زُر الحسين(عليه السلام) زيارة مشاعرية!

كثير من المسلمين اليوم يزورون الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) في كربلاء المقدسة كل يوم وعلى مدار السنة، ولكنهم يكتفون عملاً بأقل الفائدة من زيارته، وهي فوائد في أغلبها يحظى بها الإنسان في الآخرة، أما الفوائد التي يحظى بها الإنسان في الدنيا فقليل هم الذين يعرفونها ويدركونها، وفي هذا المقال سوف نتناول بعضاً منها لتسعد بزيارته حياتنا ويهنأ بها عيشنا، ولكن قبل كل هذا يجب أن نعلم بمكانة الزيارة في المنظومة الدينية.

فالأمر الذي يجهله الكثير من المسلمين، هو: أن زيارة الأولياء(عليهم السلام) واجب من الواجبات الولائية ومستحب شرعي ملقى على عاتق المسلمين أدائه، وليس مسألة تطوعية تفضلية، فقد ورد عن أم سعيد الأحمسية قالت: قال لي أبو عبد الله(عليه السلام): ((يا أم سعيد تزورين قبر الحسين (عليه السلام)؟ قالت: قلت: نعم، قال: يا أم سعيد زوريه فإنّ زيارة الحسين واجبة على الرجال والنساء))[1]، ولكن هذا الوجوب على ما يظهر وجوباً خاصاً وليس عاماً، أي: أنه لا يشمل جميع المسلمين، بل لمن اعتقد بأنهم منصوبون أئمة للمسلمين من الله(عزَ وجلّ). 

فقد روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، أنه قال: أن ((زيارة الحسين بن علي(عليه السلام) واجبة على كل من يقر للحسين بالإمامة من الله عز وجل))[2]، وهو شرط أساسي في وجوب زيارتهم(عليهم السلام) وزيارته، لذا ومن هذا المنطلق قال الإمام الرضا(عليه السلام): ((إنّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ مِن تمام الوفاء بالعهد و حُسن الأداء زيارة قبورهم، فمَن زارهم رغبةً في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه، كانت أئمّتُهم شفعاءَهم يومَ القيامة))[3]، والتعبير بالأولياء والشيعة يدل على العقيدة والمنهج، وما جملة: (... فمَن زارهم رغبةً في زيارتهم، و تصديقاً بما رغبوا فيه، ..) إلا جانب تطبيقي في الرواية، يترتب على أدائه الأثر: (كانت أئمّتُهم شفعاءَهم يومَ القيامة)، وهو مكسب عظيم يجنيه الفرد لنفسه في عالم لا يتحكم فيه جملة وتفصيلاً. 

والإمام الحسين(عليه السلام) باعتباره إمام منصب من الله تبارك وتعالى على لسان نبي الله الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) وولي من أولياء الله الصالحين، تكمن أهمية زيارته في أنها ترفع التجافي والعقوق للشفعاء يوم القيامة، وهم الأئمة الطاهرين صلوات ربي عليهم أجمعين، كما ورد في رواية الحلبي، حيث قال: قلت لابي عبد الله جعفر ابن محمد الصادق(عليه السلام): ((ما تقول فيمن ترك زيارته [يقصد الحسين عليه السلام] وهو يقدر على ذلك؟ قال: عق رسول الله وعقنا واستخف بأمر هو له))[4].

ومن أجل دفع هذا العقوق الذي بلا ادنى إشكال فيه الأثر السلبي، وحصول الفائدة الدنيوية كما هي حاصلة يقيناً في الآخرة، يجب زيارته على أكمل وجه، أي: بالكيفيات والهيئات التي ذكرتها الروايات، لأداء حقه المبني على معرفته أولاً، وتحقق المطلوب من زيارته ثانياً. 

حيث تميزت الروايات الشريفة الواردة في زيارته(عليه السلام)، بأن لها كيفيات وهيئات خاصة يلزم أن يتلبس بها الفرد عند زيارته لتحقق الزيارة الحقيقية له(عليه السلام)، منها: ما جاء في الرواية الشريفة بسندها عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام): ((إذا أردت زيارة الحسين (عليه السلام) فزره وأنت كئيب حزين مكروب، شعث مغبر، جائع عطشان، فان الحسين قتل حزينا مكروبا شعثا مغبراً جائعا عطشانا، وسله الحوائج، وانصرف عنه ولا تتخذه وطنا))[5]، وتحليل الكلام في هذه الرواية، ينبئ عن كيف يجب أن تكون الزيارة.

أن الرواية أعلاه احتوت على هيئة وست حالات:

أما الهيئة، فهي: هيئة الحزين، وهي خلاف الفرح والسرور.

وأما الحالات فهي:

أولاً: أن تكون كئيباً.

ثانياً: أن تكون حزيناً.

ثالثاً: أن تكون مكروباً.

رابعاً: أن تكون أشعثاً مغبراً.

خامساً: أن تكون جائعاً.

سادساً: أن تكون عطشاناً.

والمتبادر للعاقل اللبيب المتفكر من هذا النص، أن المراد من هذه الهيئة والأحوال هو موافقة حال الإمام الحسين(عليه السلام) وما كان عليه، والتي تعني أن تكون الزيارة ذات ارتباط مشاعري حقيقي بين الزائر والمزور، حيث تولد تلك المشاعر من التفكر والعيش في عمق المأساة والمظلومية التي عاشها(عليه السلام) وكان فيها، وذلك واضح من العلة التي ذكرتها الرواية في سبب الكينونة على هذا الحال، إذ قالت: ((...فإن الحسين قتل حزيناً مكروباُ شعثاُ مغبراً جائعاً عطشاناً...))، والزيارة على بهذه الكيفية تكون زيارة مطابقة للحال الذي كان عليه(عليه السلام)، وهي حالة زيارة تعد نموذجية وذات درجة عالية من الارتباط ورتبة سامية من رتب الزائرين، التي إن كان الإنسان عليها فهو فائز مفلح، وإن لم يكن فهو سعيد.

فالزائر له(عليه السلام) في حال عدم تحقيقه للحال الذي يجب أن يكون عليه بشكل نموذجي، يكون قد خسر الكثير، فمصيبته ما أعظمها وأعظم رزيتها في السماوات والأرض.

ثم نوهت الرواية على ثلاث أمور يجب أن تفعل، قائلة:

1- سله الحوائج.

2- انصرف عنه.

3- ولا تتخذه وطناً.

ففي الفعل الأول حاجة وهدف من أهداف الحضور في حضرته، وفي الثاني سلوكاً نموذجياً يدل على الارتباط المشاعري، والثالث تحقيقاً للموقف العملي الصادق، وإلا فالمنافات وعدم التحقق للحال واقع لا محالة. 

ومن هنا نفهم السر الذي من أجله نُهي عن ملذ المأكل عند زيارته، فقد روي بسنده عن علي بن الحكم عن بعض أصحابنا قال: أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام): ((بلغني انَّ قوماً إذا زاروا الحسين(عليه السلام) حملوا معهم السِفَر فيها الحلاوة والأخبصة وأشباهها, ولو زاروا قبور أحبائهم ما حملوا معهم هذا))[6]، وأيضاً قال لأحدهم: ((تأتون قبر أبي عبد الله(عليه السلام)، قلتُ: نعم، قال: أفتتخذون لذلك سِفراً، قلت: نعم، فقال: أما لو أتيتم قبور آبائكم وأمهاتكم لم تفعلوا ذلك، قال: قلت: ايَّ شيء نأكل، قال: الخبز واللبن))[7]، وأيضاً أنه قال(عليه السلام): ((تزورون خير من أن لا تزورون، ولا تزورون خير من أن تزوروا، قال: قلت: قطعت ظهري، قال(عليه السلام): تالله، إنَّ أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيبا حزينا وتأتونه أنتم بالسفر، كلا حتى تأتونه شعثاً غبراً))[8].

وما دام الأمر كذلك فلابد لنا أن نعتني بكيفية زيارته(عليه السلام) زيارة حقيقية، ولابد لنا من التعمق وفهم كيف نحقق هيئتها ونرتقى إلى أعلى رتبها ودرجاتها حتى نستوفيها جميعها، وهنا نسأل: هل هذا يعني أن نحقق ذلك بشكل ظاهري أم شكل حقيقي؟

وبضرس قاطع نقول: أن التحقق يلزم أن يكون للقادر وبنسبته حقيقياً، وإلا فتحقيقه بشكل تصنعي هو جهد يبذله العاجز عن تحقيق الواقع، وعندها لا تصبح الزيارة زيارة مشاعرية حقيقية، بل صورة مشاعرية. 

فالحزن يمكن أن يحدث للإنسان إذا طال فكره وتأمله في ما جرى على الحسين(عليه السلام)، والكآبة درجة من درجاته، أذ أن الكآبة هي: ((أثر الحزن البادي على الوجه))[9]، أما الكرب، فهو الشعور بالضيق والقلق الشديد لإدراك الموقف الصعب الذي كان فيه الإمام الحسين(عليه السلام)، ولا يوجد أصعب من موقفه(عليه السلام) على الاطلاق.

وعليه: فالأمر دائر في كل الحالات الستة المذكورة في الرواية الشريفة، بين ما هو تدرج في الحالة، وبين ما هو ناتج وأثر لها، كما أن أسبابها مختلفة، منها: ما هو عامل نفسي، ومنها: ما هو عامل بيولوجي، أي: الإفراز الهرموني في جسم الإنسان والذي يكون طبيعياً يفرز بحسب الانفعالات التأثرية الداخلية، خصوصاً التي تحدث بسبب الإحساس بفقدان شخص عزيز لا بسبب سوء الصحة والمرض.

وبين السبب والناتج والأثر المحقق للثمرات العظيمة، نلمس أن الحزن هو الأساس المولد لكل تلك الحالات، فنفهم مصدر الكآبة والكرب، ونفهم سبب أن يكون الزائر أشعثاً مغبراً، وجائعاً وعطشانا، فكلها مراتب لتطور حالة الحزن الذي عليه الإنسان الزائر للحسين(عليه السلام) وأثراً لها.

وعليه فالهيئة المرادة عند زيارة الحسين(عليه السلام) هيئة حقيقية لا تصنُعية ولا اعتبارية، والإنسان على هذه الحالة يكون مشغولاً عن الاعتناء بنفسه ظاهرياً كصف شعره والعناية بمظهره الخارجي الذي يدل على ارتياح لا شدة وضيق، وكذا الجوع والعطش اللذان يدلان على انفتاح الشهية وما أشبه، وكل ذلك بسب الحزن وتزايد درجاته.

وقد يعسر على البعض فهم مطابقة الحال، فسوف نوضحه بمثال تطبيقي من حياة الأئمة الطاهرين عليهم صلوات ربي أجمعين.

فقد روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنه قال: ((...كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام))[10]، فالضحك علامة السرور والفرح وانشراح النفس وهو خلاف الحزن، ومعنى أن الإمام(عليه السلام) لا يُرى ضاحكاً، الحزين حتى يبين الأثر على وجهه(الكآبة)، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، وهو الاشتداد في الحال المبني على القضية الشعورية.

فالقضية الشعورية والتي هي جزء أصيل من تكوين الإنسان، هي: جملة الأحاسيس التي تنتاب الإنسان، والتي تصاحبها تعبيرات جسدية متعددة، حيث تتفاوت فترة وجودها، فقد تستمر لمدة لحظات، وقد تبقى أطول من ذلك لشهور أو سنين أو مدى الدهر، كما في الحزن على الحسين(عليه السلام).

إذن فالتأكيد على المشاعر في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) جزء لا يتجزأ من برنامج زيارته(عليه السلام)، وهي في نفس الوقت قضية تربوية إنسانية إصلاحية، إذ خلق الله تعالى الإنسان وأودع فيه المشاعر والأحاسيس، وجعلها من أهم محركات السلوك الإنساني، لذا اهتمّ بها الإسلام ووجه برعايتها وإشباعها؛ حتى إنَّه عدَّها جزءًا أصيلًا في إيمان المرء لا يكتمل إلا به ولا ينمو إلا بنمائه.

وعلى هذا، فإن زيارة أولياء الله تعالى(عليهم السلام)، وعلى الأخص زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)، تنمي الإنسانية لدى الإنسان وتجعلها فاعلة انطلاقاً من نفس الزائر لتشمل الدوائر الأخرى بالتدريج.

ومن هنا أصبح الحضور عنده(عليه السلام) بهذه الكيفية والحالة، ليس مجرد فعلاً ولائياً روتينياً، بل هو: بناء إنساني مؤثر في النفس الإنسانية لارتباطها الحقيقي بالأخيار الأبرار الذي رضي الله عنهم(عليهم السلام)، وهو مدعاة لاستمرار العلاقة معه(عليه السلام)، وكذا الحصول على ثمراتها، فزيارته تبعث على تلون حياة الإنسان بحالات مختلفة، لاسيما الحب والأمل والتفاؤل، إذ تصبح حياة الإنسان من دون هذا التلون، حياة رتيبة مملة[11].

الهوامش:-------

[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص: 637

[2] المصدر نفسه، ص: 445.

[3] عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي، ج2، ص: 261. 

[4] مستدرك سفينة البحار، علي النمازي الشاهرودي، ج4، ص: 352.

[5] كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه ، ص: ٢٥٢؛ عن بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج١٠١، ص:١٤٠؛ وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ١٤، ص: ٥٢٨ و ٥٤٠؛ الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج٤، ص: ٥٨٧، التهذيب، الشيخ الطوسي، ج ٦، ص: ٧٦.

[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص: 541.

[7] كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص: 249.

[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج11، ص: ص: 422.

[9] معجم الفروق اللغوية، ابو هلال العسكري، ص: 443.

[10] العوالم، الإمام الحسين(عليه السلام)، الشيخ عبد الله البحراني، ص: ٥٣٨.

[11] راجع: مجلة رواء، العدد الرابع، 27 اغسطس 2020م، تربية المشاعر، ياسر بن مصطفى الشلبي.

: الشيخ مازن التميمي