تعد عملية النمو عند الطفل من اكثر العمليات الانسانية تعقيداً، وان وجميع مظاهرها متداخلة تداخلاً وثيقاً ومرتبطة فيما بينها ايجابياً، فالنمو العقلي عند الطفل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنمو الجسمي والنمو الانفعالي والاجتماعي ايضاً، وان القدرة العقلية للطفل لها صلة وثيقة بصحته البدنية التي تتأثر بانفعالاته المتأثرة بنجاحه أو فشله في البيئة الاجتماعية التي ينتمي اليها، ويرى بعض الفلاسفة الاوائل المهتمين بمجال النمو العقلي والجسدي ومنهم ارسطو أن الإنسان يمر في حياته بثلاثة أطوار تتمثل بطور النشأة الجسمية وهو الطور ألأول من الطفولة، ثم يليه طور النفس النزوعية أي نشأة الحساسية والغرائز أو الجانب اللاعقلي من النفس، ثم طور نشأة القوى الناطقة أو الطور العقلي، ولابد أن تسير خطوات تربية الطفل على غرار هذه الاطوار الطبيعية، إلا أنه من الواجب أن لا نهمل العقل او نغيبه عندما نكون معنيين بأمر الجانب الحسي وان لا نهمل النفس عندما نكون منصرفين إلى الجسد.
من هذا المنطلق يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار المرحلة التي يمر بها الطفل في كيفية التعامل معه من جانب وكيفية فهمه لمكونات العالم الذي يحيط به من جانب آخر، وبالتالي فهم مكوناته التي يضعها على سطح الورقة، حيث إن التطور الإنساني عموماً يتميز بالاستمرارية عبر العمر - مع النمو والخبرة - والتركيب ، فقد حاولت عديد من النظريات النفسية تقديم أُطُر وصفية وتفسيرية للتطور.. وأخرى متعلقة بالذكاء والدافعية ونشاط الرسم والتلوين، وكل هذه النظريات تؤكد أن السنوات الأولى من حياة الطفل هي من أهم السنين في تكوين شخصية الطفل، والتي تُعد المرحلة الحرجة من مراحل النمو الذهني والعاطفي والاجتماعي، وتعتبر مادة الرسم والتلوين تحديداً مادة حساسة جداً تحتاج لعناية خاصة، فقد أجمعت الدراسات النفسية الحديثة على أن نمو الأطفال يمكن تعزيزه بالتركيز على مواهبهم الفنية من خلال استخدام اللون في رسومهم.
ومن خلال مراجعة الدراسات الخاصة بمرحلة الطفولة نجد أن الطفل يمر عادة بثلاث مراحل ينتقل ابعدها إلى مرحلة المراهقة وهذه المراحل تتمثل بمرحلة الطفولة المبكرة والتي وضعها بياجيه ضمن عمر 8 أشهر وحتى نهاية السنة السادسة ، ومن ثم مرحلة الطفولة الوسطى المتمثلة بالمرحلة العمرية من السنة السادسة وحتى السنة الثامنة من عمر الطفل ، واخيراً مرحلة الطفولة المتأخرة والتي تشمل المرحلة العمرية من تسع سنوات وحتى السنة الثالثة عشر، وخلال هذه المراحل العمرية يحدث تطوراً ملحوظاً في نمو الطفل والذي يعتمد على مبادئ مختلفة حددها البعض بأربعة ميادين تتمثل بالنمو الحركي والنمو في السلوك الشامل لعمليات التكيف المختلفة - الإدراكية واليدوية والحركية والمعرفية والنمو اللغوي ومن بعده النمو الاجتماعي، ويكتسب الطفل من خلال هذه الميادين الاربعة المعلومات والمهارات ويكون مستعداً للاعتماد على نفسه ويكون مهيأً لعملية النشأة الاجتماعية والفكرية والمهارية .
النمو الحركي
و يكون مستمراً وتدريجياً وهو سمة من سمات الطفولة ، إذ أن التطور الذي يحدث في نمو العضلات والعظام في نهاية مرحلة الطفولة المبكرة يجعل من الطفل أكثر جرأة ودقة في استخدامه للخطوط والألوان، والتي تتكيف مع الزمن فتظهر في رسومه أنواع متعددة من الخطوط سواء أكانت مستقيمة أم مائلة أم دائرية، و تكون في بداية هذه المرحلة عبارة عن خطوط ملونة غير منتظمة أو مضطربة وهي تولد لديه شعوراً بالمتعة واللذة أثناء عملية الرسم، وهو يرى الخطوط والأشكال والألوان ، فهو يولع في هذا السن المبكر بحركات أعضاء جسمه طبقاً لرغبة حركية عقلية حيث تكون الحركة محتواة بداخله وتبحث عن متنفسٍ أم مخرجٍ ، وتتميز ألوانه هنا بأنها تحمل صفة الخيال والرمزية والذاتية .
أما في مرحلة الطفولة الوسطى ، فينتقل الطفل إلى مرحلة أكثر تطوراً في نمو القدرة الحركية من خلال تمكنه في السيطرة على عضلاته الإرادية، فهو يستطيع أن يمسك القلم بين أصابعه وكذلك بذل المجهود والقيام بأعمال جسمية تحتاج إلى مهارات مركبة كالكتابة والرسم والتلوين، فتمتاز حركاته بأنها تكون أكثر تنظيماً ودقة ، وترتبط حركة اليد بالأجهزة العصبية والحسية، حيث تبدأ الخطوط هنا تتحدد بأشكال فيتكون الشكل لدى الطفل في هذه المرحلة ويتصف بالثبات وهي محددة ضمن المرحلة العمرية الممتدة من السنة السابعة وحتى العاشرة من عمر الطفل، وتكون فيها ألوانه معبرة عن أشكال رمزية خيالية .
وترجع الأهمية التربوية لميدان النمو الحركي لا ترجع إلى أنه يربط سائر نواحي النمو ببعض فحسب بل إلى تكوين شخصية الطفل بأكملها والتي ستنظم أيضاً الصفات المتكونة لديه، مما يؤثرعلى أسلوب تلوين الطفل واختيار الألوان الأكثر دقة وممارسة التلوين بطرق وأساليب أكثر مهارة وقدرة على التعبير ، وهذا ما جعل رسوم الأطفال في هذه المرحلة أكثر اقتراباً للواقع من خلال تكوين علاقات بين الأشكال الموجودة في الطبيعة وألوانها وتأثير الظواهر الطبيعية.
النمو الحسي
إن النمو الحسي في السنوات الأولى من عمر الطفل وحتى السنة الثامنة لا يزال غير ناضج تماماً لكنه في مرحلة الطفولة المتأخرة يحدث تطوراً في قدرته على التميز الحسي للموضوعات الخارجية، وينعكس ذلك في رسومه فهو يستخدم الألوان التي تمتلك صفة التحريف الكلي فهو يبتعد عن التعبير الموضوعي متخذاً من التعبير الذاتي وسيلة ليفصح بها عن رغباته الشخصية، فالطفل يتلاعب بالألوان والأشكال والأماكن والأزمنة فيكون رسمه بذلك لا يتماثل مع أي وضع للأوضاع المألوفة في الطبيعة، حيث يبدأ الطفل هنا بمحاولة نقل الصورة الذهنية التي تنسجم مع الحقائق المدركة في المحيط الخارجي متخذاً من خاصية الشفافية كظاهرة يستخدمها ليعبر عن رغبته في التعبير عن ما يعرفه ، فهو يرى من خلال السطوح سواء أكانت شفافة أم غير شفافة ، ويرسم الأشكال والألوان المختبئة أو المحبوسة خلف حواجز معينة في داخله، ويبدو ان هذا نتيجة لتطور النمو الحسي الذي يؤدي إلى تطور الإدراك المعرفي في التعبير باستخدام اللون وبذلك تكون رسوم الطفل في هذا المرحلة تحمل صفة الواقعية ومحاولة تصوير العمق في اللوحة باستخدام اللون متجهاً نحو الحقائق المرئية الممزوجة بدواخله.
النمو الانفعالي
يكون الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة سريع الغضب وسريع الفرح فهو متقلّب الانفعال، ويرى علماء النفس أن خبرات الطفل الوجدانية ولانفعالية في طفولته الأولى لها الأثر الكبير في حياته، وقد استخدمت الجوانب التعبيرية والانفعالية للألوان في رسوم الأطفال للكشف عن بعض خصائص شخصية الطفل، فالتطور الملحوظ لنمو الطفل الانفعالي سوف يعتمد على عوامل مؤثرة هي التي ستساهم في هذا النمو والتي ستؤثر على حدوث تحول في اختيار الطفل للألوان التي تعبر عن هذه الانفعالات ، فتظهر الألوان في رسومه بدلالات عاطفية، وهو يحاول أن يسيطر على نفسه لأنه يرغب في أن لا يفلت زمام نفسه، ويعود سبب هذا للشعور بفرديته واهتمامه بالناحية الموضوعية في عالمه الخارجي، فبعد أن كانت انفعالاته مركزة حول حاجاته الفسيولوجية أصبحت مركزة نحو البيئة الخارجية، مما يجعل رسومه في هذه المرحلة تتصف بالرمزية الوصفية أو كما أطلق عليها هربرت ريد بالواقعية الوصفية.
ولكن عندما يبلغ الطفل مرحلة الطفولة المتأخرة نجده يحاول التخلص من الطفولة ، فيبدأ بتكوين استقلال ذاتي يعتمد فيه على نفسه في كثير من جوانب حياته النفسية دون الاعتماد على والديه، فهو قد اكتسب المهارات التي تشبع ميوله أو حاجاته ليدخل في فترة الطفولة الهادئة المتميزة بان الطفل فيها يكون ميالاً إلى المواقف التي تجلب له السرور وينفر من المواقف التي تؤلمه.
النمو الاجتماعي
يطلق البعض على فترة الطفولة المبكرة اصطلاح سن ما قبل الجماعة، ويعتبر اتصال الطفل بأقرانه خلال هذا السن محدد بمقدار نموهم الاجتماعي، فالطفل عندما يتحول لديه رسم الخطوط الملونة إلى تكوين الشكل مبتدأً بالشكل الإنساني وبأسلوبه الرمزي يبدأ برسم نفسه وغالباً ما يرسم شخصية واحدة تعبر عن ذاته وهي شخصيته، مستخدماً اللون الذي يميل إليه في تلوين هذه الشخصية، أما بعد السنة السادسة من عمره فنلاحظ أن الطفل سيبدي استعداداً كبيراً نحو الكبار، فيقوم برسم نفسه مع أمه أو مع إخوته ككل أو مع صديقه فيكون أكثر استعداداً لتكوين العلاقات الاجتماعية معبراً باللون عن الأشخاص الذين يميل إلى أن يكونوا معه في اللوحة من خلال تعرفه على مسميات أكثر من الألوان في هذا العمر .
وتتميز حالة الطفل ضمن هذه المرحلة، بأنه يكون ضمن مشكلات نفسية في صورة استجابات القلق أو الوساوس والأفعال القهرية على أن هناك عوامل تؤثر في نشأة أو ظهور المشكلات الانفعالية، من هنا نستطيع ان نقول أن النمو الانفعالي يرتبط بشكل واضح بالنمو الاجتماعي، فمن خلال علاقات الطفل الوليدة بينه وبين أقرب من حوله ، تتكون لديه أحاسيس وانفعالات تؤثر في نفسيته بشكل مباشر وتُبنى عليها لبنات شخصيته، وبالتالي يكون ميله إلى لون دون غيره من الألوان مفصحاً ومعبراً عن مشاعره، فهنالك عوامل اجتماعية تتكون منها عوامل ثقافية ومعرفية وخبرة يختزنها الطفل في ذاكرته مستمدة من ماهية علاقته مع مجتمعه المتمثل بالأسرة والمدرسة، ومدى فاعلية هذا المجتمع في إدراك أهمية هذه العلاقة وتنميتها نحو الجانب الايجابي في بناء شخصية الطفل، لذا نجد رسوم الاطفال في مرحلة الطفولة والوسطى والمتأخرة تتميز بشخصيات متعددة تمتلئ بها مساحة اللوحة وبألوان مختلفة الصفة، فضلاً عن الدقة في التلوين التي تتضمن العلاقات والتفاعلات والمشاركات الاجتماعية التعاون مع الآخرين، مما يدعو الطفل إلى الكثير من التساؤلات عن عالم الكبار من حوله لكي يأخذوا دوراً في حياته الخاصة.
النمو العقلي
تتميز مرحلة الطفولة المبكرة بالنمو العقلي السريع ومما يساعد على ذلك هو تعلم الطفل للنطق، اضافة الى التطور الذي يحدث في نمو حاسة اللمس مما يساعد على نمو الطفل العقلي وأهم ما يميز هذه المرحلة هو أن الطفل يمتلك خيالاً غير مقيد، وهو خيال غير خاضع للواقع فهو يبتكر ويحاكي ويفترض ما يحلو له، مما يؤدي إلى امتلاك الطفل القدرة على توسيع معانيه البصرية، فتكون ألوانه خيالية بعيدة عن الواقع معبراً بها عن ذاته كما يشاء بلا قيود.
اعداد
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق