انهيار الأسرة يعني انهيار الأمة

(الأمّة) مأخوذة من الأم، ((الهمزة والميم أصل واحد فيها، يتفرع منه أربع أبواب، وهي الأصل والمرجع والجماعة والدين، وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة، وهي القامة والحين والقصد، ...))[1].

قال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات: ((والأُمّة: كل جماعة يجمعهم أمر ما إمّا دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا))[2].

وعليه يمكن تصورها بأنها: كلَّ جماعةٍ يجمعُهم أمرٌ ما؛ إمّا دينٌ واحدٌ، أو زمانٌ واحد، أو مكانٌ واحد؛ وبتعبيرٍ تعني: الجيلَ والجنسَ مِن كلِّ حيٍّ، وهي كلمة عربية تعني المجتمع، وتتميز عن غيرها بأن لها أصل مشترك أو جغرافيا مشتركة.

ومن هنا قيل أن الأمة مصطلح قانوني وسياسي يستخدم للإشارة للجماعة المستقرة من أي أجناس كانت، يرتبط أفرادها بروابط واضحة مثل اللغة أو التاريخ أو الجنس أو الدين من ناحية، ومتخيلة من ناحية أخرى، مثل: المصالح المشتركة والغايات الواحدة أو حتى النسب المشترك من ناحية أخرى.

وعلى هذا الأساس أطلق اسم: (الأمة) على الأمة الإسلامية، أي: أمة النبي محمد(صلى عليه وآله) سيد ولد آدم، وهي بهذه التسمية من ناحية غير عقائدية مختصة بالمجتمع الإسلامي ذلك التكتل البشري المتجانس، الذي له تجلٍّ تاريخيّ متصل وفاعل، وتجمعه عقيدة دينية وفكرية واحدة.

وخلاصة القول:

أن الأمّة، هي: كلَّ جماعةٍ يجمعُهم أمرٌ ما؛ إمّا دينٌ واحدٌ، أو زمانٌ واحد، أو مكانٌ واحد، وهم مجموعة الأفراد القاصدون لشيء معين كأن تكون فكرة أو سلوك أو أداء أو دين أو أخلاق أو أدب وما إلى ذلك من المقاصد.

والمعروف في علم الاجتماع، أن اجتماع الجماعة على أمر واحد يكسبها قوة ومكانة عزيزة، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ}[3]، كذلك قال (جلّ وعلا): {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[4]، ومن خلال هذه الآيات المباركات يتبين أن مصدر قوة الأمة هو:

1- الاجتماع واليد الواحدة

2- الكينونة على عقيدة وثقافة وسلوك واحد

3- الطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وآله

4- نبذ التفرقة والاعتصام بحبل الله تبارك وتعالى

5- المحافظة على المجتمع وتقويمه وإصلاحه بواسطة إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

6- بناء المجتمع على منطق العلم المستند المستدل والموثق

7- الاستقرار وترك النزاعات البينية بين الأفراد

8- احترام النعم التي منَّ الله بها والمحافظة عليها

9- نشر روح المحبة والتواد والتراحم بين الأفراد في المجتمع الإسلامي

10- الصبر والتجلد على المكاره والصعاب في الحياة.

والمجتمع أو الأمّة هو كيان يتألف من أفراد الإنسان التي تتمركز في عناصر القوة المذكورة أعلاه، لذا كان هو المستهدف في الخطط والتطبيقات والتدريبات المختلفة لاكتساب المهارات اللازمة، حيث يمكن وصف مفردات هذه الأمَّة التكوينية من خلال المخطط التالي بسياق تصاعدي للوحدات التكوينية:

Screenshot-2025-03-04-112051 

فالفرد يكون الأسرة، والأسرة تكون العوائل، والعوائل تكون المؤسسات، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ...}[5]، وما دام المجتمع بهذا الترتيب والتماسك فهو يتمتع بقوته الكامنة والظاهرية ولا يمكن النيل منه لأي غرض كان أو سبب يذكر.

ونظراً لهذه التراتبية التسلسلية المستند بعضها إلى البعض الآخر في تكوينه بحسب قانون العلية، كان ولازال المخالفين والأعداء لهذا المجتمع المسلم يركزون في حربهم على اختراق حصانة جانبين أساسيين، هما:

1- الفرد.

2- المؤسسة الأولى، وهي الأسرة.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فشملت حربهم لكل ما له علاقة بتماسك الفرد أو المؤسسة، وأهمها الحرب على الأخلاق والقوانين الأساسية والفرعية بتحويل مركزيتها من الله تبارك وتعالى إلى الفرد نفسه وذاته، فشملت بالتبع الجانب الاسري والعائلي والمؤسساتي التي يصفها الشاعر المصري(أحمد شوقي): 

وقد تم ذلك عن طريق اختراق الفكر، وبقبول نفس الإنسان للفكر الدخيل وتنفيذه، يقول تبارك وتعالى: {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}[6]، فحركة الإنسان في الحياة مبنية على سلوكه والسلوك محكوم بتفاعل الفكر والإرادة، فأي تغيير في أساسيات الإنسان وإعداداته النفسية والمعرفية يغير شكل حياته الظاهرية وطبيعتها وطبيعة جزائه الأخروي، إذ يقول الحديث النبوي الشريف: ((الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ))([7])، فالأساس الفكري والسلوك العملي والتدريب التطبيقي أساس الحفاظ على الأمة أياً كانت، لذا نرى المخالفين للإسلام حريصون على تدريس موادهم الفكرية للمسلمين في المدارس والجامعات والمؤسسات المجتمعية المعرفية كبديل عن القرآن الكريم والتغذية المعرفية النبوية المتمثلة بأحاديثه الشريفة ورواية الأئمة المعصومين عليهم صلوات ربي أجمعين، وكذلك الحرص على تبني التطبيق والأداء السلوكي عن طريق ما يعرف بالتنمية البشرية التي تصيغ سلوكاً اجتماعياً ناقصاً جزئياً وموضعياً كبديل عن سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) التطبيقية وأئمة الدين الأئمة المعصومين(عليهم السلام).

وللأسف الشديد نشهد في الآونة الأخيرة أوج التغير الفكري والثقافي والنفسي الذي تخلق به الفرد وبالتبع العائلة حيث انتج حالات الصراع الأسري الغريبة والتي أثمرت حالات الطلاق والانفصال الكبيرة، ونتج أيضاً وفرة الأمراض الجسدية والنفسية وتخلق المجتمع بأخلاق وعادات هي ابعد ما يكون عن الواقع الإنساني وطبيعته والإسلام الحنيف.

وقد تم التركيز في ذلك على اللبنة الأولى في تأسيس المجتمع وهي الأسرة، وذلك لأن الأسرة تشكل الحصن الأخير للمجتمع، أي الأمّة، فالحصن الأخير أو القلعة الأخيرة إذا تهاوت يعني أن الأمة قد تهاوت.

فالأسرة الواحدة تحكمها مجموعة علاقات وروابط، أهما رابطة الزوجين فيما بينهما بمعزل عن الأولاد، وقد أسس الله تبارك وتعالى هذه الرابطة على أساس نفسي هو المودة والرحمة، وأساس فكري هو الواجبات والالتزامات المخلوطة بالجانب العبادي، وأساس تنظيمي هو الوظائف التي يؤديها كل من الزوجين بصورة تكاملية.

أما اليوم نرى أن الوظائف اصبحت متبادلة فكان نصيبها الاخفاق وعدم الانتاج، والواجبات والالتزامات فيها تقصير شديد، والأساس النفسي متضرر بس تضخم النفس وتغير الاخلاق وضياع الهدف من الارتباط.

ولكن يجب أن نعلم أن العلاقة الأساسية والمرتكزة في هذه الروابط، هي: (المودة والرحمة)، وقد ذكرها الله تبارك في كتابه الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[8]، وجعلها أساس للعلاقة الزوجية، فالتَّودُّد هو: ((طلب مَوَدَّة الأكفاء بما يوجب ذلك))[9]، ولا يخفى أن المودة تحول الأشواك إلى ورود.

لكن هذا الأساس تحول في الزمن الحاضر إلى أساس مادي وعلاقة عملية، وعلى هذا فهي لا تكفي لإنجاح التكوين الأسري واستمراره، ، إذ لا وجود للمودة بدون حب الذي يسبق المودة، والعلاقة على هذا تكون انعكاس للحب وتقوية له، وهي السلوك الناتج عنه.

فاليوم وبسبب تكريس الثقافة المناهضة للثقافة الإسلامية نلمس انهزام القلعة الأخيرة بسبب جمودها وعدم تطورها وصولاً إلى تفككها، وهو المطلوب إثباته للسيطرة على أرقى المجتمعات البشرية وتحويله إلى مجتمع هجين مفكك وهزيل.

ودعوتنا في هذا المقال إلى أفراد المجتمع الإنساني عموماً والإسلامي خاصةً إلى ضرورة التمسك بالقيم والاخلاق والآداب الإسلامية وتحكيمها في اختلافاتنا وصراعاتنا ونبذ الثقافات الدخيلة علينا مع كسب كل من تأثر بها وذلك من أجل الحفاظ على الأمة وتماسكها، حيث يخبرنا الواقع اليوم أن الذين تمسكوا بالقيم والثقافة البديلة لم يجنوا من ورائها غير التمزق وسيطرة الأجنبي وذهاب الأخلاق وكثرة الخلافات والأمراض المختلفة وعلى رأسها الأمراض النفسية، وعدم الخداع بمحاسنها البسيطة والظاهرية، إذ أن الأمم تحيا بهذا الرفض والانكار وعدم الخداع.

 

الهوامش:-----

[1] معجم مقاييس اللغة، احمد بن زكريا بن فارس، ج1، ص: 22.

[2] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ج1، ص: 86.

[3] سورة آل عمران: 102- 108.

[4] سورة الأنفال: 46.

[5] سورة الأنعام: 38.

[6] سورة الرعد: 11.

[7] عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، محمد بن زين الدين لابن أبي جمهور، ج‏1، ص: 267. 

[8] سورة الروم: 21.

[9] كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، ص: 71.

: الشيخ مازن التميمي