التكوين الفني يحمل توقيع الفنان التشكيلي العراقي الدكتور هاني محي الدين.. والذي انجز تحت عنوان ( نوافذ )، كجزء من سلسلة اعماله التراثية والحضارية المتجددة في تزيين العمارة في بلاد وادي الرافدين برؤاه الحداثوية المميزة، وقد اعتمد في لوحته مبدأ الجمع بين اسلوبين من الممكن ان يكونا متناقضين.. فقد جمع بين الاشكال الواقعية في اجزاء من لوحته من جانب، وبين العلامات التجريدية ذات الدلالة من جانب آخر، فعمد على تحوير الاشكال الواقعية وتجريدها من ابعادها الحقيقية وربطها بعلاقات تركيبية بأسلوب الفن الحديث، انطلاقاً من ان فن الرسم في العقد الرابع من القرن العشرين عُرف بتطوره الملحوظ وارتقاء اساليبه الفنية، حتى عُد فورة من البحث والتجربة او ثمرة الحركات المتصارعة بين الشخصية والتجريدية عند الفنانين.. أي بمعنى اخر ان الفنان في هذه المرحلة كان مؤمناً باسلوبية الفن الحداثوية الداعية الى استمرار التوازن بين اسلوبين متناقضين هما الواقعية والتجريد بعلاماته الدلالية.
ولو تداخلنا متأملين في عناصر هذه اللوحة وحاولنا الولوج خلف اطار تحليل العلامات فيها، لوجدنا انها علامات متكاملة وتفضي عن ملامح كلية متميزة، فنجد انها تمثل مجموعة من النوافذ المنضوية تحت اطار نافذة كبيرة.. قسمها الفنان الى اجزاء متعددة، بغية ان ترمز الى الطبيعة والحياة من خلال النافذة المتمركزة والمتميزة في وسط اللوحة بعلاماتها وعلائقها الرابطة بين اجزاء اللوحة الاخرى، وقد اكد الفنان على العلاقات السياقية بين الاشكال وعمد على استخدام العلامات ضمن السياق العام للتكوين.. لتكون العلامات قد ترابطت في اطار النوافذ لتضفي تكويناً منسجماً، فكل نافذة جاءت متعالقة مع سياق باقي النوافذ.. وتضفي استكمالاً واضافة للمعنى في سياق النوافذ الاُخرى، إذ ان مدلولات الاشكال الدالة تختلف باختلاف نظام العلاقات الموجودة بين العناصر ضمن النسق الكلي للوحة، فالفنان قد استخدم الاشكال التجريدية في اطار النوافذ المحيطة بالنوافذ المتوسطة في مركز اللوحة.. والتي ترتبط مدلولاتها بعلاقة تتوحد في نظام الحياة والطبيعة وجماليتها ومعالمها التراثية والحضارية القديمة .
ومن جانب رؤيوي آخر لوضع العلاقة المتبادلة بين العناصر والرموز التي تشير اليها الاشكال والافكار المتضمنة فيها، فأننا نرى ان الاشكال والعناصر والعلامات التي استخدمها الفنان تتجمع بعلامة مفردة متكاملة جسد فيها اللوحة، فالعلامات والاشكال الواقعية التي تكونت منها النافذة المتمركزة في الوسط وفي الجزء العلوي من اللوحة، ورمز الشجرة والماء وشكل الناعور المتناغم مع الخلفية المضيئة بأشعة الشمس الصفراء.. قد اتى بها الفنان كدلالة لجمالية الطبيعة وكوسيلة جذب للمتلقي نحو تجريدية مرتبطة بها ومتعالقة و مندمجة في نفس الوقت مع النافذة العلوية، المتمثلة للناظر على شكل قبة مرتفعة، فضلاً عن لقاء الكائنات المتمثل بالحمامات وهي واقفة على اوتار القيثارة السومرية القديمة بتعالقها مع رموز النوافذ المجاورة.. المليئة بالحروف والكتابات المسمارية التي كتب بها التاريخ فهي رمز للحضارة الرافدينية وعطاءها الكبير.
لقد استخدم محي الدين رمز الحضارة الاسلامية المتمثلة بالأهلة والقباب التي تمثل قمة الحضارة الرافدينية بلا منازع، والتي تكونت عبر مديات واسعة من السنين المتراكمة من مفاهيم معمارية وحضارية.. شملت اطياف والوان المجتمع العربي بشكل عام، وقد مثلها الفنان في هذه اللوحة من خلال الرموز التجريدية التي شغلت بها النوافذ الاُخرى المحيطة بالنوافذ المركزية، فاستخدم الفنان الاشكال المثلثة المتمازجة مع الالوان لتشكل كبرى الاهرامات المصرية والزقورة العراقية رمزاً لمفاهيم ومؤشرات الحضارة العربية القديمة، اضافة الى رمز الطير وما حوله من الوان واشكال مبسطة توحي برمزية بناء الحياة من اجل الحضارة كما كان متعارفاً في القدم، وباعتماد العلامة بجزأيها الدال والمدلول تنشاء علامة معادلة في ذهن المتلقي تفسر العلامات الاولى المجتمعة، فتبدو لنا نسقاً من الادلة فان كل ما تتضمنه النوافذ الاُخرى من ألوان بنفسجية وزرقاء تطغى على اللوحة ورموز تجريدية تمثل الحياة والطبيعة وصفاتها وحيويتها، فان تجمع وتراكم الاشكال الواقعية مع الاشكال التجريدية وعلاماتها وتعالقها معاً بعلاقة متبادلة.. فهي تجسدت بعلامة فارقة ومفردة، الا وهي فكرة الحضارة الرافدينية القديمة، مما اكد الوظائف الداخلية للعلامات والاشتغال الداخلي للانساق التي جهد الفنان في اظهارها للمشاهد.
اما في اطار الاهتمام بالعلاقات التي تربط بين النسق الفردي للنتاج الفني والنسق العام.. فبإمكان المتلقي أرجاء الرموز وعلامات اللوحة الى النتاجات السابقة، عن طريق الشفرات التي استخدمها الفنان والاعراف الاجتماعية والثقافية، حيث نجد ان الفكرة الاساسية البارزة في هذا المنجز الحضاري ،هي فكرة الحضارة القديمة في اطار جملة من نتاجات الفنان هاني محي الدين الابداعية، حيث ان اغلب استلهاماته مستقاة من الحضارة الرافدينية القديمة، لكنه يعرضها بشكل معاصر ومغاير في استخدامه للرموز والعلامات المتنوعة، حيث ان الفنان قد استثمر الاشكال والرموز والعلامات بين واقعيتها وتجريدها من خلال النوافذ المفتوحة الى العالم المتلقي ليكتشف المضمون من خلال الشكل، فاستخدم الرموز التجريدية للأشكال المثلثة وبعض الخطوط المتقاطعة والالوان والقبة والهلال والشجرة والناعور والماء واسلاك القيثارة، اضافة الى استخدامه الحروف المسمارية كاستعارة ليستدل بها عن المعنى الحضاري وهي مجتمعة من خلال نوافذه المتعددة، لتتضح للقارئ المتلقي لهذا العمل الفني.. فكرة عدم وجود أي تعارض او تضاد بين الدلالات وسياق الاشكال والعلامات التي قد نشعر بها عند النظرة الاولى للعمل، فالفنان القدير هاني محي الدين قد استخدم التوافق بين هذه العلامات ودلالاتها.. منطلقاً من مرجعيته الفكرية والثقافية وتداعيات افكاره الابداعية.. الكامنة في التنقيب والبحث عن التاريخ في الحضارة ليكشف لنا عن المعنى المبتغى من اللوحة ويخرجها بهذه الصورة المعبرة.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق