رسائل الحرية..

يعد العمل الفني التشكيلي رسالة محملة بكثير من الشفرات والرموز التي تحدد وتنفتح على الاخر، من خلال السياق الذي يحكمها وفق بنظام موجه من قبل الفنان الى المتلقي.. يرتب من خلاله الفنان وحداته المتنوعة والمستندة إلى التركيب والتوزيع الامثل بين وحدات العمل الفني، المحملة بتلك الشفرات التي تعد من أهم العناصر المؤلفة لأي فعل انساني تواصلي.. فهي تفصح بشكل او بآخر عن دلالات مبثوثة من الفنان تترجم عن طريق قدرة المتلقي في فك رموزها بما يحمله من ثقافة.. فالشفرة تتحكم في أنتاج الرسالة وتلقيها،  إذ أن مجمل الأعمال الفنية قبل أن تكون مجرد صور هي تعبيرات وأشكال ورموز نابعة من العقل وتتوجه إليه وتوحي بالمعاني من خلال طرق التعبير القائمة في شتى أنواع الفنون المرئية والمقروءة والمسموعة، مما يكسبها وظيفة إبلاغية لها قدرة الوصول الى المتلقي.. وهي في هذه الحالة تمثل سلطة توجيهية فاعلة أكثر مما تتضمن من معارف انسانية اخرى، فهي من وظائف الفنون المرئية المهمة والاساسية كونها تترك الاثر الاكبر في الجهة المتجهة اليها كونها رسالة صورية.

ومن هذا المنطلق  فان الأعمال الفنية التشكيلية تعد بمثابة أداة تواصل فكري تربط بين الأفراد بوساطة وظائف ابلاغها، فهي محملة بمفاهيم فكرية ترتبط بالفكر المجتمعي، سواء أكان لهذه المنجزات الفنية وظائف أخلاقية أو جمالية صرفة او سياسية او حتى اقتصادية، فهي في كل الأحوال تحمل مضامين سامية تتحرك بمرونة عالية في فكر وذات الفرد الفنان او المتلقي.. وبالتالي تشكل الضاغط المهيمن على فكر الفنان لينتج منها رسائل مجسدة بهيئات معبرة يحاكي من خلالها العقول ويؤثر بها،  سواء كانت بنية هذه الأشكال بلمسة واقعية او تعبيرية خاضعة لذات الفنان الفاعلة المؤولة، أو قد تكون  تجريدية متماسكة الاجزاء بنظم علائقها التكوينية التي تفصح عن الحالة المعالجة من خلال أنظمة التكوين، وايضاً معالجة الفضاء والخطوط والدراية باستخدام الألوان وأنظمة الظل والضوء والملمس، فضلاً  عن نوعية الخامات وحجوم الأعمال وأماكن وجودها، والتي تشكل بمجملها عوامل فاعلة ومتفاعلة للإفصاح أو للإبلاغ عن المفهوم المتجسد في البناء الشكلي للأعمال التشكيلية، وبالتأكيد هذا الافصاح او التقصي عنه لا يكون الا من خلال البحث في المهيمنات الفكرية المسلطة على الفنان وأساليب أحالتها إلى دلالات شكلية، وهذا يتطلب معرفة تامة ببنية الحالة المؤثرة على الفنان، كان تكون بنية سياسية طارئة او حضارية متأصلة التأثير على الفنان بمفرداتها المتحركة في الوسيط الاجتماعي.

ولكن لو حاولنا التملص والابتعاد عن دائرة الدراسات التأريخية والتطورية والمادية الجدلية التي تربط كل ابداع انساني بمقتضيات الظروف المادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتطورات هذه الظروف وملائمتها لحياة الانسان ، لوجدنا ان للفن صورة اخرى تتعدى هذه النظريات وتتجسد للمتلقي على شكل كيان متكامل قائم على جماليات العلائق بين الاشكال والصيغ المختلفة وبوسائط مادية تعبيرية متنوعة.. ولها القدرة على الافلات من دائرة الزمان والمكان المحددين بعصرها لتبث رسائل الفن لتمتد الى العصور اللاحقة وتعيش على كيانها المتجسد في المادة والشكل والتعبير، وهذا ما نلاحظه في فن الجداريات ببعديه المحددين.. والذي يعبر ومنذ القدم وحتى الوقت الحاضر عن فلسفة المجتمع الحر الذي بمعتقداته الدينية والحضارية والسياسية بشكل عام،  والتي تشكل اعماله وفق اغراض وقياسات تخدم حالة معينة ليؤلف جزءاً من الابنية المشيدة عادة او يتخلل جوانب الطرقات وجدران الابنية.

ويعد فن الرسوم الجدارية واحداً من اهم اجناس الفنون التشكيلية الحرة، الذي ابدعت اجمل روائعه الحضارات القديمة وبالخصوص حضارة وادي الرافدين.. التي جعلت من اعمالها الجدارية تشكل خطاباً تاريخياً تواصلياً بين الافراد وعبر المراحل التاريخية المختلفة، فقد عرضت بإبداعاتها اشكالات الفكر المجتمعي بدلالات واشكال رمزية ووظائف اجتماعية وسياسية مهمة.. لتكون بمثابة خطابات فكرية  يبثها فنان ما يخضع لمجموعة من الضغوط الفكرية، ويشكلها بهيئة رسائل او خطابات محددة بمجموعة من المهيمنات المؤثرة.. يخاطب من خلالها  جمهور من المتلقين ويؤثر بهم بشكل او بآخر، لتمتد تلك المؤثرات الى الاجيال المتعاقبة ببنائها الشكلي وانظمتها العلائقية التي تلعب الدور الفاعل في إيصال المفهوم الفكري المبتغى، ليكون هذا الفن مرآة عاكسة للارتباط المتماسك بين النظام الفكري والروحي والعقائدي.. وان تجليات هذا النظام بالشكل الفني والخطاب المجازي المحمل بالمفاهيم الكامنة، لا يمكن تمييزه الا من خلال اتباع رؤية واعية ومنظمة لقيد التحليل والتركيب لأنظمة العلاقات في الجدارية كظاهرة فنية، والتي كانت ومازالت لها الاثر الفاعل في تجسيد القوى المختلفة المؤثرة في فكر المجتمعات من الناحية السياسية والبيئية والدينية الروحية.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات