الفتح الحسيني وفق منهج أهل البيت عليهم السلام

  من المسائل الواضحة والمسلمة والتي يمكن الوقوف عليها من خلال استعراض بعض النصوص التي تعرضت لحادثة عاشوراء، وتحديداً مراقة الكلمات والخطب والكتب التي كان يمليها الحسين سواء على أصحابه أو أهل بيته أو حتى غيرهم، نجد فيها أن الإمام الحسين عليه السلام ومنذ اللحظة الأولى لخروجه من المدينة، وحتى وصوله إلى كربلاء كان يبن للناس عموماً الغرض الذي من أجله خرج على يزيد بن معاوية، وأن هدفه إصلاح هذه الأمة من المفاسد التي نزلت بساحتها بعدما تصدى للخلافة من هو ليس أهل لها .

والحسين عليه السلام بمقتضى ما كان يملكه من العلم وبعض القرائن الأخرى كان يعرف أنه لا يمكن أن يحصل على هذا الإصلاح، وبالتالي إكمال الفتح الذي بدأ به رسول الله حين عودته إلى مكة إلا من خلال الخروج بالسيف والشهادة . 

وفي هذا الكتاب الذي بعث به الحسين عليه السلام إلى بني هاشم، بيان للهدف الذي خرج من أجله الحسين عليه السلام وكذلك فيه بيان للنتيجة المترتبة على هذا الخروج والتي كما ذكرنا سابقاً هي الشهادة، وقد عبَّر عن ذلك بصراحة بقوله عليه السلام: " من بنا استشهد " يعني يا بني هاشم أن مشروعي هو مشروع شهادة، ثم قال عليه السلام:" ومن تخلف لم يبلغ الفتح " فاعتبر الإمام أن الفتح لن يتم إلا عبر هذا الطريق وهو طريق الشهادة .

وهنا لا بد من الوقوف عند كلمة الفتح وبيان بعض القضايا المرتبطة فيها، ثم نتحدث عن الفتح الحسيني .

معنى الفتح

الفتح في اللغة معناه إزالة الإغلاق وينقسم إلى قسمين: فتح مادي، وفتح معنوي

والأول: يدرك بالبصر والحواس، فيقال فتحت الباب أي أزلت إغلاقه، ومنه الفتح العظيم الذي قام به أمير المؤمنين عليه السلام في معركة خيبر حينما فتح حصونها .

والثاني: عبارة عن الفتح الذي لا يدرك بالحواس وإنما يدرك بالعقل والبصيرة، وهذا النوع من الفتح له عدة مصاديق منها :

منها فتح السماء ونزول الرحمة، قال تعالى: ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم )[1]

ومنهال فتح عوالم الغيب كقوله تعالى: ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو )[2]

ومنها فتح البصيرة والعلم كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:"علمني رسول اله ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب".

ومنها فتح القلوب : فعن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: « القلوب ثلاثة : قلب منكوس لا يعي شيئا من الخير وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان فأيهما كانت منه غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن »[3]

ولا شك أن الفتح المادي يحتاج إلى قوة جسدية وسلامة حواس، أما الفتح المعنوي فيحتاج إلى بصيرة وسلامة حس وطهارة قلب حتى يتسنى له تلقي الفيوضات الإلهية كما يرشد إليه الحديث السابق .

وقال الطريحي في مجمع البحرين مادة "فتح" فاتحة كل أوله، كما أن خاتمته آخره، ومنه سميت الحمد فاتحة الكتاب لأنها أوله .

أقول: ومنه سمي دعاء الافتتاح بذلك، لأن هذه التسمية إما بلحاظ أنه من أوائل الأدعية التي تفتتح فيها العبادة في ليالي شهر رمضان أو لأنه يفتتح فيه بحمد الله تعالى، حيث نقول : " اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك " .

 

 

 

الأنبياء أهل الفتح

ورد في القرآن الكريم لفظ الفتاح وقع وصفاً لله تعالى، فقال سبحانه: (وهو الفتاح العليم ) [5] وورد فيفي مورد آخر أنه خير الفاتحين. فهو الذي يفتح لعباده أبواب الرحمة والرزق والعلم .

وقد أعطى الله تعالى هذه الصفة لأنبيائه وأوليائه، فهم الذين يفتحون لأممهم أبواب الإيمان والمعرفة، بل ورد على لسان بعض المؤمنين بدعوة الأنبياء طلب الفتح بينهم وبين قومهم كما في قوله تعالى حاكياً عن أصحاب شعيب عليه السلام: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )[6] وقد ذكر لنا التاريخ أن أحد أسماء النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم هو " الفاتح" فقد فتح الله على يديه البلاد وقلوب العباد،كما فتح على يديه أبواب الإيمان والعلم والمعرفة .

الأئمة عليهم السلام والفتح

كما كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاتحاً بإذن الله تعالى فقد كان أهل بيته كذلك،بل إن الله تعالى بهم يختم كما بهم فتح، من هنا ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام :"يا علي، إن بنا ختم الله الدين كما بنا فتحه " وقال:" يا علي بكم يفتح هذا الأمر وبكم يُختم"[7].

وعن الإمام الرضا عليه السلام:بنا فتح الله الدين وبنا يختمه، المصدر نفسه.

 وعن علي عليه السلام: بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه . المصدر نفسه .

وظاهر هذه الروايات يبين أن الجهل كان منتشراً بين الناس فأرسل الله نبيه صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته ليعلموا الناس وليفتحوا لهم أبواب الدين والهداية والمعرفة، فهم أول من فتح هذه الأمور، وهم آخر من يختم به ذلك.

يقول السيد الخميني في شرح فقرة "بكم فتح الله وبكم يختم" في هذا الكلام احتمالات ثلاثة:

1-وهو الأظهر: بكم فتح الله باب الإمامة وبكم ختمه، أي أن الإمامة من بيتكم لا تخرج منه أبداً وأول الأئمة عليه السلام هو منكم وهكذا حتى آخر الأئمة عليه السلام وهو الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف وهو أيضاً منكم .

2- إن الله تعالى خلق أولاً نوركم، وآخر من يختم الله به العالم هو أنتم، وهذا الاحتمال وإن كان خلاف الظاهر ...

3- إن الله تعالى بواسطتكم ابتدأ بالخلقة، وبواسطتكم ختمها، وهذا الاحتمال بعيد [8] . وقيل في تفسير الحديث: بكم فتح قلوب المؤمنين للإيمان وبكم ختم على قلوب المنافقين.

فظهر مما تقدم أن الله تعالى فتح بأهل البيت الدين وسيختمه بهم في آخر الزمان .

ومن خلال التتبع في سيرة أهل البيت عليه السلام نجد أن لكل واحد منهم طريقة في فتح الدين والمعارف، فبعضهم فتح الدين بنشر العلم، وبعضهم فتحه بطريقة الدعاء وآخر عن طريق الجهاد بالسيف، وآخر بواسطة الشهادة في سبيل الله تعالى.

فتح الإمام الحسين عليه السلام

عرفنا أن لكل واحد من أهل البيت طريقة في نشر العلم والدين والمعارف، وقد اختار الحسين عليه السلام بحسب الظروف التي كانت محيطة به طريقة الفتح بالشهادة، حيث قال :" من الحق بي منكم استشهد معي ومن تخلف لم يبلغ الفتح" ولتتضح الصورة بشكل أوضح لا بد لنا من أن نعرج على الفتح الذي قام به النبي صلى الله عليه واله وسلم ليتضح لنا الفتح الذي قام الحسين عليه السلام لأن فتح الحسين جاء لترميم ما هدمته السلطة الحاكمة من دين الله تعالى، والحسين عليه السلام كان قد رفع قبل خروجه شعار الإصلاح في أمة الرسول صلى الله عليه واله وسلم .

لقد كان لمكة مكانة وقدسية عند العرب منذ ومن إبراهيم الخليل عليه السلام وزاد في قدسيتها أن الله تعالى حفظها من كيد أبرهة ملك الحبشة حينما جاء لهدمها، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول .

ولما بعث النبي صلى الله عليه واله وسلم فيها ثم أخرج منها ظن الكثير من الناس بطلان دعوته متوهمين أن الله أخرجه وطرده منها كما طرد أصحاب الفيل.

فلما عاد الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى مكة يوم الحديبية تغيرت النظرة إليه، إذ كيف دخل إلى مكة ولم يصب بشيء ولم يمنعه الله عنها ؟ فأسلم خلق كثير[9]. وقد عبَّر الله تعالى عن هذا الدخول بالفتح قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا)[10]

وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم:" هذا أعظم الفتح " المصدر نفسه.

وهكذا كانت العرب تنتظر بإسلامها فتح مكة قائلين: إن ظهر محمد على قومه فهو نبي. فلما فتح الله تعالى مكة على يديه عام الفتح دخلوا في دين الله أفواجاً حتى سمي ذلك العام بعام الوفود وأنزل الله تعالى في ذلك قوله:( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)[11] وقال سبحانه: ( نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين )[12]. فسمَّى تعالى فتح مكة بالنصر من الله والفتح، لدخول الناس في الإسلام[13].

بعد البيان السابق نقول: كما ترتب على فتح مكة فتح القلوب ودخول الناس في دين الله أفواجاً، فقد ترتب على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام فتح عظيم وهو فضح الأمويين الذين تلاعبوا بالدين وحرفوه وضيعوه، فكشف عليه السلام عن حقيقتهم وعدم أهليتهم للخلافة وللأمانة على الشريعة، وبذلك تحقق الفصل بين أهل الخلافة الدنيوية وبين الدين، بحيث أن الناس لم ينظروا إليهم أنهم أصحاب الدين وإنما أصحاب الدنيا، وفي هذا أعظم الفتوح، ولذلك فإن شهادة الحسين عليه السلام كانت أعظم الفتح والنصر الديني[14] .

ولذا ورد عن الإمام السجاد عليه السلام لما رجع إلى المدينة وسأله رجل : من المنتصر يا ابن رسول الله ؟ فقال عليه السلام: إذا أذن المؤذن تعلم من المنتصر . المصدر نفسه .

نعم لقد دخل في دين الله أناس كثر من يوم شهادة الحسين إلى يومنا هذا ومن الشواهد على ذلك ما روي عن عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه قال : لما أتي برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد، كان يتخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين فيضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يوم أحد مجالسه رسول ملك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائها، فقال: يا ملك العرب رأس من هذا؟ فقال له يزيد: ما لك ولهذا الرأس قال : إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته؛ فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه؛ ليشاركك في الفرح والسرور فقال يزيد: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب  فقال: ومن أمه؟ قال: فاطمة الزهراء قال: بنت من؟ قال: بنت رسول الله، فقال الرسول أف لك ولدينك.

ما دين أخس من دينك إعلم أني من أحفاد داود، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظمونني ويأخذون التراب من تحت قدمي تبركا لأني من أحفاد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله وما بينه وبين رسول الله إلا أم واحدة، فأي دين هذا ؟ ثم قال له الرسول : يا يزيد هل سمعت بحديث كنيسة الحافر ؟ فقال يزيد : قل حتى أسمع، فقال : إن بين عمان والصين بحرا مسيرته سنة، ليس فيه عمران إلا بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخا ؛ وعرضها كذلك، وما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت والعنبر، وأشجارهم العود؛ وهي في أيدي النصارى لا ملك لأحد فيها من الملوك، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، أعظمها كنيسة الحافر  في محرابها حقة من ذهب معلقة فيها حافر يقولون : إنه حافر حمار كان يركبه عيسى، وقد زينت حوالي الحقة بالذهب والجواهر والديباج والإبريسم وفي كل عام يقصدها عالم من النصارى فيطوفون حول الحقة ويزورونها ويقبلونها، ويرفعون حوائجهم إلى الله ببركتها هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم؛ وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم، لا بارك الله فيكم ولا في دينكم، فقال: يزيد لأصحابه: اقتلوا هذا النصراني؛ فإنه يفضحنا إن رجع إلى بلاده ويشنع علينا، فلما أحس النصراني بالقتل قال : يا يزيد أتريد قتلي؟ قال: نعم، قال: فاعلم أني رأيت البارحة نبيكم في منامي وهو يقول لي: يا نصراني أنت من أهل الجنة. فعجبت من كلامه حتى نالني هذا، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ثم أخذ الرأس وضمه إليه وجعل يبكي حتى قتل[15].

 

الهوامش: ----

(1) فاطر :2

(2) الأنعام:59

(3) شرح أصول الكافي ج 10 - ص 147.

(4) كشف الأسرار:ص88.

(5) سبأ:26

(6) الأعراف: 89

(7) أهل البيت:ص159.

(8) موسوعة شهادة المعصومين عليه السلام ج 2 - ص 382 .

(9) نور الثقلين ج5ص48.

(10) الفتح:1

(11) النصر: 1-3

(12) الصف:3

(13) الفرقان ج30ص491

(14) الإمامة والولاية ص342.

(15)موسوعة شهادة المعصومين (ع) ج 2 - ص 382 .

: الشيخ وسام البغدادي