ترك أحكام الله تعالى دخول في نفق مظلم

ذكر العلماء أن التشريع الالهي هو: ((التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان، سواء كان متعلقاً بأفعاله أو بذاته أو بأشياء أخرى داخلة في حياته))[1]، وحيث إنّ الهدف من الحكم هو تنظيم حياة الإنسان، قسّم إلى قسمين ليشمل حياة الإنسان، هما:

1- الحكم التكليفيّ: وهو الحكم الذي يتعلّق بأفعال المكلّفين، وينقسم إلى خمسة أقسام، هي: (الوجوب، الحرمة، الاستحباب، الكراهة، الإباحة).

2- الحكم الوضعيّ: وهو الحكم الذي يتعلّق بذوات المكلّفين، أو بأشياء أخرى ترتبط بهم، مثل: الزوجية وما أشبه.

أما مصادر تشريعه:

فأولها وأساسها: القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

وثانيها: الإجماع، العقل.

فالقرآن الكريم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى ليقود فيه الحياة لان فيه كل الموضوعات الاساسية التي تهم الإنسان ويحتاجها للبناء والتقدم على المستوى النفسي الداخلي والاجتماعي الخارجي في الحياة، وهذين المستويين هما قوام الحياة الدنيا والتي هي مزرعة الآخرة، لذا سمى البعض هذا الكتاب المقدس القرآن الكريم ووصفه بأنه (كتاب حياة)[2].

وقد ترتبت على هذه السمة استحقاقات عديدة أبرزها:

1-  لزوم قراءته في كل يوم، وقد حثنا على ذلك الأئمة الطاهرون(عليهم السلام)، حيث ورد عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: ((القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية))[3]، وورد أيضاً عن علي بن محمد عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين(عليه السلام) يقول: ((آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها))[4].

2-  يَلزم النظر فيه في كل يوم نظر اعتبار وتدبر، لأنه منهج الحياة، من تمسك به نجا ومن تركه هلك، قال الإمام علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام) لما خاطب أهل البصرة: ((... وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع، من قال به صدق ومن عمل به سبق))[5].

والناس بتخليهم عن القرآن وأحكامه التي تنطوي عليها آياته جملة وتفصيلا- رغم تمتعهم بالعقل وتبجحهم به - قد زاغوا عن الصواب وضاعوا في هذه الدنيا، فكثرت مشكلاتهم، واستحكمت إشكالاتهم، وزادت شبهاتهم، وقل وضوح الموضوعات والأحكام لديهم، وعسرت حياتهم، وهو ما لا يحتاج إلى دليل، بل هو مؤيد بالواقع المعاش.

يُنقل أنه قام إلى علي أمير المؤمنين(عليه السلام) رجل ذات يوم وقال: ((أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنها؟  فقال عليه السلام: لما أنزل الله سبحانه قوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}/[سورة العنكبوت: 1-2] علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرنا، فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها، فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي، فقلت يا رسول الله: أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة فشق ذلك علي، فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك، فقال لي: إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً، فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر، فقال: يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، قلت يا رسول الله: بأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ بمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة))[6].

واليوم وللأسف الشديد نشهد هذه الأمور جميعها متحققة، وتحققها ممزوج بالتهكم والازدراء وأساليب أخرى تشويهية اتخذت شكل حرب إعلامية لخلق رأي عام بضرورة التخلي عن الشريعة الإسلامية وكتابها ودستورها القرآن الكريم، وذلك مدعماً بأساليب ووسائل الإقناع القصري، والترويج لديها قائم على أن أحكام الشريعة الإسلامية بعيدة عن العقل والمنطق، وأن أحكامها مخالفة للفطرة السليمة، وتركيز هاتين الفكرتين تبعد الشريعة عن قبول العقل بها، وتتطلب جهداً كبيراً مضنياً لتحقيق ذلك وإيصال الأمر إلى هذا المستوى الذي نحن عليه اليوم، حيث نجح من يُريد إبعاد النفس الإنسانية عن التعلق بالإسلام في عمله هذا، وأبعد الفكر الإنساني عن الاعتقاد به، وهو أمر يقود بالتالي إلى تغيير الحياة لصالحه، وهو مبتغاهم.

فقراءة القرآن وفهم أحكامه وتطبيقها والسير في الحياة وفق إرشاداته ونصائحه والنظر والتفكر في عبره من خلال قصصه غير مرغوب بها لديهم، أي بعبارة أخرى: التمسك بالشريعة الإسلامية ينجي من كل ما ذكرنا ويرفع المستوى الفكري والثقافي الذي نعبر عنه بالرقي والتقدم وهم لا يرغبون به.

وتفصيل ذلك:

أن الحياة الدنيا قائمة وتبنى على ردود أفعال الإنسان التي بطبيعته وخلقته تنطلق من ذاته وفكره، وهي متقومه بها ونسميها بالسلوكيات، فسلوكيات الإنسان هي التي تصنع الحياة، وهي إما تكون استجابة لباعث داخلي كالجوع مثلاً، أو مثير خارجي كرائحة الطعام، لذا اعتنى خالق الإنسان وعمل على التشريع والتوجيه والإرشاد لها، ضمن حزمة من القوانين الشرعية لتكون حياة متحضرة فتهنأ وتسعد، ولكن بعض الناس لا يروق لهم ذلك، لأنهم يتحلون بصفات وخصائص اشتملت على العجب والاستكبار والكفر والجهل، كانت هي منطلق أفعالهم الدنيوية، لذا تراهم دائماً معترضون يعطون لأنفسهم حقاً تشريعياً من دون مبرر أو اختصاص.

وبالرغم من أنهم جاهلون بهذا الإنسان تماماً، لأنهم لم يخلقوه، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[7]، نراهم يناقشون ويجادلون الاحكام الشرعية التي شرعها خالق هذا الإنسان المحيط علماً بما يصلحه وما يفسده، فلا يتركون صغيرة أو كبيرة إلا ناقشوها.

فهم قد يملكون اختصاص، لكنه ناقص المعلومات، منحهم إياه ناقص العلم والعقل، أو قد لا يملكون الاختصاص من الأساس، متناسين أن هذه الأحكام قد وضعت من لدن حكيم عليم خبير محيط رؤوف رحيم عادل.

وهذه الحالة كانت ولا زالت موجودة، ولكنها هذه الأيام ازدادت وتيرتها لوجود ما يسبب إثارتها، والسبب في ذلك لم ينزل الله به من سلطان، إذ أن الخطورة فيه لا تكمن في مجرد النقاش، بل في آثارها.

فهم يناقشون إنساناً قد يفوقهم أو يساويهم أو أقل منهم قدرة وعلماً ومهارة، والمُناقَش فيه هو قانون إلهي شرعي معصوم، شرعه الله تبارك وتعالى بعلمه وعدله وحكمته، التي يفقدها المشرع الإنساني، الأمر الذي يعني في حال الإقناع والاقتناع بعدم نفعها وجدواها دخول الإنسان في نفق مظلم لأحكام متفاوتة العدل والعلم والحكمة شرعها غير معصوم، فالقضية كما يقول أهل المنطق مانعة خلوا، أي أن الحياة لا تسير إلا وفق قانون سواء كان إلهي أو بشري، ففي حال رفض القانون الإلهي بعدله، لابد أن نقبل بالقانون البشري بظلمه، وفي حال التعديل على القانون الإلهي فإن لازم ذلك: وجود عيب في الأحكام والعياذ بالله والإقرار بعدم الكمال فيما شرعه من تشريعات.

والإنسان في هذا مختار في القبول والعدم، لكن عليه أن يتحمل النتائج، وهي ليست منحصرة في مصداق معين، نذكر على سبيل المثال:

1-  يقول الله تعالى ذِكره في حال القبول والطاعة: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[8].

2-  ويقول جلّ وعلا: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[9].

وهو ما عنيناه بالنفق المظلم، فهل من مدكر.

 

 

الهوامش:-----

[1] المعالم الجديدة، الصدر محمد باقر، ص 100.

[2] راجع: القرآن كتاب حياة، الشيخ كاظم السباعي، ص: 5 فما بعد.

[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ٦، ١٩٨.

[4] المصدر نفسه.

[5] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج ٢، ٤٩.

[6] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج ٢، ٤٩- 50.

[7] سورة ق: 16.

[8] سورة النحل: 97.

[9] سورة طه: 124- 126.

: الشيخ مازن التميمي