(اَللّهُمَّ اجْعَلْ صِيامي فيهِ صِيامَ الصّائِمينَ وَ قِيامي فيِهِ قِيامَ القائِمينَ ، وَ نَبِّهْني فيهِ عَن نَوْمَةِ الغافِلينَ ، وَهَبْ لي جُرمي فيهِ يا اِلهَ العالمينَ ، وَاعْفُ عَنّي يا عافِياً عَنِ المُجرِمينَ)
مقدمة
قبل البدء بتوضيح أبعاد دعاء اليوم الأول من شهر رمضان المبارك الوارد في أمهات كتب الأدعية، نبين مقدمة مختصرة يتوقف عليها فهم بعض مقاطع هذا الدعاء.
قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات-56]، هذه الآية حقيقة لا ينكرها مسلم - وأن اختلفت بعض الآراء حول السعة والضيق في معنى العبادة – فالعبادة كما في الآية الكريمة هي غاية الخلقة، ولكن هل المقصود بالعبادة هنا مجرد صدق العبادة عرفاً او شرعاً أم لابد من صدقها على نحو الحقيقة والكمال؟ حتماً هذا الأخير هو المقصود لما سيأتي من بيان لها.
العبادة الحقيقية الكاملة يجب في مقدمتها الأساسية معرفة الخالق عز وجل بالمعرفة الحقيقية، وذلك في صريح قول النبي الأعظم صلى الله عليه واله " وَ اعْلَمْ : أَنَّ أَوَّلَ عِبَادَةِ اللَّهِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ "[مكارم الأخلاق-ص 459]، و(به) هنا للتخصيص بالمعرفة الحقيقية إي بواسطته، فمن هم الواسطة بيننا وبين الخالق؟ الجواب كما في دعاء الندبة : "...(ما اَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ اَجْر الاّ مَنْ شاءَ اَنْ يَتَّخِذَ اِلى رَبِّهِ سَبيلاً)، فَكانُوا هُمُ السَّبيلَ اِلَيْكَ وَالْمَسْلَكَ اِلى رِضْوانِكَ..." وفي الحديث النبوي المشهور تحديد وحصر للعبادة الحقيقية الكاملة فيه وفي أوصياءه صلوات الله عليهم أجمعين "يا علي لا يعرف الله الا أنا وأنت" أما باقي الأئمة مشمولون لوحدة حقيقتهم، فهم الطريق الوحيد لتحصيل المعرفة الحقيقية.
فالخالق عز وجل جعل غاية الخلق هي العبادة الكاملة، وجعل لنا إنموذجاً حقيقاً واقعياً لهذه العبادة، وجعل هذا الأنموذج واسطة وطريق في تحصيل هذه الغاية العُظمى.
فتحصل: أن غاية الخلقة هي العبادة وهي متوقفة على معرفة الخالق ومعرفة الخالق منحصرة بواسطة وطريق النبي الأعظم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
بعد بيان هذه المقدمة سيتضح لنا المراد من مقطع الدعاء هذا:
(اَللّهُمَّ اجْعَلْ صِيامي فيهِ صِيامَ الصّائِمينَ وَ قِيامي فيِهِ قِيامَ القائِمينَ)
معنى الصوم في (صيامي) يطلق هذا الوصف عرفاً وشرعاً على المكلف الصائم، ولكن هل هو الصوم الحقيقي الكامل الذي يتحقق فيه معنى العبادة الكاملة؟ حتماً كلا، فلذا قد جيء بالألف واللام التعريفية في لفظ (الصائمين، القائمين) إشارة إلى أنهم أشخاص معينين قد تحققت فيهم العبادة الكاملة، الذين هم النبي الأعظم واهل بيته صلوات الله عليهم اجمعين، فيتبين أن للصوم مراتب، نستطيع أن نسمي الأول افراغ الذمة من التكليف الشرعي، والثاني الوصول إلى الصوم الحقيقي، فيكون المعنى : اللهم اجعل صومي فيه مثل صيام النبي الأعظم واهل بيته صلوات الله عليهم، وقيامي كذلك.
إن قلت: يستحيل أن نصل إلى مستوى عبادة النبي وأهل بيته عليهم السلام فكيف نطلبها.
يجاب: قلنا أن عبادتهم إنموذجاً ومثالاً للعبادة الكاملة، فالسلوك في طريقهم وعلى طريقتهم يوصل العبد إلى أعلى مراتب العبادة حتى وإن لم يصل إلى عبادة المعصومين عليهم السلام، وإن عطلنا مفهوم الأنموذج الكامل سنكذب ما ورد في الآية الكريمة (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب-21]
وأيضاً في هذا المقطع من الدعاء (اللهم اجعل) فيه إشارة إلى عجز العبد وقصوره عن بلوغ تلك العبادة، فيطلب التوفيق في الحصول عليها من الخالق عز وجل.
(وَ نَبِّهْني فيهِ عَن نَوْمَةِ الغافِلينَ)
الغفلة كما في اللغة: غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له، لكن في مجال المعرفة والطاعة هي السبب الرئيسي في حصول كثير من المخالفات وترك كثير من الأوامر، وكذلك مانع كبير في تحصيل الكمالات النفسية والروحية، فبالنتيجة هي مانع من القرب الآلهي، يقول تعالى : ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[الاعراف-179]، هذه الآية تعطي وصفاً قاسياً في تشبيه الغافل بالأنعام بل أضل، وذلك لأنها تبعد العبد تمام البعد عن طريق الصواب ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[النحل-108].
وورد في غرر الحكم عن الإمام علي عليه السلام في وصف الغفلة: "ويل لمن غلبت عليه الغفلة، فنسي الرحلة ولم يستعد" ، "الغفلة أضر الأعداء" ، "الغفلة ضلالة" ، " دوام الغفلة يعمي البصيرة".
هذه بعض آثار الغفلة قد ذكرها الإمام علي عليه السلام وقد ذكر غيرها مما يقشعر له البدن حذراً منها.
ولقد عقد علماء الأخلاق للغفلة باباً خاصاً لأهميتها، وبينوا أسبابها وآثارها وكيفية علاجها، ولكن الذي نريد التركيز عليه في هذا الدعاء أنها مانع من الوصول إلى العبادة الحقيقية التي يرغب المؤمن بالوصول إليها، فلذا يطلب العبد من الله عز وجل أن ينبهه ويحذره قبل الوقوع في نومة الغافلين، لأنه قد يسقط في تلك النومة ولا يعلم أنه سقط، وقد عبر بـ (عن نومة) ولم يقل (من نومة) إشارة إلى التنبيه قبل الوقوع في الغفلة بخلاف (من) فهي تشير إلى ما بعد الوقوع في الغفلة.
(وَهَبْ لي جُرمي فيهِ يا اِلهَ العالمينَ ، وَاعْفُ عَنّي يا عافِياً عَنِ المُجرِمينَ)
الهبة هي العطية بلا عوض، والجرم هو ارتكاب الذنب، فالعبد هنا يطلب الغفران بلفظ الهبة، لأن الإنسان يفرح اذا أهدي شيئاً، فكذلك المؤمن يفرح إن وهبت له ذنوبه، وليس ذلك بصعب على خالق السموات والأرضين، فلا تغنيه الطالعة، ولا تضره المعصية.
ولا يتوقف المؤمن عن طلب الغفران بمحو الذنب من سجل إعماله فحسب، بل المسامحة والرضا بالعفو عنه، كما قد غفر وسامح وعفا عمن قبله من المذنبين.
فالخلاصة من دعاء هذا اليوم هي:
طلب الحصول على فضل العبادة الحقيقية في الصيام والقيام بواسطة وطريق النبي وأهل بيته عليهم السلام. التنبيه من نومة الغافلين قبل الوقوع فيها، فهي مانع من الوصول إلى العبادة الحقيقية. طلب المغفرة بعنوان الهبة والمسامحة والرضا.
إبراهيم السنجري
مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي
اترك تعليق