نص الخطبة
«أيّها النّاس، اتَّقُوا هؤُلاءِ المارِقَةَ الَّذِينَ يُشَبِّهُوَن اللهَ بِأنْفُسِهمْ، يُضاهِئونَ[1] قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهلِ الكِتابِ، بَلْ هُوَ اللهُ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصيرُ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ وَهُوَ الخَبِيرُ.
استّخلصَ الوَحدانِيَّةَ والجَبَرُوتَ، وأمضَى المَشِيئَةَ والإرادَةَ والقُدرَةَ والعِلمَ بما هُوَ كائِنٌ، لا مُنازِعَ لَهُ في شَيءٍ مِنْ أمرِه، ولا كُفءَ لَهُ يُعادِلُهُ، وَلا ضِدَّ لَهُ يُنازِعُهُ، ولا سَمِّي لَهُ يُشابِهُهُ، ولا مِثْلَ لَهُ يُشاكِلُهُ، لا تَتَداولُهُ الأُمورُ، ولا تَجرِي عَلَيهِ الأحْوالُ، ولا تَنزِلُ عَلَيهِ الأحْداثُ، ولا يَقدِرُ الواصِفُونَ كُنْهَ عَظَمَتِه، ولا يَخطُرُ عَلى القُلُوبِ مَبلَغُ جَبَرُوتِهِ، لأنَّه لَيسَ لَهُ في الأشْياءِ عَدِيلٌ، ولا تُدرِكُهُ العُلَماءُ بِأَلبابِها، ولا أهلُ التَّفكِيرِ بِتَفكِيرِهِمْ إلاّ بِالتَّحقِيقِ[2] إيقاناً بِالغَيبِ، لأّنَّهُ لا يُوصَفُ بِشَيءٍ مِن صَفاتِ المَخلوُقِينَ، وَهُوَ الواحِدُ الصّمَدُ، ما تَصَوَّرَ في الأوهامِ فَهُوَ خِلافُهُ، لَيسَ بِرَبٍّ مَنْ طُرِحَ تَحْتَ البَلاغِ، وَمَعْبُودٍ مَن وجِدَ في هواءٍ أو غَيرِ هَواءٍ، هُوَ في الأشْياءِ كائِنٌ لا كَينُونَةَ مَحظُورٍ[3] بِها عَلَيهِ، وَمِنَ الأَشْياءِ بائنٌ لا بَينُونَةَ غائبٍ عَنها، لَيسَ بِقادِرٍ مَن قارَنَهُ ضِدٌّ أوْ ساواهُ نِدٌّ، لَيسَ عَن الدَّهرِ قِدَمُهُ ولا بِالنّاحِيةِ أمَمُهُ[4]، احتَجَبَ عَنِ العُقُولِ كَمَا احتَجَبَ عَنِ الأبصار، وعَمَّنْ في السَّماءِ احِتجابُهُ كَمَنْ في الأرضِ، قُربُهُ كَرامَتُهُ وبُعده أهانَتُهُ، لا تُحلّهُ (في) ولا تُوَقِّتُهُ (إذ) ولا تُؤامِرُهُ (إنْ)، عُلُوُّهُ مِنْ غَيرِ تَوَقُّلٍ[5]، وَمَجِيئُهُ مِنْ غَيرِ تَنَقُّلٍ، يُوجِدُ المفقُودَ ويُفْقِدُ المَوجُودَ، ولا تَجتمِعُ لِغَيرِهِ الصِّفَتانِ في وَقتٍ، يُصِيبُ الفِكرُ مِنْهُ الإيمانَ به مَوجُوداً وَوُجُودُ الإيمانِ لا وُجُودُ صفةٍ، بِه تُوصَفُ الصِّفاتُ لا بِها يُوصَفُ، وبِه تُعرَفُ المعَارِفُ لا بِها يُعرَفُ، فَذلِكَ اللهُ لا سَمِيَّ لَهُ، سُبحانَهُ لَيسَ كَمِثْلِه شَيءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ البصيرُ».
المعنى العام
(أيّها النّاس، اتَّقُوا هؤُلاءِ المارِقَةَ الَّذِينَ يُشَبِّهُوَن اللهَ بِأنْفُسِهمْ، يُضاهِئونَ قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهلِ الكِتابِ).
وجه الإمام الحسين عليه السلام خطابه إلى عامة الناس سواء كانوا موالين أو غير موالين، أرشدهم فيه إلى التحرز والتحذر من فئة خرجت من الدين كما خرج السهم من الرمية (أي مرقت) خرجت بسرعة كما يمرق السهم من القوس، وما كان هذا التحذير إلا لانحرافهم عن التوحيد حيث إنهم يشبهون ويمثلون الله تعالى بخلقه، فقولهم هذا يشابه قول الكافرين من أهل الكتاب.
(بَلْ هُوَ اللهُ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصيرُ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ وَهُوَ الخَبِيرُ).
ويردف الإمام عليه السلام قوله بقوله إن الله تعالى الذي احتارت فيه عقول العقلاء لا يمكن أن يشابه شيئا من خلقه، فهو محيط بالأسماع والمسموعات والأبصار والمبصرات، وممتنع على إدراك وإحاطة أبصار خلقه، وهو (اللطيف) الرفيق بعباده (الخبير) والعالم والعارف بكل صغيرة وكبيرة من خلقه.
(استّخلصَ الوَحدانِيَّةَ والجَبَرُوتَ، وأمضَى المَشِيئَةَ والإرادَةَ والقُدرَةَ العِلمَ بما هُوَ كائِنٌ).
اختص الله سبحانه بأنه قاهر منفرد بقهاريته، وأنفذ الحكم والقدرة والعلم بالأشياء.
(لا مُنازِعَ لَهُُ في شَيءٍ مِنْ أمرِه، ولا كُفءَ لَهُ يُعادِلُهُ، وَلا ضِدَّ لَهُ يُنازِعُهُ، ولا سَمِّي لَهُ يُشابِهُهُ، ولا مِثْلَ لَهُ يُشاكِلُهُ).
لا معطل ولا مفسد ولا مخاصم لما أراد هو سبحانه في خلقه، ولا نظير له ولا مساوي يعادله، ولا مخالف له يخالفه أو يخاصمه ويمنعه، ولا يوجد من اسمه اسم الله تعالى لعدم انطباق الاسم على المسمى في المخلوق، ولا نظير له يماثله ويشابهه.
(لا تَتَداولُهُ الأُمورُ، ولا تَجرِي عَلَيهِ الأحْوالُ، ولا تَنزِلُ عَلَيهِ الأحْداثُ، ولا يَقدِرُ الواصِفُونَ كُنْهَ عَظَمَتِه، ولا يَخطُرُ عَلى القُلُوبِ مَبلَغُ جَبَرُوتِهِ، لأنَّه لَيسَ لَهُ في الأشْياءِ عَدِيلٌ، ولا تُدرِكُهُ العُلَماءُ بِأَلبابِها، ولا أهلُ التَّفكِيرِ بِتَفكِيرِهِمْ إلاّ بِالتَّحقِيقِ إيقاناً بِالغَيبِ، لأّنَّهُ لا يُوصَفُ بِشَيءٍ مِن صَفاتِ المَخلوُقِينَ، وَهُوَ الواحِدُ الصّمَدُ، ما تُصُوِّرَ في الأوهامِ فَهُوَ خِلافُهُ).
لا تحوّله الأحوال من حال إلى حال، ولا تقع أو تتوالى عليه الأحوال والتغيرات، ولا تهبط أو تهطل عليه الأمطار، ولا يحيط الواصفون بقدر عظمته ولا يقع أو يمر في القلوب منتهى قاهريته وقدرته، لأن ليس له في الخلق مثيل أو نظير، ولا تعرفه أو تعقله العلماء بعقولها وبصائرها، ولا يحيط به الذين يفكرون أي الذين يحلون العقل في المعلوم ليصلوا إلى المجهول وهم أهل النظر والتأمل إلا أنهم يعرفونه من خلال التصديق بالغيب والإيقان به، لأنه لا ينعت بنعوت المخلوقين، وهو الفرد الذي يقصد في الحاجات دون سواه، وما تشبه من صورة وما وقع في الذهن من خاطر فهو خلافه وليس من الحقيقة بشيء.
(لَيسَ بِرَبٍّ مَنْ طُرِحَ تَحْتَ البَلاغِ، وَمَعْبُودٍ مَن وجِدَ في هواءٍ أو غَيرِ هَواءٍ).
ليس بمدبر ومربي للخلائق من ألقي أو وضع تحت الشجر، وليس له حق العبادة من وجد في ريح أو غيره.
(هُوَ في الأشْياءِ كائِنٌ لا كَينُونَةَ مَحظُورٍ بِها عَلَيهِ، وَمِنَ الأَشْياءِ بائنٌ لا بَينُونَةَ غائبٍ عَنها، لَيسَ بِقادِرٍ مَن قارَنَهُ ضِدٌّ أوْ ساواهُ نِدٌّ).
أي أنه سبحانه موجود وحاضر في الأشياء دون أن يكون حادثا بحدث كما في الخلائق لامتناع ذلك عليه ولجريانه في الممكنات فقط، وهو مبتعد ومنفصل عن الأشياء لا ابتعاد غائب عنها كما في الممكنات، وليس بقادر من كان له قرين يخالفه أو نظير يساويه.
(لَيسَ عَن الدَّهرِ قِدَمُهُ ولا بِالنّاحِيةِ أمَمُهُ، احتَجبَ عَنِ العُقُولِ كَمَا احتَجَبَ عَنِ الأبصار، وعَمَّنْ في السَّماءِ احِتجابُهُ كَمَنْ في الأرضِ، قُربُهُ كَرامَتُهُ وبُعده أهانَتُهُ، لا تُحلّهُ (في) ولا تُوَقِّتُهُ (إذ) ولا تُؤامِرُهُ (إنْ)).
استتر عن العيون النواظر، واستتر عن أهل السماء كما عن أهل الأرض، دنوه من العبد يظهر في إكرامه له ونأبه وبعده يظهر في احتقاره أو استضعافه، واستخدم الإمام عليه السلام أدوات لغوية، (في) تشير إلى رفض حلوله في الأشياء أي غير متحد مع شيء أو داخل فيه، (وإذ) تشير إلى رفض جريان الزمن عليه، (وإن) إشارة إلى امتناع كونه مأمورا.
(عُلُوُّهُ مِنْ غَيرِ تَوَقُّلٍ، وَمَجِيئُهُ مِنْ غَيرِ تَنَقُّلٍ، يُوجِدُ المفقُودَ ويُفْقِدُ المَوجُودَ، ولا تَجتمِعُ لِغَيرِهِ الصِّفَتانِ في وَقتٍ).
ارتفاعه من غير صعود، واقدامه وإتيانه من غير حركة وانتقال، يخلق ما لم يكن، ويفني ما كان، وهاتان الصفتان لا يأتي بها أحد في آن واحد إلا الله تعالى.
(يُصِيبُ الفِكرُ مِنْهُ الإيمانَ به مَوجُوداً وَوُجُودُ الإيمانِ لا وُجُودُ صفةٍ).
لا يحصل الفكر منه إلا الإيمان به موجودا حاضرا شاهدا وهذا الإيمان الموجود في الفكر حقيقة لا شك فيها.
(بِه تُوصَفُ الصِّفاتُ لا بِها يُوصَفُ، وبِه تُعرَفُ المعَارِفُ لا بِها يُعرَفُ، فَذلِكَ اللهُ لا سَمِيَّ لَهُ، سُبحانَهُ لَيسَ كَمِثْلِه شَيءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ البصيرُ).
بالله تعالى تنعت النعوت وليست هي التي تثبت له نعتا، وبه تعالى تعرف العلوم والمعارف وليست هي التي تعرّفه وتشبه، فهذا الموجود المحير للعقول الذي تكلمت عنه هو الله تعالى الذي ينفرد بهذا الاسم والذي ينطبق في اسمه الاسم على المسمى، تنزه عن كل نقص ليس له نظير يشابهه، وهو المحيط بالمسموعات والمبصرات.
التحذير من الفكر المنحرف
(أيّها النّاس، اتَّقُوا هؤُلاءِ المارِقَةَ الَّذِينَ يُشَبِّهُوَن اللهَ بِأنْفُسِهمْ، يُضاهِئونَ[6] قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهلِ الكِتابِ).
حذر الإمام المعصوم عليه السلام الأمة من الانجرار وراء الأفكار الضالة البعيدة عن سبيل الله تعالى وأرشد إلى التحرز من ترويجها وبثها وتبنيها بل حث الأمة على رفض أصحاب هذه الأفكار ومقتهم وعدم مخالطتهم والاقتراب منهم لخطورة ما ينطقون به من ترهات إذ إنهم يجعلون الله تعالى كأحدهم من خلال تشبيهه تعالى بأنفسهم ومن خلال فهمهم الخاطئ والقاصر لآيات القرآن الكريم والجمود على ظواهر هذه الآيات وتعطيل دور العقل في الوصول إلى الحقائق، فنراهم يقولون بالرؤية البصرية ويقولون بوجود يد لله تعالى أو رجل أو صورة ويجعلون له أبعاداً من طول وعرض وحجم وكتلة في الوقت الذي يرفض القرآن الكريم هذا الفهم الخاطئ كما في قوله تعالى:
(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[7].
وقوله تعالى:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [8].
الهوامش:-------------------------------------------------------------------------------
[1] ضاهأه: شابهه، وفعل مثل فعله.
[2] اللّبُّ: العقل. والتحقيق: التصديق.
[3] المحظور: الممنوع.
[4] النّد: المثل والنظير. وأممه: قصده.
[5] تّوَقَّلَ في الجبل: صعد فيه.
[6] ضاهأه: شابهه، وفعل مثل فعله.
[7] سورة الأنعام، الآية: 103.
[8] سورة الشورى، الآية: 11.
اترك تعليق