هناك مَن خطّأ الحسين عليه السلام في حساباته وتخطيطه، لا في أصل شرعية خروجه، وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون حيث قال: «فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه، ولا سيما مَن له القدرة على ذلك، وظنّها من نفسه بأهليّته وشوكته، فأمّا الأهلية فكانت كما ظنَّ وزيادة، وأمّا الشوكة فغلط يرحمه الله فيها»[1].
ردّ الشبهة
لم يبيِّن ابن خلدون كيف أخطأ الحسين عليه السلام في حساباته، فهذه دعوى غير بيِّنة ولا مبيَّنة؛ وذلك لأنّ الإمام عليه السلام لم يخطأ، بعدما قدّم كل المقدّمات اللازمة لنهضته كإرسال الرسل إلى البلاد، ومنهم: سفيره إلى الكوفة الذي أمره أن يُخبره بصحّة مكاتبات الكوفيين له بالقدوم، فهو عليه السلام كان محتاطاً في التعامل مع طلب الكوفيين ولم يكتف بكتبهم، بل أرسل مَن يدرس له الواقع الذي يكمن وراءها؛ وعلى هذا الأساس أُخِذَت له البيعة في الكوفة، وكتب له مسلم بمبايعة ثمانية عشر ألف رجل منهم، وفي بعض الروايات خمسة وعشرون، وفي بعضها أربعون ألفاً، ولولا خوف قتله في مكّة غيلةً لمَا كان ليخرج منها حتى يأتيه جواب مسلم من الكوفة ويتثبَّت من الأمر، فلم يكن استعجاله الخروج إلّا خوف انتهاك حرمة الكعبة، كما صرَّح بذلك لابن الزبير حينما قال له: «إنّ أبي حدثني أنّ بمكّة كبشاً به تُستَحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتَل فيها»[2]. وقال في جواب عن سبب خروجه من المدينة: «شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت»[3].
وقد نقل المؤرِّخون موقف الحسين عليه السلام المتريِّث هذا قبال كُتِب أهل الكوفة، فقد ذكر الطبري أنّ الحسين عليه السلام كتب كتاباً إلى أهل الكوفة جاء فيه: «وقد فهمت كلّ الذي قصصتم وذكرتم ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم»[4]، فكل هذه النصوص تدلّ على محاولته عليه السلام دراسة الوضع دراسة ميدانية، وأنّه لم يكن مخطئاً في حركته، ولكن الأُمور قد تغيَّرت بمقتل سفيره مسلم بن عقيل.
وأمّا استمراره عليه السلام في مواصلة الطريق حتى بعد اتضاح مقتل سفيره مسلم وتغيُّر الأُمور لغير صالحه، الأمر الذي يذكره البعض كابن الخطيب[5]، فالجواب عليه ما يلي:
أوّلاً: إنّ الإمام عليه السلام على الرغم من شهادة مسلم كان ملتزماً بتعهّده لأهل الكوفة، محترماً لما قطعه على نفسه لهم من القدوم عليهم بحيث لم يكن يسعه رفض طلبهم بمجرد مقتل سفيره؛ ولذا واصل السير باتجاه الكوفة؛ لأنّه كان من المحتمل عند قدومه تتغيَّر الأُمور لصالحه كما تغيَّرت لصالح ابن زياد بعد دخوله فيها، وهذا الاحتمال وارد جدّاً؛ ويدلّ عليه قوله للطرماح ـ لما عَرَضَ عليه أن يلتجئ لقبيلته طي التي ستحميه وتقاتل لجانبه بعشرين ألف مقاتل ـ: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف»[6].
ثانياً: إنّه لو سلَّمنا عدم تمامية الجواب السابق، وأنّه كان يتحتّم عليه الرجوع، لكن السؤال المطروح هو: هل كان يملك الحسين عليه السلام أمر الرجوع؟ وهل كان يسعه ذلك وهو محاصر من قِبل الحُر في ألف فارس، فكان على الإمام إمّا القبول بشروطهم والنزول على بيعة ابن زياد في الكوفة ويزيد في الشام، أو القبول بحكم السيف، وهذا ما أشار إليه الحسين عليه السلام بقوله: «أَلا وإنّ الدّعي ابن الدّعي تركني بين السِّلة والذِّلة»[7]، وقد أشار المحقِّق الكركي لذلك فقال: «في الوقت الذي تصدّى للحرب فيه لم يبقَ له طريق إلى المهادنة، فإنّ ابن زياد لعنه الله كان غليظاً في أمرهم عليهم السلام ، فربّما فعل بهم ما هو فوق القتل أضعافاً مضاعفة»[8].
لقد علم الحسين عليه السلام منذ بداية تحرّكه أنّه غير متروك، وأنّه مطلوب للقتل لا محالة، وقد صرح بذلك مراراً عديدة، فكان أمامه ثلاثة خيارات لا رابع لها:
الخيار الأوّل: البيعة الذليلة، وهذا ما كان يرفضه منذ البداية، فإنّه ذكر في المدينة لأخيه ابن الحنفية: «يا أخي، والله، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لمَا بايعتُ ـ والله ـ يزيد بن معاوية أبداً»[9]، وهذا قرار اتخذه الإمام وثبت عليه ولم يتراجع عنه؛ لأنّ في البيعة إقراراً لمشروعية الحكم الأُموي وتهديداً لبيضة الإسلام ومحوه والقضاء عليه إلى الأبد.
وعليه؛ فكان على الإمام عليه السلام إما أن يُقتَل ويحيى الدين، وإمّا أن يموت الدين ويبقى هو عليه السلام حياً، هذا على فرض بقائه حيّاً وعدم تصفيته جسدياً كما وقع لأخيه الحسن عليه السلام بعد الاتفاق والصلح، فلم يبقَ أمامه عليه السلام إلّا خيار الشهادة.
الخيار الثاني: القتلة الذليلة التي تختارها السلطة.
الخيار الثالث: القتلة العزيزة التي يختارها الإمام عليه السلام .
ولا شكّ في أنّ كل قائد ثائر حرّ نزيه يختار الخيار الثالث؛ إذ النتيجة على كلّا التقديرين هو القتل، فلماذا لا يختار القتل بعزّة؟! وهذا ما اختاره الإمام الحسين عليه السلام بالفعل.
ثالثاً: إنّ كل ما تقدّم إنّما هو على طبق الحسابات الطبيعية والتكليف الظاهري، وأمّا بحسب التكليف الخاص، فإنّه عليه السلام كان مكلَّفاً بتكليفٍ خاصٍ من قِبل جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الوجوب التعييني، ولم يكن الحسين عليه السلام ليحيد عنه، وهذا ما تؤكِّده النصوص الكثيرة التي صرَّح بها من أوّل تحرِّكه حتى النهاية، حيث كان يردّ على الناصحين له بعدم الخروج مخافة القتل بأجوبة متعددة منها: أنّه خَرَجَ لأجل الأمر بالمعروف. ومنها: أنّه مطلوب للسلطة على كل حال سواء قام أو قعد. ومنها: أنّه مأمور بذلك بنحو خاص على نحو الوجوب التعييني، وإليك بعض كلماته عليه السلام في هذا المجال:
1ـ لمّا أراد عبد الله بن جعفر أن يصرفه عليه السلام عن الخروج، لم يقبل وقال له: «إنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وأمره لا بدّ من إنفاذه»[10].
2ـ في ليلة خروجه عليه السلام من مكّة إلى العراق نصحه ابن الحنفية بعدم الخروج مخافة غدر أهل الكوفة، وأن يسير إلى اليمن أو بعض نواحي البر، فوعده عليه السلام النظر في ذلك، لكن ابن الحنفية تفاجأ بخروجه في سحر تلك الليلة، فحدث حوار بينهما كما نقل المجلسي: «يا أخي، ألَم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى. قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما فارقتك فقال: يا حسين، اخرُج؛ فإنّ الله تعالى شاء أن يراك قتيلاً»، فاسترجع ابن الحنفية، ثمّ أضاف له عليه السلام سبب إخراج العيال أيضاً قائلاً: «شاء الله أن يراهنّ سبايا»[11].
الكاتب: د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الحادي عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[1] ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة: ج1، ص216.
[2] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص16.
[3] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص218.
[4] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص262.
[5] ابن الخطيب، محبّ الدين، تعليقاته على العواصم من القواصم: ص239.
[6] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج 4، ص307.
[7] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص24.
[8] الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج 3، ص466.
[9] ابن أعثم، أحمد، الفتوح: ج5، ص21.
[10] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص292.
[11] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص364.
اترك تعليق