغلب وجابرُ بن يزيد الجُعفي وثابتُ بن دينار المعروف بأبي حمزةَ الثمالي، والفضيلُ بن يسار وليثُ المرادي، وبُريد العجلي، ومؤمنُ الطاق وغيرُهم من أعاظم تلامذة أبي جعفر (عليه السلام) والذين مدح الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) عدداً منهم بقوله كما في الصحيح: "لولا هؤلاءِ انقطعت آثارُ النبوَّةِ واندرست"(10). وورد أنَّه وصفهم بأنَّهم "أوتادُ الأرضِ وأعلامُ الدين"(11).
إستشهاده (عليه السلام) على يد الأمويِّين
رحل الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) شهيداً بعد عمرٍ امتدَّ قُرابةَ الستةِ عقود، وكان ذلك في عهد الخليفةِ الأُموي هشامِ بن عبد الملك، والمعروفُ بين الإماميَّة أنَّه استُشهد بعد أنْ دسَّ إليه هشامُ بنُ عبد الملك السُّمَّ(12) وقيل إنَّ الذي دسَّ إليه السُّمَّ إبراهيمُ بن الوليد بنُ عبد الملك(13) وإذا صحَّ القولُ الثاني فهو بمعنى أنَّ إبراهيمَ بنَ الوليد هو مَن تولَّى دسَّ السُمِّ إلى الإمام (عليه السلام) بإيعازٍ من هشام، لا أنَّ الإمامَ (عليه السلام) قد استُشهد في عهده، فإنَّ إبراهيمَ بنَ الوليد قد تولَّى الخلافة الأمويَّة سنة سبعٍ وعشرين ومائة وتمَّ عزلُه بعد هزيمته من قِبَل مروانَ الحمار بعد مدَّةٍ يسيرة من خلافته، فلو كان هو مَن دسَّ إلى الإمام (عليه السلام) السُمَّ فلا بدَّ من أنَّ ذلك قد وقعَ في عهد هشام، لأنَّ استشهادَ الإمام (عليه السلام) كان فيما بين سنة أربعةَ عشر ومائة وبين ثمانيةَ عشر ومائة(14) على أبعدِ التقادير، وفي هذا الوقت كان خليفةُ الدولةِ الأمويَّة هشامَ بنَ عبدِ الملك والذي امتدَّتْ خلافتُه إلى سنة خمسٍ وعشرين ومائة للهجرة.
وعلى أيِّ تقدير فإنَّ المُحرَزَ هو رحيلُ الإمام (عليه السلام) عن الدنيا شهيداً بالسُّمِّ، ويكفي للتثبُّت مِن ذلك ما ورد في المستفيض عن أهل البيت (عليه السلام) أنَّه ما منَّا إلا مقتولٌ أو مسموم، فمِن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوق في الأمالي، وفي كتاب مَن لا يحضره الفقيه، وفي كتاب العيون بسندٍ صحيح عن أبي الصلت عبدِ السلام بن صالح الهروي (رحمه الله) قال: سمعتُ الرضا (عليه السلام) يقول: واللهِ ما منَّا إلا مقتولٌ شهيد. فقيل له: فمَن يقتلُك يابن رسول الله؟ قال: شرُّ خلقِ الله في زماني، يقتلُني بالسُّم، ثم يدفنُني في دار مضيعة وبلادِ غربة .."(15).
رواية السرج المسموم
فهذه الصحيحةُ وكذلك غيرُها تدلُّ على أنَّ أئمة أهل البيت(عليه السلام ) رحلوا عن الدنيا قتلاً بالسيف أو السُمِّ، نعم لا يصحُّ ما يتمُّ تداولُه مِن أنَّ الإمامَ أبا جعفرٍ(عليه السلام) قد دُسَّ إليه السُّم في سرج دابَّةٍ أُهديَ إليه من قِبل أحدِ أقاربه في عهد عبد الملك بن مروان(16) فإنَّ هذه الرواية بقطع النظر عن ضعفِها الشديد -متناً وسنداً- فإنَّها غيرُ قابلةٍ للتصديق فإنَّ عبدَ الملك بن مروان قد ماتَ سنة ستٍّ وثمانينَ للهجرة أي قبل وفاة الإمام زين العابدين (عليه السلام ) بما يقرب من العشر سنين وحينها كان عمرُ الإمام الباقر(عليه السلام) قرابةَ الثلاثين سنة أو أقل، ولم يطَّلعْ بعدُ بدور الإمامة، إذ أنَّه نهض بأعباء الإمامة سنة خمسٍ وتسعينَ للهجرة بعد استشهاد الإمامِ زين العابدين (عليه السلام) أي في نهاية عهد الوليد بن عبد الملك، ولهذا فالروايةُ كما أفاد السيِّد الخوئي (رحمه الله) في المعجم مفتعلَة(17) أي مكذوبة. فالصحيحُ أنَّ الإمامَ (عليه السلام ) قد استُشهد في عهد الخليفةِ الأموي هشامِ بن عبد الملك ما بين سنة أربعة عشر ومائة وثمانية عشر ومائة.
انطواء صفحةٌ مشرقةٌ حافلةً بالجهاد
وباستشهاده انطوتْ صفحةٌ مشرقةٌ من تاريخ أهل البيت (عليه السلام) كانت حافلةً بالجهاد والذبِّ عن معالمِ الدين والتثبيتِ لأركانه، فبِه وبسائرِ أئمةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) حفِظَ اللهُ تعالى دينَه وسنةَ نبيِّه (صلى الله عليه واله وسلم) وبهمْ استعصى على المبطلين طمسُ معالمِ الإسلام ومبادئِه وأصولِه وقيمِه وتشريعاته.
فسلامٌ عليه يومَ وُلد، ويومَ رهنَ وجودَه المبارَك لإحياء معالمِ الدين وتثبيتِ دعائمه، ويومَ رحلَ إلى ربَّه شهيداً مظلوماً، ويوم يُبعثُ شافعاً مشفَّعاً، نسألُ اللهَ تعالى أنْ يرزقنا الثباتَ على ولايته والاهتداءَ بهديه وأنْ يمنحنا شفاعته يوم تشخصُ فيه الأبصارُ لأنوار آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم).
الهوامش: _______
(1) الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص350، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج5 / ص312، البداية والنهاية -ابن كثير- ج6 / ص262*
(2) الإرشاد -المفيد- ج2 / ص137*
(3) تواتر النص على الأئمة (ع)*
(4) *الأمالي -الصدوق- ص434، كمال الدين وتمام النعمة -الصدوق- ص319، علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص233، الكافي -الكليني- ج1/ ص469، كفاية الأثر الخزاز القمي- ص83*
(5) الإرشاد -المفيد- ج2 / ص158-159.*
(6) الصواعق المحرقة -ابن حجر الهيتمي المكي- ص201، لاحظ شرح إحقاق الحق -السيد المرعشي- ج12 / ص161*
(7) اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص386*
(8) اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص391*
(9) اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص398، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص142*
(10) اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج2 / ص507 *
(11) تاج المواليد -الطبرسي- ص41، عمدة الطالب في أنساب آل أب طالب -ابن عنبة- ص195، شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص288، بحار الأنوار -المجلسي- ج46 / ص217*
(12) مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص340*
(13) الكافي -الكليني- ج1 / ص472، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج6 / ص77، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص158، تاريخ المواليد -الطبرسي- ص41،*
(14) الأمالي -الصدوق- ص120*
(15) الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج2 / ص600-604*
(16) معجم رجال الحديث -السيد الخوئي- ج8 / ص351-352*
اترك تعليق