أساس ظنك العيش

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}[1]، فهذه الآية المباركة تمثل قاعدة من قواعد الحياة الدنيا التي أسسها الله تبارك وتعالى، إذ جاء في تفسيرها[2] عن محمد بن يحيى عن سلمة بن الخطاب عن الحسين بن عبد الرحمن عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) في قول الله(عز وجل): {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، قال: ((يعنى ولاية أمير المؤمنين عليه السلام قلت: ونحشره يوم القيامة أعمى؟ قال: يعنى أعمى البصر في الآخرة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، قال: وهو متحير في القيامة يقول: لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، قال الآيات الأئمة وكذلك اليوم تنسى يعنى تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة عليهم السلام، فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم...))[3].

 

ويمكن بيان فلسفة ذلك من خلال الآتي:

 منذ فجر الخليقة الأول ارتبطت الإرادة الإلهية بأن يفاضل بين مخلوقاته، ولكن بناء على معيار وقانون، والمعيار هو: القرب الإلهي والبعد عنه، الذي يقوم على المعرفة بالله تعالى والجهل به تبارك وتعالى، وكل ذلك مبني على فلسفة عظيمة خُلقنا من أجلها، وهي معرفة الله تبارك وتعالى، وقد أفصح الله تعالى عن هذه الفلسفة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[4]، وقد دلت الروايات على أن أفضل من يعرف الله على الإطلاق هم محمد وآل محمد(صلى الله عليه وعلى آله)، وجبت طاعتهم واتباعهم لتحقق الغرض من الخلق، وهو: معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة تقتضي عبادته.

 

فقد ورد عن جابر بن عبد الله في تفسير الآية الكريمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[5] أنه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه واله): ((أول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقه من خلال عظمته فاقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنه ثم سجد لله تعظيماً فتفتّق منه نور علي فكان نوري محيطاً بالعظمة ونور علي محيطاً بالقدرة ثم خلق العرش واللوح والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري ونوري مشتق من نوره فنحن الأولون ونحن الآخرون ونحن السابقون ونحن الشافعون ونحن كلمة الله ونحن خاصة الله ونحن أحباء الله ونحن وجه الله ونحن اُمناء الله ونحن خزنة وحي الله وسدنة غيب الله ونحن معدن التنزيل وعندنا معنى التأويل وفي آياتنا هبط جبرائيل ونحن مختلف أمر الله ونحن منتهى غيب الله ونحن محال قدس الله ونحن مصابيح الحكمة ومفاتيح الرحمة وينابيع النعمة ونحن شرف الأُمة وسادة الأئمة ونحن الولاة والهداة والدعاة والسقاة والحماة وحبنا طريق النجاة وعين الحياة ونحن السبيل والسلسبيل والمنهج القويم والصراط المستقيم من آمن بنا آمن بالله ومن رد علينا رد على الله ومن شك فينا شك في الله ومن عرفنا عرف الله ومن تولى عنا تولى عن الله ومن تبعنا أطاع الله ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله ولنا العصمة والخلافة والهداية وفينا النبوة والإمامة والولاية ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة ونحن كلمة التقوى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى التي من تمسك بها نجا وتمت البشرى))[6].

 

وورد عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت حبابة الوالبية على أبي جعفر(عليه السلام) فقالت: أخبرني أي شيء كنتم في الأظلة-أظلة العرش-؟ قال: ((كنا نوراً بين يدي الله قبل خلقه الخلق فلما خلق الخلق سبحنا فسبحوا، وهللنا فهللوا وكبرنا فكبروا، وذلك قوله تعالى {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}، ومعناه لو استقاموا على حب علي كنا وضعنا اظلتهم في الماء الفرات وهو حب علي(عليه السلام)))[7].

 

ومن أجل ذلك أمر الله تعالى ملائكته بالسجود التعظيمي لآدم(عليه السلام)، إذ أنهم حلوا في صلب آدم(عليه السلام)، لكن الذي شذ عن إطاعة الأمر الإلهي فقط ابليس(لعنه الله)، فطرده الله تعالى من رحمته لهذه المخالفة، ولكنه توعد أنه سوف ينتقم من آدم(عليه السلام) لأنه بسببهِ طُرده من رحمة الله تعالى، فطلب من الله تعالى ذلك وقد أذن الله له اختباراً وامتحاناً وابتلاءً، وجاءت الموافقة على طلبه باستثناء العباد المخلَصين لأجل أن معرفة آدم(عليه السلام) لله تبارك وتعالى لابد أن تكون عن علم ومعرفة ثبات في العمل.

وكما كان هذا اختبار لإبليس(لعنه الله) في الطاعة باتباع الأمر الإلهي، كان لآدم(عليه السلام) كذلك، إذ منعه من الأكل من الشجرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[8]، لكن آدم(عليه السلام) بسبب أو بآخر أكل من الشجرة، حيث أن الأمر بعدم الأكل لم يكن أمراً مولوياً بل كان أمراً إرشادياً، الغاية منه تدريب آدم(عليه السلام) عملياً على مكائد الشيطان لإيقاع الإنسان في مخالفة الله تبارك وتعالى وعصيان أوامره، فعصيان الأمر كان في مقام العمل لا في مقام النظر، لذا لم يطرده الله تبارك وتعالى من رحمته على الرغم من الأكل من الشجرة التي نُهي عنها كانت مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى والمخالفة معصية، بل أخرجه من جنته، لأن منشأ العصيان لم يكن لتكبر في نفسه كما هو السبب في إبليس(لعنه الله)، بل كان لعدم توقع الغش والتدليس والكذب من أحد في محضر الله تبارك وتعالى وهو ليس بعذر له لامتلاكه قوة العقل والإدراك العقلي ومعرفته نفساً بأن الله سبحانه يجب أن يطاع في كل الأحوال وكان يلزمه الاحتياط على أقل تقدير، لكنه خالف الأمر وعصى، والله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحدا، فهو يعلم جلّ شأنه أن مكائد الشيطان ليس من السهولة والبساطة اكتشافها ومعرفتها لقدرته المفرطة مقابل قدرة الإنسان، ولكن يستطيع معرفتها بالتعود على الاستقامة والفعل الصحيح بإطاعة الأوامر الإلهية، فهي الاكسير الذي يواجه به الإنسان مكائد الشيطان(لعنه الله)، ولكن المخالفة إن وقعت مهما كان سببها ودافعها فيها أمران يلزم بيانهما:

1-                   المعصية والمخالفة التي توجب التوبة النصوحة.

2-                   الأثر الوضعي الناشئ من جراء هذه المعصية والذي لا يرتفع إلا بالتوسل وطلب الرفع له.

 

وقد تاب آدم(عليه السلام) وتوسل لازالت الأثر الوضعي، والأثر الوضعي في هذه المعصية هو: هبوطه إلى الأرض وإخراجه من موقع حُف برضا الله تعالى وهو الجنة إلى موقع حُف بالمكاره وهو دار الدنيا، وكان هذا الهبوط يمثل نزوله رتبة عند الله تبارك وتعالى، فبعد أن كان يتمتع بالحماية والرعاية والتقدير عند الله تبارك وتعالى، أصبحت حمايته ورعايته وتقديره منوطاً عنده(جلّ شأنه) بمقدار طاعته له تبارك تعالى، أي: أن الحماية الإلهية أصبحت حماية مشروطة غير مطلقة كما كانت في السابق، فإن أطاع أمر الله تعالى حماه الله(عزَ وجلّ) وإلا فلا: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[9].

 

وعلى هذا الأساس أسست قاعدة: (ظنك العيش في هذه الدنيا الفانية)، والتي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}[10].

 وهنا لابد من بيان أننا نعني بظنك العيش الذي يحدث للإنسان في الحياة الدنيا، هي: الآثار الوضعية للذنوب التي تغلق باب التوفيق والفلاح وتيسير الأمور، فقد قال الإمام جعفر بن محمد الباقر(عليهما السلام): ((إن لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنك في العيش ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب))[11].

 

وجاء عن محمد بن علي عن الحكم بن مسكين عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قال: ((انى لألعق أصابعي حتى أرى ان خادمي يقول: ما أشره مولاي))[12]، وفي نص آخر عن عمرو بن شمر، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق(عليه السلام) يقول: ((إني لألحس أصابعي من المأدوم حتى أخاف أن يرى خادمي أن ذلك من الجشع، وليس ذلك، كذلك إن قوماً أفرغت عليهم النعمة وهم أهل الثرثار، فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوها هجاءً، فجعلوا ينجون بها صبيانهم حتى اجتمع من ذلك جبل، قال: فمر رجل صالح على امرأة وهي تفعل ذلك بصبي لها، فقال: ويحكم، اتقوا الله لا يغير ما بكم من نعمة، فقالت: كأنك تخوفنا بالجوع، ما دام ثرثارنا يجري فإنا لا نخاف الجوع، قال: فأسف الله(عز وجل) وأضعف لهم الجبل، قال: فإن كان ليقسم بينهم بالميزان))[13].

 

وذكر الحويزي أنه جاء في تفسير علي بن إبراهيم أنه قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن فضالة عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سألته عن رجل لم يحج قط وله مال؟ قال(عليه السلام): ((هو ممن قال الله: ونحشره يوم القيمة أعمى، قلت: سبحان الله أعمى! قال: أعماه الله عن طريق الجنة))[14].

 

وعليه فظنك العيش يكمن في ترك الأحكام الشرعية وعدم طاعة الأوامر الإلهية وطاعة ابليس(لعنه الله)، ومنها طاعة الرسول الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) وما صدر عنه في حق أهل بيته الكرام(عليهم السلام)، إذ أن القضية لا تخلوا من صورتين محصورتين لا ثالث لهما، وهي إما طاعة الله تبارك وتعالى أو طاعة إبليس(لعنه الله).

 

ومنه فإن أكثر الذي يعانيه الإنسان اليوم، هو: نتيجة عصيان الأوامر الإلهية والاستهانة بها والتماهل في تطبيقها سواء كان ذلك عن قناعة وهوى نفس أو انكسار وانهزام أمام الضغوطات الإبليسية مع رجاحة عقل الإنسان وقوته، وآثارها الوضعية، لذا فحري بالإنسان ملاحظة ذلك ليصلح ويؤسس للسعادة لا الشقاء، فبدل أن يكون عيشه ظنكاً يكون عيشه عيشاً هنياً فيرضى الله تعالى عنه.

ففهم الموضوع يغير من حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، والاعتياد عليه يغير الواقع المعاش، وضرورة هذا التغيير يجلب رضا الله تبارك وتعالى، فيحصل الإنسان من خلالها على كل المأذونيات اللازمة لدوران الحياة الدنيا وجزئياتها صغيرة أو كبيرة، والأمر خاضع للإرادة الإنسانية، أي أن الأمر بيد الإنسان، والمعادلة هي: أطع الله تبارك وتعالى تهنأ وتسعد وتتقدم وتتطور في حياتك، وإلا فأنت لا تحظى بالتعاسة والشقاء والنكد.

 

الهوامش:----

 

[1] سورة طه: 124.

[2] انظر: تفسير نور الثقلين، الحويزي، ج ٣،ص: ٤٠٦.

[3] أصول الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب، ج1، ص: 435. 

[4] سورة الذاريات: 56.

[5] سورة ال عمران، الآية: 110.

[6] بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج25، ص: 23، عن كتاب: رياض الجنان: مخطوط، لم يظفر بنسخته منه.

[7] مشارق أنوار اليقين، الحافظ رجب البرسي، ص: ٥٩.

[8] سورة البقرة: 35.

[9] سورة الحج: 38.

[10] سورة طه: 124.

[11] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص: 296 .

[12] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج ١٦، ٤٩٦.

[13] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 24 ، 381 فما بعد.

[14] تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج ٣، ص: ٤٠٦.

: الشيخ مازن التميمي