الأخلاق هي مرآة النفس البشرية، الصورة الحقيقية لداخل الإنسان التي تعكس قيمه وميوله وأعماقه. وكما يحمل الجسد شكله المادي من طول وقصر وملامح جميلة أو عادية، فإن النفس بدورها تحمل صفات معنوية تتجلى في الأخلاق. فمن أراد أن يرى صورة الإنسان الباطنية، فعليه أن ينظر إلى أخلاقه وسلوكه، حيث تكشف عن مدى الجمال أو القبح في روحه.
ولا شك أن البشر يحرصون على تحسين مظهرهم الجسدي ليكونوا أكثر جاذبية، وهذا أمر لا يرفضه الدين الإسلامي، بل يشجعه في حدود الاعتدال. إذ يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله: « إنّ اللَّهَ تعالى جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ، ويُحِبُّ أنْ يَرى أثَرَ نِعمَتِهِ على عَبدِهِ» (ميزان الحكمة، الريشهري، ج ١، ص٤١٤)، وأكدت (الآية الثانية والثلاثين في سورة الأعراف) على ذلك: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد}.
لكنَّ الإسلام يجعل الجمال النفسي والأخلاقي في مرتبة أعلى، لأنه الجمال الذي يظل باقيًا ويؤثر في القلوب، فقد رأى النبي أعرابيًا بشعر غير مرتب، فقال: «أما كان يجد ما يسكن به شعره؟» (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج ٤، ص٣٣٠٢)، مشيرًا إلى أهمية المظهر، ولكن دون إهمال النفس التي تُظهر صورتها الحقيقية بالأخلاق.
ومن صميم القول إن الأخلاق هي البوابة التي يدخل من خلالها الإنسان إلى قلوب الآخرين، فقد يمتلك الإنسان علمًا غزيرًا أو مكانة اجتماعية مرموقة أو ثروة طائلة، لكن إذا كانت أخلاقه سيئة، فإن هذه الميزات تفقد تأثيرها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: «رُبَّ عزيزٍ أذله خلُقُه، وذليل أعزَّه خلُقُه» (بحار الأنوار ، العلامة المجلسي ، ج ٦٨ ، ص٣٩٦).
وفي القرآن الكريم، يخاطب الله نبيه محمدًا صلَّى الله عليه وآله في الآية (التاسعة والخمسين بعد المئة من سورة عمران)، بقوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وهذه الآية تؤكد أن الأخلاق الطيبة كانت سببًا في قبول الناس لرسالة النبي، وأَنَّ سمو الأخلاق يتفوق حتى على النبوة من حيث التأثير الاجتماعي.
فالأخلاق ليست فقط وسيلة لكسب حبِّ الناس، بل هي جزء أساسي من العبادة، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنَّ العبد ليبلغ عظيم درجات الآخرة بحسن خلقه وإنَّه لضعيف العبادة» (المحجة البيضاء، ج5، ص93)، وهذا يدلُّ على أَنَّ حسن الخلق قد يكون أَحيانًا أَعظم أَثرًا عند الله من كثرة العبادات إذا صاحبها سوء الخلق.
كما ورد عنه صلى الله عليه وآله: «سوء الخلق ذنب لا يغفر» (ميزان الحكمة ، محمد الريشهري، ج ١، ص٨٠٦)، وفي حديث آخر، قال: «إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق» (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٦٨، ص٣٨٢).
ومن أبرز مظاهر الأخلاق الحسنة هو احترام الآخرين بغضِّ النظر عن مكانتهم أو وضعهم، يقول الإمام الحسين عليه السلام: «رأس العقل بَعد الإيمان بالله، التودُّد إلى الناس» (العقل والجهل في الكتاب والسنة، محمد الريشهري، ص١٦٠)، وحينما سُئل عن معنى الأدب قال: «هو أن تخرج من بيتك فلا تلقى أَحدًا إلَّا رأيت له الفضل عليك». (موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام)، ص ٨٩٥).
إذ إنَّ احترام الآخرين يبدأ من الأسرة، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعظِّم أَخاه الإمام الحسن عليه السلام، لدرجة أَنه لا يتحدَّث في مجلسه إجلالًا له، وهذا الاحترام المتبادل بين أهل البيت عليهم السلام يمثل نموذجًا رائعًا يجب أن يُحتذى.
ومن الأخلاق العظيمة أَنْ يتحمل الإنسان إساءات الآخرين بصدر رحب، فعندما واجه الإمام الحسين عليه السلام رجلاً اتهمه بالكبرياء، ردَّ عليه بهدوء قائلاً: «الكبر لله وحده»، وهذه الحادثة تعكس روح التسامح وضبط النفس التي تجسد الأخلاق الإسلامية الرفيعة.
وكذلك كان الإمام الحسين عليه السلام يقدِّر العلم والمعلمين تقديرًا كبيرًا، فقد أعطى معلم ابنه ألف دينار عندما علمه سورة الحمد، وعندما سئل عن هذا السخاء قال: «وأين يقع هذا من عطائه؟» (الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي، ص١٠٠)، في إشارة إلى قيمة العلم التي لا تقدر بثمن، وهذا من صميم الأخلاق الكريمة.
وفي النهاية، تبقى الأخلاق هي المعيار الحقيقي لتقييم الإنسان، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «أَقربكم منِّي مجلسًا يوم القيامة أَحسنكم أَخلاقًا» (وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ١٢، ص١٥٣).
فالأخلاق ليست فقط مرآة النفس، بل هي المحكُّ الذي يحدِّد مكانة الإنسان عند الله تعالى وعند الناس، فلنحرص على تهذيب نفوسنا وتحسين أَخلاقنا، فهي الزاد الحقيقي الذي نرتقي به في الدنيا والآخرة.
اترك تعليق