ولكن هــلمَّ الخــــــــــطب في رزءِ سيدٍ * * * قضى ظمأ والمــــــاءُ جارٍ وراكدُ
كأنّــــــــــــــــــــي به في ثلّةٍ من رجالِهِ * * * كما حفَّ بالليثِ الأســـــودُ اللوابدُ
يخـــــــــــــوضُ بهمْ بحرَ الوغى وكأنه * * * لواردهم عذبُ المجــــــــاجةِ باردُ
إذا اعتقلوا ســــــــــمرَ الرماحِ وجرّدوا * * * سيوفاً أعارتها البطـــــونُ الأساودُ
فليس لها إلا الصــــدور مـــــــــــراكزاً * * * وليس لها إلا الــــــــرؤوسَ مغامدُ
يلاقون شدّاتِ الكمــــــــــــــــــاةِ بأنفسٍ * * * إذا غضبتْ هانتْ عـــــليها الشدائدُ
إلى أن ثووا في الأرضِ صرعى كأنهم * * * نخيلٌ أمــــــــــــــالتهنَّ أيدٍ عواضدُ
أولئكَ أربابُ الحفــــــــــــاظِ سمتْ بهمْ * * * إلى الغايةِ القصوى النفوسُ المواجدُ
ولم يبقّ إلا واحدُ النـــــــــــــاسِ واحداً * * * يكابدُ من أعدائهِ ما يكــــــــــــــــابدُ
يكرُّ فينثــــــــــــــــــــــالون عنه كأنّهم * * * مها خلفهنّ الضــــــــــارياتُ شواردُ
يحامي وراء الطاهــــــــــراتِ مجاهداً * * * بأهلي وبي ذاكَ المحــــامي المجاهدُ
فما الليثُ ذو الأشبالِ هِيـج على طوى * * * بأشجع منه حين قلَّ المـســــــــــــاعدُ
ولا سمعتْ أذني ولا أذنُ ســــــــــامعٍ * * * بأثبتَ منه في اللقــــــــــــا وهو واحدُ
إلى أن أسال الطعنُ والضربُ نفـــسَه * * * فخرّ كما أهـــــوى إلى الأرضِ ساجدُ
فلهفي له والخيلُ منــــــــــــهنَّ صادرٌ * * * خضيبُ الحوامـــــي من دمــاهُ وواردُ
فأيّ فتى ظلّت خيــــــــــــــــــولُ أميةٍ * * * تعادي على جثمـــــــــــــــانهِ وتطاردُ
وأعظـــــــــــمُ شيءٍ أنّ شمراً له على * * * جناجن صدرِ ابن النبيِّ مــــــــــــقاعدُ
فشلّتْ يداهُ حيــــــــــــــن يفري بسيفِه * * * مقلّد من تلقى إليه المــــــــــــــــــــقالدُ
وإن قتيلاً أحرزَ الشمـــــــــــــرُ شلوه * * * لأكرم مفقـــــــــــــــــــــــودٍ يبكّيهِ فاقدُ
لقى بمحــــــــاني الطفِّ شلواً ورأسه * * * ينوءُ به لدنٌ من الخــــــــــــــــطّ واردُ
ولهفي على أنصـــــــــــــارِهِ وحماتِه * * * وهم لسراحين الفلاةِ مــــــــــــــــــوائدُ
مضمَّخة أجســــــــــــــــــادُهم فكأنما * * * عليهنَّ من حمرِ الدمــــــــــــاءِ مجاسدُ
تضيءُ بهِ أكنافُ عرصةِ كــــــــربلا * * * وتظلمُ منه أربعٌ ومشــــــــــــــــــــاهدُ
فيا كربلا طلتِ السمـــــــــــاءَ وربما * * * تناولَ عفواً حظ ذي السعي قــــــــــاعدُ
بهذه الأبيات يطرق الشاعر جعفر الخطي واقعة كربلاء وهو يستذكر بروح متألمة تفاصيل عاشوراء، وهذا النفس ليس جديداً على شعراء البحرين، فتاريخ البحرين الشعري الولائي عريق راسخ القدم امتاز بأسلوبه الرصين ونَفَسِه الصادق، والبحرين عريقة في التشيّع حتى أن كلمة (بحراني) تُطلق عند غير الشيعة من سكان الخليج على الشيعي من سكان البحرين، فإذا قيل: (بحراني) أُريدَ به الشيعي.
يقول التستري في (مجالس المؤمنين): (إن تشيّع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والإحساء شائع من قديم الزمان)، ثم قال : (أبان بن سعيد كان عاملاً عليها مدة في مبدأ الإسلام وهو من الموالين لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما صار عاملاً عليها عمر بن أبي سلمة مدة، وأمّه أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) وهو أيضاً من شيعة علي فغرسا فيها التشيع). ويقول الخونساري في (روضات الجنات): (أهل البحرين قديمو التشيع متصلّبون في الدين خرج منها من علمائنا الأبرار جم غفير)، أما بالنسبة لتاريخ الشعر البحريني فقد اتحف سماء العرب بكواكب مضيئة على مرِّ العصور وخلف أبناؤها المبدعون تراثاً فكرياً خالداً.
وقد شهدت البحرين ولادة شعراء كبار تزعموا الحركة الشعرية في الخليج والوطن العربي في وقت ما، كما كان في عصر شاعر الخليج الشيخ جعفر الخطي الذي ولد في الخليج وعاش متغرباً حتى أدركته المنية في بلاد بعيدة، فكان أجمل شعره وأخلده هو ما كان صدى لعواطفه ومظهراً لحنينه لأرضه والتشوّق لمسقط رأسه، فكان لنا منه ذخيرة من الرقة واللوعة تدفّقت شعراً رقيقاً وقصائد شجيّة مليئة بأنين الفراق وزفرات الشوق والحنين، وهذه النبرة من الشعر البحريني لم تكن غريبة على شعراء عاشوا قبل الخطي وبعده حتى أصبحت سمة من سمات الشعر البحريني، فقد لهج به الشعراء نغماً عذباً وشدواً رقيقاً خالداً ذكره خلود الأدب ولعل أبرزهم هو جعفر الخطي الذي شاءت إرادة الله أن يذوق الغربة والنزوح عن الأوطان حتى يموت غريباً عن وطنه الذي طالما تغنى به وتشوق له فقال في بعض ذلك:
يا هلْ ترونَ لنــــــــازحٍ قذفتْ به *** أيدي البعادِ (لجدّحفص) إيابا
لاتحسب (البحريــــن) أني بعدها *** متبوئٌ داراً ولا أصحــــــابا
ما أصبحت (شيراز) وهي حبيبة *** عندي بأبهجَ من أوالِ جنــابا
القيسي العدناني
هو الشيخ جعفر بن محمد بن علي بن ناصب بن عبد الإمام الشهير بالخطي البحراني العبدي أحمد بني عبد القيس بن شن بن قصي بن دعمي بن جدلية بن اسد بن ربيعة بن نزار بن سعد ابن عدنان كما نص على نسبه هذا الشيخ البهائي (قدس سره) وقد عرف الخطي بكنية (أبي البحر) ولعل هذه الكنية جاءت إليه من نسبة بلده.
وجاء في ترجمته في (سلافة العصر) للصدر ما لفظه: (ناهج طرق البلاغة والفصاحة الزاخر الباحة. الرحيب المساحة. البديع الاثر والعيان الحكيم الشعر الساحر البيان. ثقّف بالبراعة قداحه، وأدار على السامع كؤوسه وأقداحه من الشهرة المدى وسار به من يسير مشمِّراً وغنّى به من لا يغني مقرراً، وقد وقفت على فرائده التي لمعت فرأيت ما لاعين رأت ولا أذن سمعت وكان قد دخل الديار العجمية فقطن فيها بفارس ولم يزل بها وهو لرياض الآداب جان وغارس حتى اختطفته ايدي المنون فعرس بفناء الفناء وخلد عرائس الفنون).
وربما يخطر ببال القارئ في هذه الترجمة إنها من أساليب الصنعة التي اشتهرت في ذلك الوقت وهو التفنن في الاسلوب البديعي الذي يقود الكاتب إلى الإطراء المبالغ فيجرّه السجع إلى تلوين كلماته وجمله فيشط عن جانب الحقيقة ولكن من يطلع على ديوان الشيخ جعفر الخطي يجد أن هذه الترجمة كانت تليق به وهو قمين بها وخليق، ومما يشهد على ذلك أنه لما سافر إلى طوس لزيارة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ذهب إلى أصفهان فالتقى بالشيخ بهاء الدين محمد العاملي الذي جمع إلى الحكمة والعلم والشعر والآداب، الفلسفة وعلم الكلام. فكان لقاء هذين العلمين في أصفهان مجالاً لتساجلهما بالشعر، فاقترح الشيخ البهائي على الخطي معارضة قصيدته الرائية:
سرى البرقُ من نجدٍ فهيَّج تذكاري *** عهوداً بحزوى والعذيبِ وذي قار
فقال له البهائي: قد أمهلتك شهراً فقال له الشيخ جعفر : بل يوماً في مجلسي، فاعتزل ناحية وأنشد هذه القصيدة التي مطلعها:
هي الدارُ تستسقيكَ مدمعكَ الجاري *** فسقياً فأجدى الدمعُ ما كان للدارِ
وفيها يقول:
فأنتَ امرؤ بالأمسِ قـــد كنتَ جارَها *** وللجارِ حــــقٌّ قد علمتَ على الجارِ
عثرتَ إلى اللـــذاتِ فيها على السنى *** سناءُ شمـــــوسٍ مـــــا يغبنَ وأقمارِ
فأصبح قد أنــــفقتَ أطيـبَ ما مضى *** من العـــــــمرِ فيها بينَ عونٍ وأبكارِ
نواصع بيض لو أفضـنَ على الدجى *** سناهنَّ لاستغنى عن الأنجمِ الساري
وفيها يذكر ايضاً حنينه الى وطنه البحرين فيقول:
أموسم لــــــــــــذاتي وسوق مآربي *** ومحنى لباناتي ومنهب أوطاري
سقتك برغمِ المحــــلِ أخلافُ مزنةٍ *** تلفّ إذا جــــاشتْ سهولاً بأوعارِ
وقال في مدح الشيخ البهائي:
إلى ماجدٍ يُعزى إذا انـتسبَ الورى *** إلى معشرٍ بيــــــضٍ أماجدَ أخيارِ
ومضطلعٍ بالفضلِ زرَّ قميــــــصه *** على كنـــــــزِ آثارٍ وعيبةِ أسرارِ
سميُّ النبيِّ المصـــــــطفى وأمينه *** على الدينِ في إيرادِ حكمٍ واصدارِ
ولما وصل الى قوله:
جهلتُ على معروفِ فضلي فلم يكن *** سواهُ من الأقوامِ يَعرفُ مقداري
قال له الشيخ البهائي وأشار إلى جماعة من سادات البحرين وأشرافهم كانوا جالسين عنده:
(هؤلاء يعرفون مقدارك إن شاء الله تعالى على أنه لم يبق فما أظنه من الأرض شبر لم تطبه). ولما أتم الخطي قصيدته الطويلة كتب اليه الشيخ البهائي مقرضاً: (أيها الأخ الأعز الفاضل الألمعي بدر سماء أدباء الأعصار وغرة سيماء بلغاء الأمصار. أيم الله إني كلما سرحت بريد نظري في رياض قصيدتك الغراء و رويت رائد فكري من حياض فريدتك العذراء زاد بها و لوعي وهيامي واشتد اليها ولهي وأوامي فإنما عناها من قال:
قصيدتُكَ الغـــرَّاء يا فرد دهرِهِ *** تنوبُ عن الماءِ الزلالِ لمن يظما
فتروي متى تُروى بدائع لفظها *** ونظماً اذا لم تــروِ يوماً لها نظما
ولعمري لا أراك إلا آخذاً فيها بأزمة أوابد اللسن تقودها حيث أردت، وتوردها أنى شئت وارتدت، حتى كانت الألفاظ تتحاسد على التسابق إلى لسانك والمعالي تتغاير في الانثيال على جناحك والسلام).
وللقارئ ان يتبين مدى شعرية الخطي من خلال هذا التقريض الذي جاء من علم من أعلام الفكر والأدب في التاريخ الإسلامي، ومفخرة من مفاخر الشيعة.
وهناك تقاريض أيضاً من أعلام عصره لم يخف عليهم انبهارهم بقصيدته وهي وإن تكن تقاريض جاءت من مفكرين وشعراء وكبار فإنها لا تقوم بشاعريته، وهي إن استطاعت أن تدل عليه وتشير، ولعل قصيدته الرائية التي ذكرناها هي من أجود شعره فقد بقيت تتناقلها الألسن وتشدو بها الأفواه في المجالس وفيها يخاطب الإمام المهدي (عجل الله فرجه) قائلاً:
وألزمتني مدح امرئٍ لو مـــــــــدحته *** بشعرِ بني حوا ودعْ عنكَ أشعاري
لقصَّرت عن مقدار مـــــــــا يسـتحقه *** علاه فإقــــــــلالي سواء واكثاري
إمام هدىً طـــــــــــهرٌ نقيّ إذا انتمى *** إلى ســـــــــادةٍ غُرِّ الشمائلِ أطهارِ
وبرٌ لبرٍ ما نسبت فصــــــــــــــــاعداً *** إلى آدم لـــــــــــــم ينمه غير أبرار
ومنتظرٌ مــــــــــــــــــا أخّر الله وقته *** لشيءٍ ســـوى إبراز حقٍّ وإظـــهارِ
له عزمةٌ تثني القضـــــــــــــاءَ وهمةٌ *** تؤلف بين الشاةِ والأسَدِ الضــــاري
أبا القاسم انهضْ واشفِ غلّ عصابةٍ *** قضى وطراً من ظلـــــمِها كلُّ كفّار
إلى م وحتى م المُــــــــنى وانتـظارنا *** سحائبُ قد أظللــــنَ من دونِ أمطارِ
ذوتْ نظرة الصبرِ الجميـــــلِ وآذنت *** بيبس لإهمالٍ تمـــــــــــادى وأنظارِ
ومن شعره في الحنين الى وطنه ما رسم منه صورة جميلة عن المجتمع البحريني في ذلك الوقت فيذكر الاماكن ويتشوق الى المنازل فيقول:
هلاّ سألتَ الربــــعَ من سيهاتِ *** عن تلكمُ الفتيــــــانِ والفتياتِ
ومجرِّ أرســـــــانِ الجيادِ كأنّها *** فوق الصعيدِ مساربُ الحيَّاتِ
ومجدِّفـــــاتِ السُّفنِ أدنى برَّها *** من بحرِها ومباركِ الهجماتِ
حيثُ المسامعُ لا تكادُ تفيقُ من *** ترجيعِ نوتيٍّ وصــــوتِ حداةِ
ويحل الخطي بمدينة شيراز سنة 1012هـ فيهيج وجده ويطول جواه فيقول:
يا ساكني الخُط في قلــــــــــبي لكمْ خططٌ *** معمورةٌ بمعــــــانيكمُ مغانيها
يا هلْ ترونَ لمـــــــــحنيِّ الضـلوعِ على *** ذكرِ الديارِ وقوفـاً في محانيها
ماذا على الطيرِ إذ أبلى الضـحى جسدي *** فخفَّ لو حمَّلتــني في خوافيها
إن يقعد الطيرُ عن حملي لكم وسرتْ *** ريحُ الصبا فاطلبوني في مساريها
ويقول تارة أخرى:
هل لي إلى تلك المنازلِ عودةً *** يخبو بها وجدي وفرط زفيري
هيهات ما شيــــراز وافية بما *** في تلكَ لي من نعمــــةٍ وحبورِ
وقد قُدر لله ان يموت بعيداً عن وطنه، فمات بشيراز سنة 1028هـ ــــ 1618م بعد ان ترك فكراً لا ينسى وإرثاً لا يفنى
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق