فن البناء والتعمير قديم قدم الإنسان وهو في أصله تلبية لحاجة أساسية من حاجات الحياة لكنه في الوقت نفسه نتاج غني، ككل ما يصنعه الإنسان وينتجه ويعبر فيه عن ذوقه وفكره وميوله وعقيدته.. وهكذا كانت أعمال البناء ومازالت من أهم مظاهر الرقي لدى الأمم والطابع المميز لحضارتها، وبذلك اختلفت الفنون وأصبح لكل منها خصائصه ومميزاته.
نشأ الفن الإسلامي في كل إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية على أساس الفنون السابقة في القرن الأول الهجري، وطور الفنان المسلم هذه الفنون وقدمها في حلة جديدة متساوقة مع تعاليم الدين الاسلامي وروحه وشعائر، وقد تفوق المسلمون في كثير من المجالات الفنية وربما كان أهمها فن العمارة، الذي ابتعد عن العناصر المقتبسة وخلق عناصر فنية جديدة تتبدل وتتطور من عصر إلى عصر، لتزيد من تأكيد أصالة الفن الإسلامي في العمارة وخاصة في المراقد المقدسة للائمة الاطهار من ال بيت النبوة وما يتصل بها من فنون اخرى كالزخرفة الاسلامية والخط العربي .
استوحى الفن الإسلامي في نشأته وتطوره روح الإسلام وتعاليمه ونوع الأساليب الفنية في العالم العربي الإسلامي، وعلى الرغم من تنوعها فإنها تتفق جميعها في طابع ينطق بوحدتها من حيث مظهرها وجوهرها.. فقد تميز الفن الإسلامي بكراهيته للفراغ، فاهتم الفنان المسلم بتغطية المساحات برسوم سطحية لتظهر الموضوعات الزخرفية المتكررة على العمائر والتحف بشكل يلفت النظر، قد لخص بعض الباحثين خصائص هذا الفن وعدوه لقاء كامل بين إبداع الموهبة ونتاج العبقرية وبين دقة الصنعة ومهارة التنفيذ وحسن الإخراج، فهو اجتماع بين الذكاء والخبرة، وبه تصل الاشكال إلى ذروة الجمال.
ارتبطت العمارة الإسلامية في المراقد المقدسة بالوظيفة الدينية، ، مما جعل الطابع الروحي يغلب على أنماطها وأكسبها هويتها المميزة، حيث ارتكزت على مبادئ تتمثل في ملائمة أشكال العمارة، وعناصرها مع مبادئ العقيدة الإسلامية والبيئة، حيث تنوعت وتجددت فيها الطرز والتصاميم والأشكال، وقد ورث تصميم العتبات تقاليد محلية، فقد استفاد المعمار فيها من المدارس المشرقية والأندلسية، فاكتسبت بذلك طابعاً مجتمعاً من الفنون المختلفة مع الحفاظ على البنيات الجوهرية التي أسسها السابقون فتفننت في إبراز عبقريتها من خلال عناصرها الإنشائية والزخرفية، وأغنت الحقل المعماري الإسلامي بمعالم عظمة الصانع الحرفي التقليدي ونبوغه.
إن تاريخ ازدهار المباني المقدسة في العراق وتزويقها بدأ مع طليعة الحكم البويهي منذ عام 367 هـ، وازداد الاهتمام بها في العهد الصفوي عام 914 هـ. وما يميز عموم المراقد عن المساجد، أن الاخيرة لم يدخلها الكثير من الفنون والزخرفة كما في المراقد حيث يجب ان تتسم المساجد بالبساطة والتجرد وعدم الكلفة، وممكن القول جزماً بان المساجد والمراقد المطهرة قد حفظت ملف تطور العمارة الإسلامية على مر العصور وكانت شاهدا حيا وسفرا خالدا ينطق بمراحل التطور العمراني والحضاري للمدن الإسلامية.
لاشك ان علاقة الفن الإسلامي بالمراقد المقدسة والمساجد علاقة لا انفكاك لها كونها حاضنة مثالية لهذه الفنون في حنو.. حيث العمارة وشكلها الهندسي المتميز والخطوط وعالمها والزخارف المنسابة عبر الجدران والقباب.. وهو ما جعل البعض يستنتج أن العامل المحرك للفن الإسلامي هو المساجد وبيوت الله وفنون عمارتها.. فإن الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلى الصلاة، وهذا يعني أن الفن الإسلامي يجذب الإنسان جذبا إلى الله تعالى، فيتوق إلى عبادته ويستلذ مناجاته.. رغبة في التخلص من كل عبودية لسواه.
فالفنان المسلم لا يمكن ان يكون فنه أصيلا إلا إذا عاش في رحاب بيوت الله وروحانية اجوائها، حيث يقف بين يدي الله في إخبات وخشوع، في أوقات الصلاة المكتوبة على الأقل، ليتأمل أسرار الوجود، وحقيقة الحياة والموت، ويتلقى إيقاعات لا حد لها، تخاطب العقل والسمع وتهز القلب والوجدان، وتناجى الروح، وتحث الجسد على التسامي، ففي الصلاة يتساوق جمال الاستقامة مع جلال الخشوع لله، ويتلازم انتظام أجسام المؤمنين في الصفوف مع قوة وحدة قلوبهم، وصفاء أرواحهم، عندما تسمو في معارجها إلى الله تعالى، كلما سجدت لله أو ركعت رغبة أو رهبة، أو محبة وتذللا، أو استمعت إلى القرآن يتلى متدفقا في أسلوبه الآسر، الذي يفيض حسنا ويشع ألقا وسناء ويرشد الحائر ويهدي الضال.. ويأخذ بيد من يستجيب له إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، فيزداد قلبه صفاء وحسه رهافة وتتطهر روحه ونفسه ويزداد فهما للوجود واستعدادا لتقبل الخير والتخلص من جواذب الأرض ومغرياتها الفانية.
لقد اظهر الابداع المعماري والزخرفي في العتبات المقدسة قابليته الابداعية من خلال تصاميمه وابنيته الملامسة للسماء، ولاسيما التصاميم المزينة بأنواع الزخارف والخطوط العربية نظرا لأنها تمثل أبهى الفنون الاسلامية لما تتمتع به من تنوعات تكوينية ذات سمة وظيفية وتزيينيه من خلال ما طرأت عليها من متغيرات فنية تمثلت بالأصالة والجمال، وقد أظهرت نتاجات ذات طابع ابتكاري للتكوينات الهندسية المعمارية والمكونات الجمالية الساندة لها التي تكون تارة مجردة أو قريبة من الواقع بشكل ما، حيث أصبحت تعد عنصرا جوهريا مع مثيلتها من العمائر الاخرى بل تجاوزتها في التوظيف التزيني خصوصاً مع اشراك التكوينات الخطية والنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة التي تم تنظيمها وفق تصاميم موحدة تعبر عن العقائد الفكرية والتقاليد الفنية الأصيلة الموظفة ضمن العتبات والأضرحة المقدسة، بفعل أنها تنطوي على سمات أسلوبية لها خصوصية اكتسبت التفرد في مفرداتها وانشائها البنائي والزخرفي من حيث التقسيم المساحي وأشغالها بالنقوش، فضلا عن الجانب التنظيمي للأبنية و مقتضيات المساحة الأساسية للمراقد المقدسة لتكون بالمحصلة من أروع الإنجازات الفنية التي أبدع فيها الفنان المسلم من خلال خبرته الفنية ومهارته في إخراج هذه الاعمال الفنية الاخاذة بأجمل صورة لتتلاءم مع المنزلة الروحية والاعتبارية لمراقد الائمة الاطهار سلام الله عليهم ولتكون ملاذاً للارواح .
اعداد : سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق