مكانة النفس الإنسانية في كسب العلم وتغيير الحياة

لا تخفى مكانة العلم في حياة الإنسان على اللبيب العاقل، فالعلمُ هو المصباح الذي يُنيرُ دُورب الحياة ويُخرج الانسان من حصون الجهل والظلام، لذا شرف الله تبارك وتعالى من يحمله ورفعه، حيث قال(عزّ وجلّ): {... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...}[1]، فـ ((العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه عليه فمن عمل بعلمه أدى أمانته))[2]، كما قال النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وعليه ميز الله تبارك وتعالى بين العالم وغيره، إذ قال(عزّ وجلّ): {... قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[3].

ومنه نفهم أن حاجة الانسان للعلم حاجة ماسةٌ وضرورية لتحديد منزلته ومكانته وتحضره وحياته، فهو من ضروريات تيسير العيش في الحياة واستقامتها، وركيزة أساسية في تقدم الأمم والحضارات، فما سادت أمةٌ على أخرى إلا بالعلم، حيث يصقلُ العلمُ شخصية الفرد ويعززُ ثقته بنفسه ويُحرر عقله من القيود والأوهام، ويرقى بقيمه وأخلاقه، ويمنح الإنسان الفطنة في مواجهة ما يعترضُ سُبل حياته.

وطالما كان الفرد اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات كانت نهضةُ المجتمع وسيادته بتغذية عقول أفراده وتنميتها وإنارتها بالعلم والمعرفة الواجبة واللازمة، وكذا الغوص في بحر المكنونات لاكتشاف ما فيه منفعة.

من هنا كان للعلم قداسةٌ وتعظيم، يحظى بها كلَ من ظفر به، ويسعى وراءها كل من كان طالباً للكمال، وهي من الضروريات التي ترتكز على الفرد بالدرجة الأساس، والتي أشار إلى إمكانية تعلمها واكتسابها لتوفر أدواتها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[4]، ومعنى هذه الآية ظاهر واضح بالاستنتاج البسيط.

فالكائن البشري الذي يولد في هذه الدنيا ويراد له أن يكون إنساناً متقدماً راقياً، لا يكون إنساناً متقدماً راقياً إلا بامتلاكه العلم الذي يشترط فيه توافقه مع العلم الفطري الموجود في أصل خلقته وتمكينه من التطبيق وتحليه بالمهارات اللازمة لذلك، وذلك ميسر له لتوفر أدوات التمكين من العلم وتعلمه وإمكانية تطبيقه، وهي: (السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، أي العقول التي يعبر عنها بالقلوب).

والعلم يحتاج إلى معلم ماهر، وقد اختار الله تبارك وتعالى معلماً لخلقه، وهو الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وآله المعصومين(عليهم السلام)، إذ قال في كتابه الحكيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[5]، وذلك استجابة لدعوة النبي إبراهيم خليل الله(عليه السلام): {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[6]، والفارق بين الدعوة وإجابتها، هو:

أن الدعوة طلبت ارسال الرسول لغرض:

1-  تلاوة الآيات(مصدر العلم).

2-  تعليم الكتاب والحكمة.

3-  تزكية النفس الإنسانية.

ولكن إجابة الدعوة غيرت الترتيب بناء على معرفة الله تبارك وتعالى بما خلق(الإنسان)، فقال في كتابة الكريم معيداً الترتيب بما ينفع الإنسان، أن الرسول له وظيفة:

1-  تلاوة الآيات(مصدر العلم).تزكية النفس الإنسانية.

2-  يعلمهم الكتاب والحكمة.

والفارق بين هاتين الدعوتين، هو: أن الإنسان المكون من نفس وجسد يقود أفعاله، وعقل مدرك يقود سلوكه، لا يمكن تعليمه إلا بقبول النفس ورضوخها لذلك، لذا في الإجابة قدم التزكية على التعليم، لأن موضعها النفس الإنسانية.

فالنفس هي التي توجه البدن بخيره وشره، طبقاً لما تغذت به وتطبعت عليه، ويلزم أن تكون راغبة في التعليم والتعليم، إذ بدون هذه الرغبة لا يمكن اكتساب العلم تأسيساً أو تطوراً، ومثال ذلك قصة النبي موسى(عليه السلام) والعبد الصالح، حيث ذكرت الآيات القرآنية القصة في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[7]، إذ نلحظ في هذه المجموعة من النص القرآني أن عملية التعليم تحتاج إلى توفر الأمور التالية:

أولاً: المادة العلمية، حيث يلزم أن تكون من مصدر علم أساسي ورصين لاشك ولا شبهة فيه، وهو فيما نحن فيه: العلم الإلهي، أي: العلم المخزون في اللوح المحفوظ والمجسد بآيات القرآن الكريم، والله تبارك وتعالى هو المعلم له عن طريق الوحي والأولياء الصالحين والمؤمنين والتقوى، إذ قال(جلّ وعلا): {... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ...}[8].

ثانياً: وجود الرغبة النفسية بتعلم العلم، خصوصاً العلم المفيد المفضي إلى نتائج.

ثالثاً: التمتع بالصبر عند التعلم والتعليم.

رابعاً: الاستعداد النفسي لإطاعة أمر الاستاذ احترامه وتنفيذ أوامره.

خامساً: اتباع الاستاذ او العلم ذاته، أي: الاقتفاء والاقتداء واللحاق، وهذا ينفع في الجانب التطبيقي والعملي ، واكتساب المهارة، وهو لازم للفهم الواقعي.

سادساً: التأني والتأمل في الفهم وهضم المطالب وعدم السؤال إلا في وقته وفي موضعه وعند الحاجة، والشعور بالضرورة.

ومن هذه الاستنتاجات يتبين لنا الفرق بين التعليم والتعلم، فالتعليم كعملية يكمن في توفر عناصر التعليم الأساسية، والتي تتمثّل في: المادة العلميّة المعلمة القويمة والمثمرة، المدرس ذو الخبرة الواسعة، والمتعلّم الراغب الذي يتلقى المعلومة.

[url=https://postimages.org/][img]https://i.postimg.cc/FKR0yf1Q/sc2.jpg[/img][/url]

 

أما عملية التعلّم فلا يشترط فيها سوى وجود الرغبة النفسية عند الشخص المتعلم على التعلم واكتساب العلم، وتعلم كيفية تطبيقه ومهارته، والتي يدفع إليها الدافع الفطري في جذب الكمال للإنسان، فهو كمال ترغب فيه النفس الإنسانية، فقد روي عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنه قال:

((تَعَلَّمُوا اَلْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَاَلْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، لِأَنَّهُ مَعَالِمُ اَلْحَلاَلِ وَاَلْحَرَامِ وَسَالِكٌ بِطَالِبِهِ سُبُلَ اَلْجَنَّةِ، ومؤنسٌ فِي اَلْوَحْدَةِ، وَصَاحِبٌ فِي اَلْغُرْبَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى اَلسَّرَّاءِ، وَسِلاَحٌ عَلَى اَلْأَعْدَاءِ، وَزَيْنُ اَلْأَخِلاَّءِ، يَرْفَعُ اَللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً يَجْعَلُهُمْ فِي اَلْخَيْرِ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ تُرْمَقُ أَعْمَالُهُمْ وَتُقْتَبَسُ آثَارُهُمْ وَتَرْغَبُ اَلْمَلاَئِكَةُ فِي خَلَّتِهِمْ، لِأَنَّ اَلْعِلْمَ حَيَاةُ اَلْقُلُوبِ وَنُورُ اَلْأَبْصَارِ مِنَ اَلْعَمَى وَقُوَّةُ اَلْأَبْدَانِ مِنَ اَلضَّعْفِ، وَيُنْزِلُ اَللَّهُ حَامِلَهُ مَنَازِلَ اَلْأَحِبَّاءِ وَيَمْنَحُهُ مُجَالَسَةَ اَلْأَبْرَارِ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، بِالْعِلْمِ يُطَاعُ اَللَّهُ وَيُعْبَدُ، وَبِالْعِلْمِ يُعْرَفُ اَللَّهُ وَيُوَحَّدُ، وَبِهِ تُوصَلُ اَلْأَرْحَامُ وَيُعْرَفُ اَلْحَلاَلُ وَاَلْحَرَامُ، وَاَلْعِلْمُ إِمَامُ اَلْعَقْلِ وَاَلْعَقْلُ يُلْهِمُهُ اَللَّهُ اَلسُّعَدَاءَ وَيَحْرِمُهُ اَلْأَشْقِيَاءَ، وَصِفَةُ اَلْعَاقِلِ أَنْ يَحْلُمَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاوَزَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَيُسَابِقَ مَنْ فَوْقَهُ فِي طَلَبِ اَلْبِرِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ تَدَبَّرَ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ وَإِنْ كَانَ شَرّاً سَكَتَ فَسَلِمَ، وَإِذَا عَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ اِسْتَعْصَمَ بِاللَّهِ وَأَمْسَكَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِذَا رَأَى فَضِيلَةً اِنْتَهَزَ بِهَا، لاَ يُفَارِقُهُ اَلْحَيَاءُ وَلاَ يَبْدُو مِنْهُ اَلْحِرْصُ، فَتِلْكَ عَشْرُ خِصَالٍ يُعْرَفُ بِهَا اَلْعَاقِلُ...))[9].

مما تقدم يلزم لهذه الحقائق أن نرى سعي الناس لطلبه جميعاً على نحو الاستغراق، أي جميع الأفراد، لتهنأ الحياة وتتقدم الأمة وترتقي وتتفوق الحضارة، لكننا نلمس العكس، فبدلاً من أن نرى الكثير من الناس راغب فيه، نرى الكثير منهم زاهد فيه ومبتعد عنه، ديدنهم الاخفاق والسفسطة فيه واكتسابه وهو ملازم لهم، والسبب في ذلك:

أولاً: اختلال العملية التعليمية وغياب شروطها وانهدامها في بعض الوقت.

ثانياً: فقدان الرغبة النفسية في اكتسابه، أو ما نسميه بفقدان المبرر.

فالمبرر لطلب العلم اليوم على مستوى الكرة الأرضية كان في السابق هي المنزلة والمكانة الشريفة والرفيعة في الدنيا والآخرة، ولكنه تغيّر بتغير الحياة وانقلاب المجتمع ومفاهيمه من المجتمع الإلهي إلى المجتمع المادي، حيث تغير المبرر والدافع تبعاً لذلك.

فأصبح طلب العلم مبرره الحصول على الشهادة والوظيفة وكسب المال، هو الدافع الرئيسي في كثير من الأحيان، لذا صار الحصول عليه والحال هذه يجري بأي ثمن كان ومن دون اتقان.

فرغبة النفس إن تغيرت تتغير على أساسها نسبة طلب العلم، وكذا جودته، والاهتمام بتوفر أركان العملية التعليمية الناضجة والمثمرة، فتغيرت لذلك الإعدادات العقلية(المعلومات الأساسية) للإنسان فتتغير الحياة تبعاً لها من حياة قيمية تعتني بالمبادئ العلمية، إلى حياة مادية تقيس كل شيء وفق المصالح الشخصية المادية، مما عزز الفشل والاخفاق والتراجع والتقاعس فيها، حيث يدلنا الواقع المعاش عليه.

فالنص النبوي المذكور آنفاً، ركز على الترغيب في اكتساب وتعلم العلم المثمر، وذلك من خلال التركيز على المكانة والمنزلة والفوائد التي ترغب بها النفس الإنسانية وتحظى بها حين التعلم والتعليم.

والنتيجة: فإن مكانة النفس الإنسانية في التعليم مكانة جوهرية، إذ أن قبولها وعدمه يوجب أن يسعى الإنسان وراء التعليم واكتساب العلم أولا، وهنا ولتغيير حالنا يجب علينا أن نحدث أنفسنا ونرغبها ونشوقها لنيل العلم وشرف المراتب السامية بطلب العلم وتعلمه واكتسابه، فنحظى عند ذاك بطيب العيش والحياة الهنيئة السعيدة الراقية والمتحضرة، فقبول النفس الإنسانية وعدمه نقطة جوهرية في حصول كل ذلك وعدمه، إذ يقول الله تبارك وتعالى: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...}[10].

[url=https://postimages.org/][img]https://i.postimg.cc/1t767ynN/sc1.jpg[/img][/url]

 

الهوامش:-----

[1] سورة المجادلة: 11.

[2] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج2، ص: 36.

[3] سورة الزمر: 9.

[4] سورة النحل: 78.

[5] سورة الجمعة: 2.

[6] سورة البقرة: 129.

[7] سورة الكهف: 65-70.

[8] سورة البقرة: 282.

[9] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ج1، ص: 28.

[10] سورة الرعد: 11.

: الشيخ مازن التميمي