ليلة القدر: مهبط النور ومشرق الأسرار

في ظلمة الزمن، حيث تتكاثف الحجب على القلوب، يُشرِق الله نورَه على من يشاء، فتتجلّى ليلةٌ ليست كغيرها من الليالي، ليلةٌ أودعها الله سرّ المصير، فكانت مهدَ الأقدار ومصدرَ الفيض الإلهي. إنها ليلة القدر، حيث امتزجت أنوار الوحي بمقادير الخلق، وحيث انبثق القرآن ليكون للوجود روحًا ومعنى.

كيف لا تكون خيرًا من ألف شهر، وهي اللحظة التي تعبر فيها الملائكة والروح بين العوالم، تنقل إرادة الحق إلى صحف القدر، وتفيض على العقول والقلوب من أسرار الحكمة الإلهية؟ سُئل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): كيف تكون ليلة القدر خيرًا من ألف شهر؟ فقال: "العمل الصالح فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر" فهل يدرك العبد سرّ هذه النفحة الإلهية، حيث يتسع الزمان ليحتوي بركة الأبد، وحيث يصبح العمل الصادق سببًا في ولادةٍ جديدة للروح؟

ولأنها ليلة الإحاطة الإلهية، فقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) لسليمان المرزوي حين سأله عن معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر: "يا سليمان، ليلة القدر يقدِّر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياةٍ أو موت، من خيرٍ أو شر، أو رزق. فما قدّره الله فيها فهو من المحتوم" إنها ساعةُ انكشاف الغيب، حين تُخطّ سجلات العمر، فتتحدد المسارات، وتُرسم أقدار القلوب كما تُرسم أقدار الأبدان.

وما أعمق الصلة بين هذه الليلة وبين القرآن! فهو كتاب القدر، نزل في ليلة القدر، ليكون مرآةً تعكس مشيئة الله، ودليلًا يسير به السالكون في دروب الحكمة والمعرفة. كما أن ليلة القدر هي ليلة كتابة المصير، فإن القرآن هو دستور الأقدار، به يُعرف الحق من الباطل، وبه تُضاء السبل لمن أراد الهداية. وكما تتنزل فيها الملائكة، فقد نزل القرآن ليكون كلام العليّ الأعلى على الأرض، فيكتمل بها سرُّ الاتصال بين السماء والأرض، ويشرق نور الولاية الذي هو الامتداد الطبيعي لرسالة التوحيد.

ولذلك كان سؤال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) محمّلًا بأعظم معاني القدر: "يا علي، أتدري ما معنى ليلة القدر؟" فقال: "لا يا رسول الله." فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "إن الله تبارك وتعالى قدَّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان مما قدَّر عز وجل فيها ولايتك وولاية الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة".

فكما أن ليلة القدر هي مفتاح تدبير العالم، فإن الولاية هي مفتاح تدبير الدين، وكما أن القرآن هو كتاب الهداية، فإن الإمام هو ترجمانه الحيّ، فهو "القرآن الناطق" والولاية امتدادٌ لنور الرسالة، كما أن ليلة القدر امتدادٌ لنور المشيئة الإلهية.

ليلةٌ لا يُدرك كُنهها إلا من أشرقت أنوارها في روحه، وانكشفت له الحُجب، فرأى بعين اليقين كيف تُسطّر الأقدار، وكيف يتنزّل النور لمن استحقّه. هنيئًا لمن التقط هذا النور بقلبٍ خاشع، ورُوحٍ متعطّشة للمعرفة الإلهية، فقد كُتب له أن يكون من السالكين في طريق النور، حيث القرآن، وحيث الولاية، وحيث المصير المشرق بالهداية.

: مركز التبليغ القرآني الدولي