لعلّ سورة يوسف هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن، تتمحض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها، دون ان يتخللها نثٌر غير قصصي: عدا الآيات التسع التي تنتهي السورة بها: وهي ـ في الواقع ـ تعقيب على القصة ذاتها.
ومن الواضح، انّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة: يتحرك من خلالها بطل رئيسي واحد، ثم أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل... أقول: ان تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة، انما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ـ ونحن نتناول بالدارسة مثل هذه القصة.
والآن: ما هي الخطورة التي تنطوي عليها القصة أولاً؟ وما هي خطوط الشكل الفني الذي اعتمدت القصة عليه، ثانياً؟
إن أهمية قصة يوسف تتمثل في تضمنها أحداثاً ومواقف في غاية الإثارة. وهذه الاثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهم الدوافع لدى الانسان وأشدّها ألحاحاً، وفي مقدمتها: الدافع الجنسي.
يلي ذلك: دافع (الحسد) أو (الغيرة)، وهو دافعٌ ملح بدوره لا يكاد يتحرّر الانسان منه إلاّ بالتدريب الشاق: من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع وطرائق تهذيبه أو التصعيد به، أو التخلّص منه.
هناك أيضاً دافعٌ ثالثٌ ملح بدوره، تكشف القصة عنه، ألا وهو دافع السيطرة أو التفوّق.
وفضلاً عن ذلك كله: ثمة دوافع وحاجات وميولٌ ومواقف تكشف القصة عنها، مبيّنةً لنا طرائق التعامل معها، واشباعها بالطريقة السوية أو الشاذّة.
هذه الحاجات والمواقف ستتبلور أمامّنا بصورة واضحة، حين نقف على تفصيلات هذه القصة، وما تحفل به من أحداث وأبطال وبيئآت ومواقف: وبخاصة أنّها جميعاً صيغت في شكلٍ قصصيٍ حافل بأنواع الاثارة الفنية.
الشكل الفني للقصة
لقد بدأت قصة يوسف على النحو التالي:
(إذ قال يوسف لا بيه:
(يا أبت: إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).
هنا، أجابه أبوه، قائلاً:
(يا بُنّي: لا تقصص رؤياك على اخوتك، فيكيدوا لك كيداً. إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين).
إذن: القصة تعتمد على مادة حُلُميّة منذ البداية.
والحُلُمُ ـ كما هو واضح ـ يُشكّل في القصة المعاصرة بخاصة مادة فنية غنية في التقنية القصصية.
وأهمية الحُلُم تنبثق من كون الحُلُم، واحداً من أهمّ فعاليات السلوك البشري: في الجانب اللاشعوري من الشخصية. ولذلك، فإنّ استخدام مادة الحُلُم ـ في أعمالٍ قصصيّة يكتُبُها البَشرُ ـ إنّما تعدّ ذات أهمية كبيرة، نظراً لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الانسان.
ونحن الآن لا يعنينا أن نتحدث عن اللاشعور بمعناه الارضي وافتراقه عن التفسير الإسلامي لللاشعور، وصلة الأحلام بذلك, بل لهذا البحث مكان آخر تحدثنا عنه مفصلاً في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي،... وإنما يهمنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهمّ فعاليّات السلوك: في نطاقه خارج اليقظة، أو ما يسميه البحث الأرضي: خارج (الوعي).
على أية حال... حين ننقل هذه الظاهرة الى نطاقها الإسلامي، نجد انّ الحلم وهو نمطان: صادق وكاذب، إنّما يُعدّ الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء الى الشخصية: خارج يقظتها، بُغية الافادة منه في تصحيح السلوك: في نطاق الحالم نفسه، أو نطاق الآخرين، بحيث تتحقق الافادة إمّا بنحو خاص متصل بالحالم وبمن يعنيه أمره، او بنحو عام متصل بالجماعات الانسانية كلّها أو بعضها.
وحين نعود الى قصة يوسف نجد ان المادة الحلميّة في هذه القصة قد شملت هذه الانواع الثلاثة من الأحلام، أي:
1 ـ الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه.
2 ـ الحلم الخاص بمن يعنيه أمره.
3 ـ الحلم المتصل بالجماعات الانسانية.
اما الحلم الخاص بشخصية الحالم، فقد تمثّل في ثلاثة أحلام:
أ ـ حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكباً.
ب ـ ج ـ حُلُمَيْ صاحِبَيْهِ في السجن: في رؤية أحدهما يعصر خمراً، ورؤية الآخر حاملاً فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه:
(ودخل معه السجن فَتَيَان، قال أحدهما: إنّي أراني أعصر خمراً. وقال الآخر: إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تاكل الطير منه).
وهذا كله فيما يتصل بشخصية الحالم.
أمّا فيما يتصل بمن يعنيه أمره، فهو حُلُم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته. ثم حُلُما صاحبيه من حيث صلتهما بالملك الذي يخدمه الاول، ويصلب الآخر.
وأمّا النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الانسانية ـ في هذه القصةـ فهو: حُلُم المَلِك الذي رواه على النحو التالي:
(قال المِلُك:
(إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكلهن سبعُ عجاف. وسبع سنبلات خُضر وأُخَرَ يابسات)
وهذا الحلم يتصل ـ ليس بالحالم نفسه ـ بل برعيته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها.
اذن: الانواع الثلاثة من الأحلام، وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنية المثيرة:
ليس هذا فحسب... فالمادة الحلمية لم تقتصر ـ في هذه القصة ـ على استقطابها للانواع الثلاثة من الاحلام ـ بل تجاوزته أيضاً، إلى مهمة فنية أخرى هي: مهمة تفسير الأحلام الثلاثة.
إن تفسير الحلم يشكل بدوره جزء خطيراً من السلوك البشري.
فإذا كان الحلم فعاليةً لا شعورية أو فعالية غيبية، فان تفسيره هو الذي يمنح المعنى او الدلالة التي ينطوي السلوك عليها.
من هنا، فإن المادة الحلمية في قصة يوسف قد استكملت فنياً حينما أتبعت الحلم بتفسيره، وتوضيح دلالاته.
فالانواع الثلاثة من الأحلام، لم يتركها النص القرآني بلا جواب، بل أتبع كلاً منها بالتفسير الذي ينطوي الحلم عليه.
ونقصد بالأحلام الثلاثة: أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم، أو بمن يعنيه من الخاصة، أو بالجماعات الانسانية على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.
أما عدد الأحلام الذي وجد طريقه في قصة يوسف فهو أربعة احلام، ذكرت في القصة، يضاف إليها: حلمان ليوسف وابيه وذكرتهما نصوص التفسير، فيكون المجموع ستة أحلام. أمّا ما نتناوله الآن، فهو: أربعة احلام. وفي حينه نذكر الحلمين الآخرين.
1 ـ حلم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكباً.
2 ـ حلم احد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمراً.
3 ـ حلم احد صاحبيه في رؤيته حاملاً فوق راسه خبزاً تأكل الطير منه.
4 ـ حلم المَلِك في رؤيته البقرات السمان والعجاف ورؤيته السنبلات الخضر واليابسات.
هذه الأحلام الأربعة، قد أتبعت في قصة يوسف بتفسير كل واحدٍ منها.
ولكن نتبين معالم هذا البناء، يحسن بنا أن نقسمها الى عناصرها من أحداث وشخصيات ومواقف وبيئآت وأفكار: نظراً لما ينطوي عليه كل عنصر من قيمة جمالية وفكرية لا غنى للمتلقي من الوقوف عليها، حتى يتعرف على الأسرار الفنية لهذه القصة: ثم ما تنطوي عليه من أفكار تتصل باهم دوافع السلوك البشري، والافادة منها في تصحيح سلوكنا وتعدليه في ضوء مبادئ السماء التي تصوغ لنا أمثال هذه القصص حتى تكون عبرة لاولي الالباب: حيث ختمت القصة بهذه الحقيقة. وهي قوله تعالى:
(لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون).
ونقف أولاً مع ابطال القصة، بادئين بأبطالها الثانويين الذين ما رسوا مهماتٍ محددة ثم ببطلها الرئيسي يوسف عليه السلام.
ويمكننا أن نحدد هؤلاء الشخوص الثانويين في:
1 ـ يعقوب.
2 ـ إخوة يوسف.
3 ـ الاخر الاصغر.
4 ـ العزيز.
5 ـ إمرأة العزيز.
6 ـ نسوة المدينة.
7 ـ صاحبي السجن.
ومن الواضح، ان مهمّة البطل الثانوي ـ في أيّ شكلٍ قصصي ـ تتمثل في ابراز هدف محدّد، وفي إلقاء الضوء على الشخصية الرئيسية، مع ملاحظة انّ بعض الأبطال الثانويين في القصص الأرضي، قد يشكّلون (وجهة نظر مبدع القصة نفسها)، وقد يضطلعون بادوار قد لا يتاح حتى للبطل الرئيسي ممارستها، والمهمّ انّ القصص القرآنية الكريمة تحدثنا بلغتنا التي نألفها ونتذوقها حسب استجابتنا التي ركبتّها السماء وفق صياغة خاصة: تأخذ كلاً من جانب الامتاع الجمالي والفكري بنظر الاعتبار، وهو هدف الفن في كل أشكاله.
انّ الابطال الثانويين في هذه القصة، مارسوا أدواراً بالغة الأهمية، بحيث يضطلع كلٌ منهم بابراز هدف محدد: يلقي ـ من جانب ـ إنارة على شخصية البطل يوسف، ويبلور لنا ـ من جانبٍ آخر ـ أفكاراً معينة نفيد منها في تعديل السلوك.
ولعل كلاً من يعقوب عليه السلام، [اخوة يوسف]، ينهضان بأدوار بالغة المدى بالقياس الى سائر الابطال الثانويين، فيما تتجاذبهم من دوافع السلوك المتصل بدافع الابوة، ودافع الحسد وسواهما.
كما ان [امرأة العزيز] تضطلع بمهمة خاصة تتصل باحد (الدوافع) البشرية [الدافع الجنسي]،... مثلما يظل سلوك [نسوة المدينة] قائماً على دافع (الغيرة) والحسد والدافع الجنسي أيضاً... في حين يظل سلوك [العزيز ـ ملك مصر] و[صاحبي السجن]، متصلاً بدوافع اخرى نتحدث عنها لاحقاً.
ان ما يعنينا هنا، أن نقف عند كل بطلٍ ثانوي في القصة، لاستخلاص المهمة الفنية التي نهض بها، وتحديد موقعها العضوي من القصة.. ونبدأ بالبطل: يعقوب عليه السلام.
شخصية يعقوب
تظل هذه الشخصية ذات ملمحٍ مأساوي في القصة، نظراً للشدائد التي واجهتها. بيد انّ المأساة هنا تكتسب جانباً عبادياً يختلف عن المفهوم الأرضي للمأساة.
وأوّل ما يتبادر الى الذهن هو: دافع أو عاطفة (الابوة) التي تشكّل من اقوى (الحاجات) إلحاحاً عند الآدميين. وقد تضخّم حجم هذا (الدافع) بعاطفة اخرى هي صغر سن ولده يوسف،... ثم تضخّم حجمه ثالثاً بسمه (الجمال) الفائق الذي طبع ولده.
وفي ضوء هذا يمكننا ان نقدّر مدى (الحب) الذي يكنّه يعقوب لولده، وبالمقابل، ينبغي ان نقدّر ايضاً مدى (الألم) الذي سيلحق الاب حيال أي اذىً يلحق بولده. ثم ينبغي ان نقدّر مدى ضخامة المأساة في استجابة الاب، عندما تضخم مأساة ولده، الى الدرجة التي يفتقده، وليس مجرّد لحوق اذى به.
إنّ اول خيوط المأساة بدأت مع (الحُلم) الذي قصّه يوسف على أبيه. ويمكننا بسهولة ان نستكشف لغة المرارة في أعماق يعقوب، وشدة تخوّفه، في ردّه على يوسف، وتحذيره أيّاه من ان يقصّ رؤياه على اخوته: خشية ان يكيدوا به. قال لولده:
(يا بُنّي، لا تقصص رؤياك على اخوتك، فيكيدوا لك كيداً. انّ الشيطان للانسان عدو مبين).
ان (الكيد) أو التآمر ليس مجرّد مشاعر عدوانية تترجم الى سلوك لفظي وحركي عابر نألفه اعتيادياً في سلوك غالبية البشر، بل يعني حياكة عمل أو خطة للاطاحة بالشخصية وبحياتها، وهو امرٌ يكشف لنا عن مدى القلق والتمزق والتوجس الذي لفٌ شخصية يعقوب ـ عليه السلام ـ منذ حدوث الرؤيا، منعكساً في تحذيره الآنف الذكر.
أمّا من الزاوية الفنية، فينبغي أن نتنبّأ بالاحداث اللاحقة التي ستتحرّك في بيئة القصة، نتجية لهذه الكلمة المحذّرة من الكيد... أنّ هذا التحذير القائل: (لا تقصص رؤياك على اخوتك، فيكيدوا…) لم يرسم في القصة عبثاً، بل ينطوي على سمة فنية تتصل بالبناء العماري لهيكل القصة، ألا وهي: تهيئة ذهن القارئ لأن يتوقع حدوث مأساةٍ بالفعل: ولكن دون ان يتعرّف تفصيلاتها.
ومن الحقائق المألوفة في حقل الادب القصصي، انّ عملية (التنبؤ) بما سيحدث، تظل واحدة من ادوات الاثارة، ولكن شريطة ألا تصبح بشكلٍ جاهز، والافقدت القصة عنصر الاثارة بل ينبغي ان تحوم في دائرة ما هو (متوقع)، مضافاً الى تضبيب مستويات الحدث... فانت قد تتوقع مثلاً أن يصيب بطلاً ما أحد اشكال الاذى دون ان تتيقن ماذا سيحدث بالفعل: فقد يمرض مثلاً أو يُجرح، أو يُختطف، أو يُقتل، أو يغترب الخ...
ومن هنا يجيء عنصر (التشويق) في القصة في معرفة ماذا سيحدث حيال البطل بديلاً عن عنصر (التنبؤ) بالاحداث اللاحقة، فإنّ عنصر (المفاجأة) سيلعب حينئذٍ دوراً له فاعليته في هذا الصدد...
والمهم، إنّ تحذير يعقوب لولده، يتضمن [من الوجهة الفنية] عنصر (تنبؤ) بما سيحدث،... بيد ان تضبيب أو عدم معرفة ما سيحدث، هو الذي سيحقق لدى المتلقي عنصر اثارة كبيرة هو: التشويق لمعرفة هوية الحدث الذي سيواكب مصير يوسف عليه السلام.
(بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل...).
فهذه الاجابة الحاسمة، تكشف عن ان كل الملامح الخارجية التي افتعلها الابطال بالنسبة للحدث ولأنفسهم، قد فقدت فاعليتها، وان ملامح الجريمة هي التي طغت عل كل شيء.
وفي هذا: عظةٌ لمن اعتبر.
الدور الثالث لاخوة يوسف ـ عليه السلام ـ في هذه القصة: يتمثل في ذهابهم إليه وهو يتربع على عرش مصر، بيده خزائن الأرض واقوات الناس.
لقد أصحاب القحط الأرض. ويوسف ـ عليه السلام ـ هو الذي يوزع القوت على الجمهور. وآل يعقوب احدى الأسر التي اضطرت الى الذهاب لمصر لتحصيل القوت. حيث جمع يعقوب ـ عليه السلام ـ اولاده وأمرهم بالذهاب الى مصر، وفعلاً، قصدوا مصر:
(وجاء اخوة يوسف، فدخلوا عليه، فعرفهم، وهم له منكرون).
يبدو ان معرفة يوسف لهم وما تجدد له من حياته معهم ثم ما رآهم عليه الآن من الحرمان والفقر والمأساة التي كانت تظهر بارزة في وجوههم وأشياء من هذا القبيل تلمح من خلال هذه الجملة (فعرفهم وهم له منكرون) وقد رأى أنكارهم له أيضاً من جملة تلك المآسي والحرمان.
(ولما جهّزهم بجهازهم، قال: أئتوني بأخ لكم من أبيكم، ألا ترون اني اؤفي الكيل، وانا خير المنزلين).
كأنّ يوسف يريد بقوله (اخ لكم من ابيكم) أن يشعرهم ويلفتهم الى واقع الامر وأنه يعلم كل شيء ولكنهم لم يفهموا هذا التلميح.
(فان لم تؤتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون.
(قالوا: سنراود عنه أباه، وإنا لفاعلون.
(وقال لفتيانه: إجعلوا بضاعتهم في رحالهم، لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا الى اهلهم، لعلهم يرجعون.
("فلما رجعوا الى أبيهم، قال: ياابانا منع منا الكيل فارسل معنا اخانا نكتل، وانا له لحافظون.
إخوة يوسف
يجيء دور إخوة يوسف عليه السلام، بصفتهم ابطالاً ثانويين، في الدرجة الثانية بعد البطل يعقوب عليه السلام، من حيث تحركاتهم في القصة.
أما من حيث الأفكار فانّ دورهم في القصة يجسّد ظاهرة (الحسد) بأعتى أشكالها.
ان (الحسد) وفق التصور الاسلامي له، يعد أحد الدوافع الملحة في الطبيعة الانسانية، حتى أنّ المشرع الاسلامي صوّره لنا دافعاً لا تكاد تخلو منه نفسٌ إنسانية بما في ذلك: عظماء الرجال واتقياؤهم: كل ما في الأمر أنّ الاتقياء لا يترجمون حسدهم الى (عمل) بل يحتفظون به مجرد مشاعر وأحاسيس.
ومن هنا جاء حديث الرفع المشهور الذي لا يُحاسب الانسان على تسعة انماط من السلوك، منها: ما يُكره عليه، وما يضطر إليه، وما لا يطاق إلخ... ثم: (الحسد) مالم يظهر بلسان أو يد.
ولقد تحدثنا مفصلاً في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي عن ظاهرة (الحسد) من الوجهة النفسية والتكييف الدافعي لها من خلال وجهة النظر الاسلامية.
أما الآن: فحسبنا ان نشير الى (الحسد) بنحوٍ عابر ما دامت دراستنا للقصص القرآنية منحصرة في الجانب الفني منه.
ويكفينا من ذلك، ان نقرر بان الحسد وفقاً لحديث الرفع المتقدم، يشكّل دافعاً ملّحاً لا يُحاسب الانسان عليه ما دام مجرّد أحاسيس أو مشاعر. إما اذا ترجمت هذه الاحاسيس الى (عمل) من خلال اللسان مثلاً، كمن يحاول ان ينتقص من شخصيتك بدافعٍ من الحسد، أو من خلال اليد: كمن يحاول الاعتداء عليك، أو السعي لأيقاعك في مكروه أو شدّة... حينئذٍ فإن هذا السلوك يظل عُرضة للمسؤولية: حيث يتحمل الحاسد مسؤولية سلوكه: تبعاً لحجم الجريمة التي تصدر عنه.
انّ (الحسد) في اقصوصة أو حكاية قابيل هو الذي دفع قابيل إلى القيام بجريمة قتل كما لحظنا ـ ذلك في دراستنا لأقصوصة قابيل وهابيل.
وفي قصة يوسف ـ عليه السلام ـ: يقدّم النص القرآني نموذجاً جديداً من السلوك الحاسد، متمثلاً في السلوك الذي اقدم عليه إخوة يوسف، ونعني به: إلقاءهم ايّاه في الجبّ.
والآن: لنحاول متابعة النظر في سلسلة الأحداث والمواقف التي رافقت هذه العملية:
من خلال دور الذي اضطلع به إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ: بصفتهم ابطالاً ثانويين في القصة.
لقد ادرك يعقوب ـ عليه السلام ـ عندما قص عليه يوسف ـ عليه السلام ـ حُلمه. وعندما رأى هو بنفسه حُلُماً في هذا الصدد... أدرك ان اخوة يوسف يستحرّك (الحسد) من خلال اعماقهم ما دام يوسف أثيراً لدى والده ويحظى بحنانه وبخاص انه كان صغيرهم، وكان أجملهم وجهاً. وكذلك، كان الامر بالنسبة الى اخٍ صغير آخر لهم، هو بنيامين.
ولذلك حذّر يوسف ـ عليه السلام ـ من ان يحكي حلمه لا خوته. الا ان يوسف قصّ الرؤيا عليهم.
ليس في القرآن ما يدل على ان يوسف قصّ الرؤيا عليهم وانما أثير حسدهم على يوسف مما رؤا أن يوسف أحبّ إلى أبيهم منهم كما نص القرآن عليه هنا وفي قوله: (يخلُ لكم وجه أبيكم) حينما يحكي القرآن صورة المؤامرة من الإخوة على يوسف عليه السلام.
وفعلاً: جاء ردّ الفعل على قصّ الحلم عليهم في شكل محاولة شريرة سبقتها مشاعر وأحاسيس واضحة الانتساب الى الحسد. اذ قال بعضهم لبعض:
(قالوا:
(ليوسف وأخوه احب إلى أبينا منا ونحن عصبةٌ. ان ابانا لفي ضلال مبين).
ان هذا الحوار الجمعي بين الاخوة، يكشف عن تحرّك الحسد في أعماقهم، مادام الأمر متّصلاً بيوسف وأخيه لأبيه وامه. فهذا الانتساب وحده كاف في تفجير الحسد،... مضافاً إلى ذلك، أنهما كانا صغيرين: والصغير ـ عادة ـ يظل موضع حسد الأكبر منه.
يضاف إلى ذلك: التفوق في الملامح الجسدية. وهذا عنصر مثير ثالث للحسد.
أمّا العنصر الرابع المثير للحسد، فهو أيثار هذين الصغيرين لدى ابيهما.
وأخيراً... كان الحلم هو المثير أو المنبّه الأكبر لتفجير الحسد: حيث أدرك الاخوة تماماً انّ نجم اخيهم سيتألق، لان رمز الحلم هو. سجود الأحد عشر كوكباً، له. بل حتى (قال: هل آمنكم عليه إلاّ كما أمنتكم على أخيه من قبل. فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
(ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدت إليهم، قالوا: ياأبانا ما نبغي، هذه بظاعتنا ردّت الينا، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كل بعير، ذلك كيلٌ يسير.
(قال: لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتُنني به إلاّ ان يحاط بكم. فلما أتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل.
(وقال يابَنيَّ: لا تدخلوا من باب واحدٍ وادخلوا من ابواب متفرقة...
(ولما دخلوا من حيث امرهم أبوهم، ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلاّ حاجةً في نفس يعقوب قضاها…).
(ولما دخلوا على يوسف، آوى إليه آخاه. قال: اني انا اخوك. فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
(فلما جهزهم بجهازهم، جعل السقاية في رحل أخيه. ثم اذنّ مؤذن: ايتها العير إنكم لسارقون.
(قالوا: واقبلوا عليهم ـ ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك...
(قالوا: تاالله: لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنّا سارقين.
(قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه...
فبدأ باعويتهم قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه...
(قالوا: أن يسرق فقد سرق اخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم. قال: انتم شرّ مكاناً...
(قالوا: يا ايّها العزيز انّ له أباً شيخاً كبيراً، فخذ أحدنا مكانه... قال: معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده...
(فلما استيأسوا منه، خلصوا نجياً، قال كبيرهم: ألمْ تعلموا انّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله، ومن قبلُ ما فرطتم في يوسف. فلن ابرح الأرض حتى يأذن لي أبي..
(إرجعوا الى أبيكم فقولوا يا أبانا: انّ ابنك سرق وما شهدنا الاّ بما علمنا... واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، وانّا لصادقون...).
ومهما يكن ، فإنّ اخوة يوسف في هذا الدور، لم يضمروا ايّة نوايا سيئة مع اخيهم الاصغر بنيامين، بل انهم امتثلوا أمر أبيهم باصطحابه والمحافظة عليه والدخول من ابواب متفرقة الخ...
ولكنّ هذا الدور المتّسم بالحرص على بنيامين، قد خبأت له الاقدار حوادث مفاجأة لم تخطر ببال الاخوة قط...
وإذا كان الاخوة قد طبخوا مؤامرة خطيرة على يوسف، فان يوسف الآن، يتهيأ لطبخ مؤامرة عليهم: من خلال الاخ الأصغر بنيامين: حيث سيضع الكيل في رحل بنيامين، ويتّهم الجماعة بالسرقة، حتى يحتفظ ببنيامين، ويبقيه معه، لأسباب نفصلها فيها بعد: حينما تنحدث عن دور البطل الرئيسي يوسف عليه السلام.
اما الآن، فيهمنا ان نتحدث عن ردود الفعل التي لحقت الإخوة في مواجهتهم ليوسف ـ عليه السلام ـ أولاً وهم لا يعرفونه، وفي ردود الفعل التي لحقتهم بعد اطلاعهم على حادثة السرقة المفتعلة.
ثم يهمنا بعد ذلك: ان نبين هذا النمط من البناء الهندسي للقصة، حيث يقوم البناء على خطوط متوازنة من طبخ المؤامرات، ثم وقوع الاخوة الصغار ضحية هذا التآمر،... ثم وجود الفارق بين نمطين من التآمر: احدهما ينطلق من ظاهرة (الحسد) والنزعة العدوانية بعامة، مقابلاً للنزعة الخيّرة التي انطوت المؤامرة الثانية عليه: حيث حيكت لأسباب انسانية تستهدف المصلحة الخيّرة التي ستسفر عنها كل الحوادث والمفاجآت في القصة.
وأخيراً، يهمنا ان نبيّن أيضاً عنصر (المفاجأة) في القصة وهو عنصر فنّي له خطورته الكبيرة في ميدان الشكل القصصي.
والآن، نتقدم أوّلاً بتوضيح الجانب الفكري، متمثلاً في ردود الفعل التي صدرت عن الاخوة تجاه يوسف عليه السلام، عندما دخلوا عليه وهم لا يعرفونه.
وتقول النصوص المفسّرة، ان يوسف ـ عليه السلام ـ حينما قابلهم وهم يعتزمون الحصول على الطعام: سألهم عن هويتهم، فأجابوه بانهم من ارض الشام.
ولما قال لهم: أخشى ان تكونوا جواسيس على بلادنا، أجابوه بانهم اولاد نبيّ من انبياء الله وهو يعقوب عليه السلام، وانّ اباهم لشخصٌ محزون.
ثم سألهم عن سبب حزن أبيهم: فأجابوه بانّهم قد كان لهم اخ صغير صحبوه ذات يومٍ في الصيد، فأكله الذئب.
هنا، يعنينا ان نشير الى ان الاخوة مارسوا في هذا الموقف، نفس السلوك السابق: القائم على الكذب. وهو موقف سيترك أثره على يوسف ـ عليه السلام ـ دون ادنى شك، حيث يقتنع تماماً بانّ الاخوة لا يزالون عند سلوكهم السابق.
وممّا عزّز هذه القناعة، انّ اخوة يوسف، اضافوا الى موقفهم السابق، موقفاً سلبياً جديداً يكشف عن إصرارهم على الصدور من الاعماق الحاسدة، والى انّ تنفيذهم لعملية إلقاء يوسف في البئر لم تشفِ أعماقهم من الحسد. ففي حادثة افتعال السرقة للكيل، وجهوا ليوسف ـ وهم لا يعرفونه بطبيعة الحال ـ وجهوا له تهمة السرقة عندما قال لهم: أنّ اخاهم الاصغر بنيامين قد سرق صواع الملك. هنا قال إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ:
(إن يسرق، فقد سرق اخ له من قبل).
هذه الإجابة، تكشف عن أنّ اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ لا يزالون يصدرون عن موقف حاسد ليوسف بالرغم من انهم تخلصوا منه في حادثة إلقائه في البئر... انهم، مع ذلك كلّه، يتّهمونه بالسرقة دون ان يكون هناك مسوّغ لهذه التهمة.
والمهم، ان يوسف ـ عليه السلام ـ اكتشف هذه الحقيقة، وانها لحقيقةٌ بالغةٌ الأهمية دون ادنى شك، ما دامت تفصح عن حقيقة الأعماق الحاسدة لهؤلاء الإخوة،حتى انّه صرح بمرارة، متحدثاً مع نفسه، قائلاً:
(انتم شر مكاناً، والله أعلم بما تصفون).
امرأة العزيز
هذه الشخصية الثانوية، لعبت في القصة دوراً لافتاً للانتباه، لايقل في أبعاده المأساوية عن المؤامرة التي حاكها اخوة يوسف عليه السلام.
ان كلاً من اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ وامرأة العزيز، يجسدان بناء هندسياً قائماً على (الموازنة) الفنية في حركة القصة: من حيث انطوائهما على دلالات (متجانسة)، ومن حيث تأثيرهما على شخصية يوسف ـ عليه السلام ـ وتحديد المصائر التي انتهى البطل اليها.
وهاتان الشخصيتان ـ في الآن ذاته ـ تتحركان من مواقع متفاوته، وتفرزان دلالات متفاوتةً أيضاً. ومن هنا يمكننا ان نستكشف خطورة الفن الذي (يجمع) بين المتضادات، ويضاد بين الوحدات المتماثلة، أو لنقل: الفن الذي يحقق عنصر (التضاد) من خلال (التماثل)، و (التماثل) من خلال (التضاد).
ثمة مؤامرتان. أحداهما تنطلق من دافع (الحسد)، والأخرى من [الدافع الجنسي]، وهما متضادتان... غير انهما تقتادان الشخصية الى سلوك مماثل هو: التآمر. الاولى يمثّلها رجل، والثانية تمثّلها امرأة، وهما متضادتان، لكنهما تتماثلان في تخطيط السوء.
الأولى، يمثّلها أخوة، أقارب. والثانية يمثّلها من الاباعد، أمرأة غريبة، وهما متضادتان... الاولى: حادثة إلقاء في البئر، والثانية: حادثة إلقاء في السجن، وهما متماثلان.... الاولى: محاولة (تخلّصٍ) من يوسف. الثانية، محاولة (تعلّق) بيوسف، وهما متضادتان... وهكذا...
اذن: كمن هو جميلٌ، وممتعٌ: مثلُ هذا البناء الهندسي لمنطين من ابطال القصة الثانويين، فيما يقوم الهيكل على عنصر التضاد، والتماثل، والوحدة بينهما...؟
ولكن، لندع عمارة القصة فنياً، ولنتجه إلى امرأة العزيز لملاحظة الدلالات الفكرية لسلوكها، وانعكاس ذلك على شخصية البطل يوسف عليه السلام.
فيما يتصل بالدافع الجنسي، لا حاجة الى الحديث عنه، بقدر ما ينبغي لفت الانتباه الى (المقارنة) بين سلوك امرأة العزيز ويوسف، حيث يمكننا ان نستخلص بسهولة: إمكانية السيطرة على الدافع الجنسي: من خلال سلوك يوسف ذاته. ثم، نتائج مثل هذه السيطرة التي حولت يوسف ـ عليه السلام ـ [وهو عبدٌ اشترته إحدى القوافل بدراهم معدودة] إلى (ملك)،... وبالمقابل، تحوّلت زوجة الملك، الى [امرأة بائسة]، فيما تقول النصوص المفسرة انّ امرأة العزيز قالت له بعد ان التقته ملكاً وقد افتقرت [الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً، والعبيد بالطاعة ملوكاً].
هذه الفقرة التي ذكرتها بعض النصوص، تلقي كلمة حاسمة في تحديد نتائج التحكم والسيطرة على الدافع الجنسي، ونتائج عدم السيطرة، فيما تجعل الملوك عبيداً بسببٍ من المعصية، وتجعل العبيد ملوكاً بسببٍ من الطاعة، وكفى بذلك عظةً لمن اعتبر.
اذن: الدلالة الاولى التي نستخلصها من هذه الشخصية، هي: ان الالتواء في السلوك الجنسي، ومحاولة ممارسته بنحوه غير المشروع، يقتاد الشخصية إلى نتائج ليست في صالح الممارس: حيث اخفقت امرأة العزيز في تحقيق الممارسة. فضلاً عن أنّها قادتها الى المصير البائس الذي نقلته النصوص المفسرة.
الدلالة الثانية لهذه الشخصية، هي: ان المرأة التي لا تخاف الله، قد تتحول من شخصية (محبة) الى شخصية (معادية) في ساعات محدودة [ في حالة عدم تحقيق حاجاتها غير المشروعة]، حتى وصل الأمر إلى ان تودع البطل في السجن، فضلاً عن تشويه سمعته، على النحو الذي سردته القصة مفصلاً. ومن هنا ندرك أهمية الحقيقة التي اشار اهل البيت ـ عليهم السلام ـ الى ما مؤدّاه: من انّ المرأة تصبر على (الحب) اعواماً، لكنها لا تكتم (كراهيتها) ساعة. حتى انها لا تتورع البتة من ايقاع الرجل في التهلكة: سواءاً كان ذلك متصلاً بتشويه سمعته، أو بأنهاء حياته.
أما فيما يتصل بالانارة التي القتها هذه الشخصية على البطل يوسف عليه السلام، فتتمثل في كشفها أولاً عن نظافة يوسف، وصبره، وتقواه، وايثاره السجن على ما هو محرم، حتى انها اضطرت ـ في نهاية المطاف ـ الى الاقرار بنزاهة يوسف عليه السلام، وهو ما يشكل قمة الانارة في مهمة هذه الشخصية الثانوية، شخصية يوسف عليه السلام.
وقد ترتب على ذلك، أن تحولت هذه الشخصية من امرأة سيئة، الى امراة ايجابية أعلنت عن مفارقة سلوكها، وأقرت بنظافة يوسف عليه السلام، أي: رُسمت هذه الشخصية ـ حسب لغة الادب القصصي ـ شخصية (نامية) وليست (مسطحة)،... شخصية، بدأت في أول القصة تخاطب زوجها: (ما جزاء من أراد بأهلك سوءً). وانتهت بهذا الاقرار: (انا راودته عن نفسه)... بدأت (كاذبة) وانتهت (صادقة).
ولا يغب عن ذاكرتنا، ان اخوة يوسف ـ عليه السلام ـ بدورهم، بدأوا ـ في القصة ـ وهم متآمرون، وانتهوا (تائبين)، مما يشكّل بُعداً جديداً من عناصر (التماثل) الفنّي ين نمطي الشخصيات الثانوية التي سبقت الاشارة الى صياغتها متضادة من خلال التماثل، ومتماثلة من خلال التضاد.
والمهم، ان دلالة (التعديل) في السلوك، ينبغي ألاّ نغفلها ايضاً عبر وقوفنا على هذه الشخصية الثانوية (امرأة العزيز).
نسوة المدينة
كان اخوة يوسف ـ بصفتهم جزء من الابطال الثانويين في القصة ـ قد جسّدوا ظاهرة (الحسد) كما لحظنا.
ويبدوا أنّ النص القصصي يريد أن يلفت انتباهنا الى هذه الظاهرة بكل محدداتها، بما في ذلك: الفروق بين الجنسين، فابرز لنا ظاهرة الحسد أو الغيرة في العنصر النسوي أيضاً، في نطاق التجارب الخاصة بالمرأة.
ولنقرأ النص القصصي أولاً:
"وقال نسوة في المدينة: إمرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً، إنّا لنراها في ضلال مبين:
(فما سمعت بمكرهن، أرسلت اليهنّ، واعتدت لهن متكئاً، وآتت كلّ واحدةٍ منهنّ سكيناً.
(وقالت: أخرجْ اليهّن. فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن، وقلن: حاش لله، ما هذا بشراً إن هذا إلاّ ملكٌ كريم.
(قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه. ولقد راودتُه عن نفسه فاستعصم. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين).
إنّ ما يُلفت الانتباه لدى نسوة المدينة، أنّ الدافع إلى انتقاد هن إمرأة العزيز لم يكن فيما يبدو موضوعياً نابعاً من إحساسهن بالفضيلة، بل كان نابعاً من الحسد والغيرة، حيث وجدن انّ امرأة العزيز حظيت برجلٍ حرمن هن منه.
إنّ النص القرآني الكريم، يريد ان يبرز في هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة... يريد ان يبرز لنا ظاهرة كمْ هو حريٌ بالمرأة ان تلتزم بها في نطاق علاقتها بالجنس الآخر.
انه يُريد ان يقول للمرأة: عليك أن تتحركي في السلوك من خلال الموضوعية لا من خلال الذات. عليك أن تنهي عن المنكر لانه منكرٌ فحسب لا لأنه منكرٌ بالقياس الى سواك، وغير منكرٍ بالنسبة إليك.
فالمفروض ان تنتصر المرأة للفضيلة: حباً بالفضيلة، والتزاماً بأوامر الله سبحانه وتعالى: لا أن يكون الانتصار نابعاً من الغيرة او الحسد: ففي مثل هذا لسلوك تكون المرأة قد سلكت مفارقتين أو جريمتين: الجريمة الأولى: أنها لا تنهى عن المنكر إذا كان ذلك متصلا بحاجتها الذاتية. والجريمة الثانية: انها تفتعل إنكار المنكر وتلبس قناع الفضيلة زيفاً لا حقيقةً.
والدليل على ذلك كله: ان النص القصصي قدم لنا تجربتن احداهما لفظية والاخرى عملية، ليدلل لنا على السلوك المنكر لدى نسوة المدينة.
أما التجربة اللفظية فتمثل في قول امرأة العزيز من خلال هذه الفقرة: (فلما سمعت بمكرهن).
فلقد وصفهن الله بسمة (المكر) على لسان امرأة العزيز وإلاّ، لكان يخلع عليهن صفة ايجابيةً لو كنّ حقاً نسوة يحرصن على الفضيلة.
وأما التجربة العملية، فقد ابرزها النص أيضاً من خلال تحرك امرأة العزيز: حيث هيأت لهن وسائد أو أعدت لهن وليمة وأمرت يوسف ـ عليه السلام ـ بالخروج عليهن بعد ان هيأت امامهن مجموعة من السكاكين: حيث كانت النتيجة ان ينخلع لبهن من الاثارة الى الدرجة التي قطّعن ايديهن انبهاراً بدلاً من تقطيع الفواكه مثلاً...
ان هذه التجربة العملية تدلنا بدورها على ان نسوة المدينة لم يكن نقدهن لامرأة العزيز نابعاً من الفضيلة والالتزام بمبادىء السماء، بدليل انهن وقعن في نفس السلوك المنكر الذي صدرت عنه إمرأة العزيز.
وخارجاً عن ظاهرة الحسد أو الغيرة، فإنّما يمكن استخلاصه من هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة، يتمثل أيضاً في جملةٍ من الحقائق، لعل ابرزها هو: تجنب عنصر الاثارة أساساً.
إن لقاء الرجل اساساً بالمرأة، ينبغي ان يتم في تحفظٍ بالغ المدى. والمشرع الاسلامي ـ على سبيل المثال ـ حينما يمنع لقاء الجنسين لغير ضرورة، انما يأخذ عنصر الاثارة بنظر الاعتبار، أي: إنّه يمنع المحادثة أو النظر أو الخلوة بين الجنسين: بغية تجنب الاثارة، والاّ فان الاثارة تحصل بالضرورة إلاّ من عصم الله.
من هنا حصل تقطيع الايدي مثلاً نظراً لتوفر عنصر الاثارة.
بل إن هذا العنصر دفع امرأة العزيز الى ان تتمادى في المنكر والى ان تخلع قناع الخجل الذي ينبغي ان تصدر عنه بعد الفضيحة، لكنها ركبت غيّها واعترفت قائلة: (ولقد راودته عن نفسه). بل إنّها ذهبت اكثر من ذلك، حيث تشجّعت على ان تطالبه من جديد بممارسة المنكر، حتى وصل الأمر الى التهديد بايداعه في السجن، قائلةً: (ولئن لم يفعل ما آمره، ليسجنن).
ان هذا الإعلان الصريح عن المنكر، انا صدرت امرأة العزيز عنه، لأنها وجدت ان نسوة المدينة قد قطعن ايديهن من الاثارة، مما شجعها الى ان تتمادى في الغيّ، على النحو الذي أوضحناه.
إذن: الظاهرة الاخرى التي يمكن استخلاصها، بعد الحسد أو الغيرة، في الدور الثانوي لنسوة المدينة، هي: ضرورة أن يتجنب كلٌ من الجنسين مواطن الاثارة من محادثة أو نظرٍ أو خلوة بينهما.
وأما الظاهرة الفكرية الثالثة التي ينبغي استخلاصها أيضاً، من هذا الدور الثانوي لبطلات نسوة المدينة، هي: ضرورة أن يصدر المرء عن سلوك موضوعي في تصرفاته لا أن يتلبس بقناع الفضيلة تحت دافع ذاتي ملوث يحّن الى الرذيلة في اعماق نفسه.
هذا كله، من حيث القيم الفكرية لبطلان نسوة المدينة.
وأما من حيث القيم الجمالية أو الفنية، فإنّ هذا الدور ينطوي على إمتاع حافل بالاثارة من حيث الرسم الخارجي لملامح الابطال، وللبيئة التي تحركوا من خلالها. فقد رسمت البيئة وهي مائدة طعام، ووسائد، وسكاكين لتقطيع الفواكه.
ثم رسمت ملامح الأبطال الخارجية وهي: مرأى أيدٍ تقطع بالسكاكين بدلاً من تقطيع الفواكه: في غمرة مرور يوسف ـ عليه السلام ـ وفي غمرة جلوس امرأة العزيز مراقبة عن كثب: ردود الفعل في هذا الميدان.
إن هذا المرأى الممتع فنياً، قد أحكم ـ من حيث البناء الهندسي ـ حينما نلاحظ الصلة العضوية أو التلاحم بين رسم البيئة ورسم ملامح الابطال: أي بين مرأى الفواكه والسكاكين، ومرأى الأيدي التي تقطّعت بعد ذلك.
والمعروف ـ في لغة الادب القصصي ـ أن الفنّ يبلغ قمته العالية حينما يكون ثمة ترابط أو صلة بين وصفين خارجيين: أحدهما لعنصر (البيئة) والآخر لعنصر (الابطال): حيث يكشف الترابط بين وصف البيئة [سكاكين: فواكه] ووصف الملامح الخارجية [تقطيع الأيدي] عن إحكام هذا المبنى القصصي، وما يواكبه من الامتاع الفنّي في هذا الصدد.
البطل: (العزيز) أو (ملك مصر)
يتفاوت المفسرون في تحديد شخصية (العزيز) الذي اشترى يوسف.
ولا يهمنا تحديدُ هويته بقدرما يهمنا ان نتعرف على دوره في القصة، بصفته بطلاً ثانوياً ينطوي دوره على (أفكار) تستهدفها القصة، كما ينطوي على مهمات فنية في تطوير أحداث القصة.
ودور هذا البطل ينحصر في ثلاث وقائع:
أولها: موقفه من يوسف في صراعه مع امرأة العزيز.
الثاني: رؤياه التي فسرها يوسف.
الثالث: توليته ليوسف على خزائن الأرض.
أمّا موقفه من يوسف في صراعه هذا الأخير مع امرأة العزيز، فيتميز بكونه صادراً عن شخصية ضعيفة لا تستطيع حسم الأمور بقدر ما تنصاع لأوامر امرأة متحكمة، تستبد بها أهواؤها، الى الدرجة التي تفرضها على زوجها. بالرغم من معرفة زوجها تماماً بالمنكر الذي صدرت امرأته عنه.
ويتمثل موقفه المتميع هذا، في انصياعه لاوامر امرأته بحبس يوسف، بالرغم من معرفته تماماً ببراءة يوسف ونظافته من التهمة الموجهة إليه.
إنّ الشاهد من أهل إمرأة العزيز أوضح بما لا لبس فيه أن يوسف كان بريئاً كل البراءة. بل ان إمرأة العزيز نفسها أقرت ببراءته. إلا انّ العزيز، مع ذلك كله وقع تحت تأثير امرأته التي استعطفت زوجها من ان سمعتها ستسوء ما لم يسجن يوسف.
وحتى اذا انسقنا مع التفسير الذاهب إلى انّ ايداعه يوسف في السجن لم يكن بتحريض من امرأة العزيز بل من قبل مستشاري العزيز أو أهله حيث رأوا ان إيداعه في السجن يشكل انقاذاً لسمعه امرأة العزيز...
أقول... حتى مع هذا الافتراض، فإنّ انصياع العزيز إلى مثل هذه الاوامر، يعد تعبيراً واضحاً عن شخصية ضعيفة لا تنصاع الى الحق بقدر ما تنصاع الى موقف عاطفي منكر...
وإلاّ كيف يسمح الانسانُ لنفسه، أن يوقع الأذى بشخصية نظيفة مثل يوسف، بغية انقاذ سمعة زوجته... كيف لا يفكر بسمعة يوسف مع انه بريء: ثم يفكر بسمعة امرأته مع انها غير برئية...؟؟
ان مثل هذا الموقف، يعد ـ دون أدنى شك ـ نقطة ضعف كبيرة تسجل على العزيز.
وأهم ما ينبغي استخلاصه من عظةٍ في هذا الصدد، هو: إن الانصياع لاوامر المرآة يفسد الشخصية ويوقعها في سلوك منكر، وهو امرٌ تؤكده السماء لنا، حينما تطالب الرجل بالاّ ينصاع لزوجته، بل المفروض أن تنصاع الزوجة لزوجها ما دام الرجل قواماً عليها حسب الحكمة التي انطوى التشريع عليها.
أما العظة الثانية التي ينبغي أن نستخلصها في هذا الصدد، هي: ضرورة أن يصدر المرء في سلوكه عن الحق، والتزام جانب الحيدة والموضوعية، لا أن يسمح لعواطفه وذاتيته بالتحكم في الأمور، وبخاصة في مواقف قضائية خطيرة تتصل بسمعة الشخصية وشرفها.
الدور الثاني لشخصية الملك في هذه القصة، هو: رؤياه التي رآها عن البقرات والسنابل. ثم تفسير يوسف لهذه الرؤيات بواسطة أحد السجينين اللّذين كانا مع يوسف، حيث كان الذي نجا منهما قد تولى مهمة التعريف بشخصية يوسف وقدرته على تأويل الأحلام.
وفعلاً، بعد أن فسر يوسف لهذا الوسيط، رؤيا الملك... حينئذٍ استدعى الملك يوسف. إلاّ أن يوسف قبل ان يواجه الملك، قال للوسيط: إرجع الى الملك واسأله عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن... وقد نفّذ الملك هذا الطلب، وسأل النسوة عن حقيقة الأمر، فأجبته ببراءة يوسف... مما اضطر امرأة العزيز إلى الاقرار بدورها ببراءة يوسف... ويبدو أن تنفيذ الملك لهذا الطلب، كان بمثابة تفريج عن أزمته النفسية التي كان يعاني مرارتها دون أدنى شك: وهو يعرف تماماً انّ هذا الشخص البريء قد أودع السجن ظلماً وعدواناً... فجاء هذا الطلب تفريجاً لازمته من جانب، وفرصةً كبيرة لا نقاذ يوسف، وبخاصة انّ هذا الامر قد اقترن بالافادة من شخصية يوسف، بصفتها شخصية علمية قدّمت عطاءها العلمي في ميدان تفسير الأحلام وهو ميدان قد انعكست خطورته على الحقل الاقتصادي الذي انطوى عليه الحلم، فالبلد على أبواب كارثة اقتصادية... وها هو يوسف، يقدم تخطيطاً إقتصادياً لتلافي الكارثة...
وإذا كان الأمر كذلك، فإن اقتران هذه الافادة العلمية مع إثبات براءته ـ عن طريق نسوة المدينة وامرأة العزيز ـ يعدان فرصةً ذهبية لإخراج يوسف من السجن، والافادة منه، فضلاً عن اقتران ذلك كله، بتخليص الملك من أزمته النفسية التي نجمت من ظلم الملك ليوسف.
اذن: كانت خطوة انقاذ يوسف من السجن، أوّل تغيير في سلوك الملك، أو لنقل: حسب المصطلح القصصي: أوّل خطوة في (نموّ) الشخصية، وانتقالها من السلب الى السلوك الايجابي.
ثم، كانت الخطوة النهائية في نمو السلوك نحو الايجاب، هي: تعيين الملك ليوسف خازناً على الأرض...
وهذه هي قمة التقدير لشخصية يوسف، والتكفير عن الخطأ السابق...
وهكذا ـ بهذا الدور الثالث للبطل: الملك ـ تنتهي علاقة الملك بالقصة... وتبدأ الأحداث والمواقف تأخذ منعطفاً آخر في القصة: يتصل بيوسف واخوته وابويه...
ومما لا شك فيه، أن لهذا الدور الأخير، أهمية خطيرة كل الخطورة، لانه دورٌ حاسمٌ في تطوير الوقائع، والسماح لشخصيات يعقوب وبنيامين وأخوة يوسف بالتحرك في مجالات جديدة، فضلاً عما ينطوي عليه من تطوير لشخصية يوسف نفسه، ثم انعكاس ذلك على الحقل السياسي والاقتصادي للبلد.
البطل: يوسف
تحدثنا عن الأبطال الثانويين في قصة يوسف، وعن مختلف أدوارهم، بدءً بيعقوب، فاخوة يوسف، فامرأة العزيز، فنسوة المدينة... وانتهاءً بالعزيز.
أما الآن فنتحدث عن البطل الرئيس في هذه القصة، وهو يوسف نفسه...
ومما لاشك فيه، ان دور هذا البطل ينطوي على (أفكار) أو (عظات) بالغة الخطورة،اذا ضممناها إلى (الأفكار) التي استخلصناها من الأبطال الثانويين. ثم إذا فرزنا الأفكار التي استقل بها البطل يوسف وميزته بشخصيته المحددة.
إنّ الصبر على الشدائد يجسد سمةً بارزة في سلوك يوسف.
ومما لا شك فيه، ان يعقوب والد يوسف قد ميزته سمة الصبر المذكورة أيضاً. بيد ان الشدائد على يعقوب كانت متميزة عن الشدائد بالنسبة الى ولده يوسف...
كانت الشدائد بالنسبة إلى يعقوب منحصرة في دافع (الأبوة) وما صاحب هذا الدافع من إحباط يتصل بالمشاعر التي يفجرها الدافع المذكور.
اما الشدائد التي تعرض لها يوسف فانها متصلةً بأكثر من دافع، فضلاً عن انها تجاوزت نطاق المشاعر إلى دائرة الشدائد الخارجية.
ان هذه الشدائد بعضها داخلي صرف، وبعضها خارجي يسحب آثاره على المشاعر الداخلية...
ونحن سنتجاوز الحديث عن الصدمات الداخلية الصرف التي تعرّض لها يوسف: وهي ـ عادة ـ تتمثل في تحمّل مشاعر الحسد من قبل إخوته مثلاً، وفي تحمّل صدمات الفراق: فراق والده الذي كان يحيطه برعاية خاصة: حُرِمَ منها أمداً طويلاً من الزمن...
أقول: سنتجاوز الحديث عن أمثال هذه الشدائد مع انها ذات ثقلٍ كبير في ميزان الشخصية واستجابتها لهذه المواجهة... نتجاوزها لنتحدث عن شدائد رافقت رحلته مع إخوته، ومع واقعه البئر، ومع حادثة بيعه الى الآخرين، ومع حادثة امرأة العزيز، ومع حادثة السجن، ومع وقائع السجن نفسه: ثم ما صاحب ذلك من مواقف افرزها نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين وما استتبع ذلك مع صراعٍ سحب شدائده النفسية الكبيرة على شخصية يوسف.
لنلاحظ ـ على سبيل المثال ـ موقفه من احد صاحبيه في السجن، حينما فسّر له رؤياه، وعلم أنه سيحظى بمقابلة الملك... وغيرها قال لصاحبه: اذكرني عند الملك. ولكن صاحبه نسي هذا الطلب، فلبث يوسف بعدها في السجن بضع سنين.
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر: درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني
اترك تعليق