ماذا يُمكن أن يُضاف إلى الغدير؟
وهل بعد أن استوفى علماؤنا الأعلام هذا الموضوع حقه وأفاضوا فيه وبيّنوا غايته وحقيقته ومقاصده ما يُمكن أن يقال؟
وهل بعد ما كُتب عنه من المؤلفات طوال عدّة قرون، وتناقلت المصادر المعتبرة والتواريخ الصحيحة الأحاديثَ والرواياتِ عنه وأجمعت عليه كتب السير ما يُمكن أن نضيفه إليه ؟
هذا السؤال بادرني وأنا أتصفّح بعض الكتب التي أُلّفت بخصوص هذا الموضوع أو خصصت له جانباً منها للشروع بتناول جانب من جوانبه تاريخياً أو أدبياً لما لهذا الموضوع من أهمية كونه توّج مسيرة الإسلام بتنصيب الخليفة الشرعي بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
ولكنني أحسستُ وأنا أتنقّل بين صفحات الكتب التي ألفت عنه أن هذا الموضوع قد تناولني هو إلى عالمه الواسع والرحب، وأخذني في سياحة فكرية وعلمية وتاريخية وأدبية، فنسيتُ ما كنت عازماً عليه من الكتابة حوله، وتخيلتُ أنني أتحدّث مع المؤرخين والمؤلفين والكتّاب عن حيثيات الأحداث في ذلك اليوم، والذين لم يتركوا باباً من أبواب هذا الموضوع إلّا طرقوه وسلّطوا الضوء على أحداثه الكثيرة، حتى أنهم بيّنوا موقف كل شخصية حضرت في ذلك اليوم تجاه هذه الحادثة ! فكدتُ أن أترك الكتابة عنه فلا أحب أن تكون كتابتي مرآة لما كُتب، لولا أن لفت انتباهي فقرات متفرقة من موسوعة الغدير للشيخ عبد الحسين الأميني جعلتني أعيد النظر في تفكيري فأدركت أنني كنت مخطئاً!!
الأحقاد تتوارث
لم يكن الخطأ في اعتقادي أنني وجدتُ في موضوع الغدير باباً لم يُطرق أو اكتشاف ما يمكن أن يُضاف إليه ـ ولو كان ضئيلاً ـ فقد أولاه علماؤنا الأعلام غاية الأهمية، وتناولوه بالدراسة والبحث، واستوفوا حقه من العناية والاهتمام ولم يتركوا مجالاً للشك فيه، أو ثغرة للطعن به.
ولكن الخطأ في سؤالي والذي لم أحسب له حساباً هو أن تلك القلوب التي أضمرت الحقد والبغضاء في ذلك اليوم، ثم حاكت المؤامرات والدسائس في الظلام وزوّرت وأنكرت هذا الحديث قد توارثتها ذلك الحقد الأقلام المأجورة والأبواق الناعقة التي لا زالت تنفث سمها الناقع في جوف الأحقاد الأموية، ولازالت أيادي أحفادهم تلوّث التاريخ الإسلامي وتدسّ فيه الموضوعات والأكاذيب والأباطيل.
أدركتُ أن الصراع باقٍ بين جبهتي الغدير والسقيفة، بين القلوب التي ابتهجت في ذلك اليوم من السابقين الأولين إلى الإسلام وبين القلوب التي امتلأت غيظاً وحسداً من الذين دخلوا إلى الإسلام كرهاً ومن الطلقاء وأبنائهم.
أليس من العجيب أن تتلاقف هذه الرؤوس والأذهان ملفقات أجدادهم في الفضائل المزيفة من الأحاديث الموضوعة على لسان النبي بفضل معاوية وغيره ويعمدوا إلى الحديث الذي هو جزء من رسالة الإسلام وبه أتم الله دينه فيتناولوه بالتشويه والتزوير والإنكار ؟
أليس من العجيب أن تتصدر دراسة التاريخ الإسلامي عقليات مريضة فاسدة انجرفت وراء تحيّزها المذهبي وساعدها على ذلك (مباركة) السلطات المنحرفة التي اتبعت سياسة (التدجين) لهؤلاء الذين تصدّروا قائمة طمس الحقائق وتحريف المعالم الإسلامية وتزييف سيرة شخصياته فشوّهوا صورة الإسلام الحقيقي ؟
ولم تقف الكارثة التي أصابت تاريخنا وأمتنا عند هذا الحد فقد تفشّى ذلك الداء العضال في جسد الأمة، فسخّرت السلطات المعادية للشيعة وللإسلام والمنضوية تحت لوائه في نفس الوقت كل طاقاتها وإمكانياتها لترويج هذا التحريف والتزييف لأغراض سياسية ومذهبية، وأعدت لكل ذلك عدته من الإعلام الكاذب فانتشرت الفضائيات المأجورة التي عملت بكل جهدها على نشر هذه الترّهات والسفاسف ونقلها إلى الناس على أنها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فكان لذلك التحريف والتدليس أثره السلبي الكبير على المجتمع الإسلامي ليس على نطاق محدود, بل إن تأثيراته امتدت إلى رقعة جغرافية كبيرة وتغلغلت في أذهان البسطاء وشكّلت حافزاً عدوانياً على الشيعة وصل إلى القتل والسبي وإباحة الأعراض والممتلكات.
الغدير سيبقى متدفقا
أليس من العجيب أن حديثاً رواه أكثر من مائة صحابي، وأكثر من ثلاثمائة وستين تابعياً، وما لا يحصى من الرواة والمحدثين والمؤرخين والمصنفين وأرباب السير والفتوح والبلدان، ودوّنه المؤلفون والكتاب والدارسون والباحثون، وضمّنه أكثر من مائة شاعر من أعلام الشعر العربي طوال أربعة عشر قرناً في عيون الشعر العربي ثم يأتي من يحرف هذا الحديث تحريفاً كلياً عن وجهته ؟
ولا نغالي إذا قلنا إن سبب كل المآسي التي حلت بالأمة الإسلامية جاءت من جرّاء التحريف في مسألة الخلافة والتي بدأت في السقيفة وامتدت جذورها إلى وضع الأحاديث المزورة من قبل معاوية بهذا الخصوص واستمرت هذه المهزلة في زمن الأمويين والعباسيين وإلى الآن، وترتبت عليها ما لا يحصى من الويلات والمآسي التي حلت بالمسلمين نتيجة المغالطات والإلتباس والنزاع حول حقائق التاريخ.
ولكن كل المحاولات التي أرادت تغييب أو تحريف هذا الحديث قد باءت بالفشل وذهب كل من أراد ذلك يجر أذيال الخيبة فقد نسي أو تناسى أولئك الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وأتبعوا حقدهم الأعمى أن (الغدير) هو جزء لا يتجزأ من الإسلام وإن الله قد حفظه كما حفظ القرآن فقال تعالى: (أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وماذا نقمتم من (الغدير) ؟ ألأنه دعوة صريحة من النبي (صلى الله عليه وآله) وأمام جميع المسلمين إلى تنصيب الخليفة الشرعي من بعده والدعوة إلى مبايعته بيعة تحفظ للإسلام خطه في بناء دولة متماسكة رصينة أساسها العدل والحق وترسم له منهجه القويم وتضمن نجاة الأمة من الإختلاف والتنازع والإنشقاق ؟
ألأنه كان الدعوة إلى توحيد المسلمين تحت راية الإسلام الصحيح ونبذ الجاهلية وبيعة القائد الكفؤ لها لمواصلة قيادة الدعوة إلى الإسلام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ؟
وهل كان (الغدير) فلتة ـ والعياذ بالله ـ وقى الله المسلمين شرها ...
سيبقى الغدير متدفقا بالعطاء وسيبقى المعين الثر الذي يرفد الأمة بآيات الولاء والوفاء لصاحب البيعة المحمدية، سيبقى خالداً لا لأنه قد رواه أكثر من مائة صحابي، وأكثر من ثلاثمائة وستين تابعياً، وما لا يحصى من الرواة والمحدثين والمؤرخين والمصنفين وأرباب السير والفتوح والبلدان، ولا لأنه قد دوّنه المؤلفون والكتاب والدارسون والباحثون، وضمّنه أكثر من مائة شاعر من أعلام الشعر العربي طوال أربعة عشر قرناً في عيون الشعر العربي، بل سيبقى خالداً لأنه اقترن بكتاب الله تعالى الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار في أرجاء العالم ستبقى آياته الشريفة ترتلها الأجيال جيلاً بعد جيل وهي تستنشق عبير الولاية وشذى الإمامة الحقة.. سيبقى خالداً خلود الدهر لأن الله به أكل دينه وفيه أتم نعمته ورضاه لنا دينا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
محمد طاهر الصفار الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق