تعتبر مسألة الأمن والتعايش السلمي في داخل كلّ مجتمع، أو وطن من أولويات الاهتمامات في كلِّ دولة ومجتمع يبحثان عن الأمان، ومن هنا جعلت القوانين والدساتير التي تنظم حياة الشعب القائمة والقاضية على الاحترام المتبادل، وحفظ كرامة الآخرين، ومنحهم الحريات الشخصية ضمن مساحة لا يسمح فيها بالتعدي على حقوق وحريات الآخرين، أو التعدي على المصالح العامة؛ وقد جاء التأسيس للأمن القومي والداخلي المسؤول عن سلامة أفراد البلد واستقرار أمنه في كلّ دولة من أجل أن يضمنوا التعايش السلمي بين أفراد الوطن الواحد، بل وصل الأمر إلى أن تقوم الدول بتأسيس مجلس للأمن الدولي؛ مراعاة للانضباط العالمي، وعدم العبث بحياة الآخرين، أو اعتداء بعض الدول على غيرها ونهب ثرواتها؛ ممّا يثبت ويدعم الاستقرار الدولي، وحفظ النظام العالمي، والعيش بسلام وأمان تحت مسمى السلام الدولي.
لقد راعى الدين الإسلامي وكباقي الديانات الأخرى، ما أقره العقل والعقلاء، واستحسنوه في مسألة الانضباط في أخذ الحقوق، أو طرح الأفكار والدعوة إليها، وذلك من خلال مراعاة الحدود والمساحة التي أقرّها الشرع والعقل، سواء كانت تلك الحقوق ممّا يصار إليها بنحو العمل أو القول؛ فيجب مراعاة السبل الممكنة والحسنة في بيان ذلك، وكذا الأمر في القضايا الجنائية وسلب الحقوق المالية وما شاكل ذلك فالعود فيها للمحاكم الشرعية أو الحكومية أو الدولية بحسب نوع المعتدى عليه، وكذا الحال في الدعوة للدين أو المفاهيم الإسلامية، فقد راعت الشريعة أن يكون وفق نظام حتى لا يترتب الفساد أو الظلم أو التعدي على الآخرين؛ فقد قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[1]، فمن الخطأ، بل من الجنايات على النفس وعلى الآخرين، أن تعطي أحمقاً سكيناً ليجرحك بها، أو تعطيه المبرر والداعي والمسوغ للإضرار بك؛ ثم تلومه بعد ذلك على ما قام به، أو تمنحه مسوغات قتلك وقتل الآخرين.
عندما لا يسمح الله في القرآن الكريم بسب أئمة الكفر علناً وصراحةً ومواجهةً لكيلا يسب الله عدواً بغير علم، فكيف يسمح بسب رموز المذاهب الأخرى، أو التجاوز على معتقداتهم، أو ما يعتقدون تقديسه، وكذا الأمر عند رسول الله والأئمة(عليهم السلام أجمعين)، إذ لم يتكلموا بهذا الكلام الذي ينقله البعض لعامة الناس من سب وتجاوز على ما هو مقدس ورمز لدى المذاهب الأخرى، بل أوصونا على عكس ذلك من مداراتهم، وحضور جنائزهم، والصلاة في مساجدهم، وفي روايات عديدة ومعتبرة، فعَنْ زَيْدِ الشَّحَّامِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ قَالَ: (يَا زَيْدُ خَالِقُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، صَلُّوا فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا الْأَئِمَّةَ وَالْمُؤَذِّنِينَ فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْجَعْفَرِيَّةُ رَحِمَ اللَّهُ جَعْفَراً مَا كَانَ أَحْسَنَ مَا يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ، وَإِذَا تَرَكْتُمْ ذَلِكَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْجَعْفَرِيَّةُ فَعَلَ اللَّهُ بِجَعْفَرٍ مَا كَانَ أَسْوءَ مَا يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ)[2].
بل رسم لنا رسول الله والأئمة من أهل بيته (عليهم صلوات الله) خريطة للعمل والتعايش والمخالطة الحسنة مع باقي أهل الديانات فضلاً عن المذاهب الداخلة تحت الإسلام وفقاً لقانون التقية، أو نشر الأخلاق الحسنة مع الآخرين، أو تأدية لحقوق المؤمنين، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنَ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا) أنَّهُ قَالَ: (صَانِعُ الْمُنَافِقَ بِلِسَانِكَ، وَأَخْلِصْ وُدَّكَ لِلْمُؤْمِنِ، وَإِنْ جَالَسَكَ يَهُودِيُّ فَأَحْسِنْ مُجَالَسَتَهُ)[3]، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[4]، قال: (أَيْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَمُخَالِفِهِمْ أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فَيُكَلِّمُهُمْ بِالْمُدَارَاةِ لِاجْتِذَابِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنِ بِأَيْسَرِ مِنْ ذَلِكَ يَكُفَّ شُرُورَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ)[5]، وأيضاً ما قَالَه الْإِمَامُ علي (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّ مُدَارَاةَ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ صَدَقَةِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِخْوَانِهِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِي مَنْزِلِهِ، إِذِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلُولٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ ائْذَنُوا لَهُ، فَأَذِنُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَجْلَسَهُ وَبَشَرَ فِي وَجْهِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، وَفَعَلْتَ بِهِ مِنَ الْبِشْرِ مَا فَعَلْتَ!، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): يَا عُوَيْشُ يَا حَمِيراء، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)[6]، وما روي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (وَمَا مِنْ عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ دَارِى عِبَادَ اللَّهِ بَأَحْسَنِ الْمُدَارَاةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي بَاطِلٍ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ نَفَسَهُ تَسْبِيحاً وَزَكَّى عَمَلُهُ، وَأَعْطَاهُ لِصَبْرِهِ عَلَى كِتْمَانِ سِرِّنَا وَاحْتِمَالِ الْغَيْظِ لِمَا يَسْمَعُهُ مِنْ أَعْدَائِنَا ثَوَابَ الْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[7].
إنّ المتتبع والذي يقف مدققاً لما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) الواردة بحق قادة المذاهب الأخرى، بل لنفس أتباع المذاهب وكيفية التعايش معهم يمكن أن لاحظ أموراً عديدة منها:
الأمر الأول: إنّ المعصومين كانوا يأمروننا بالعمل بالتقية، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ: (اتَّقُوا عَلَى دِينِكُمْ، وأحجبوه بِالتَّقِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ)[8]، والتقية على أنواع فمرةً يؤمر بها خوفاً على الدين من الضياع بحسب بيان النص المتقدم، ومرةً أخرى يؤمر بها خوفاً على شيعتهم من القتل والتشريد، فَعَنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): (إِنَّا لَنَبْشِرُ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ، وَإِنَ قُلُوبَنَا تقليهم أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ نَتَّقِيهِمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، لَا عَلَى أَنْفُسِنَا)[9].
الأمر الثاني: أنّهم كانوا يعلّمون شيعتهم عدم الطعن المباشر بالآخرين؛ لكي لا يتعرضوا إلى مالا يحمد عقباه، بل لهم أن يصرحوا بفضل أهل البيت (عليهم السلام) إن أمنوا من القتل، أمّا التعرض لأعداء أهل البيت فلم يرد من أهل البيت ذماً وطعناً علنياً بهم، سوى ما كان من تصريح بأفعالهم أو بيان وتصريح لبعض خاصتهم؛ لكي لا تخفى حقيقة ما فعل الأعداء بآل البيت (عليهم السلام) ولعلّ من أوضح التوصيات في حقن الدماء أنّ أهل الشام ممن وقف مع معاوية في القتال ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنّ أمير المؤمنين نهى عن سبهم، ولعنهم عندما مرّ على بعض أصحابه فوجدهم يلعنون أهل الشام، ويسبونهم، فقد روي مِنْ كَلَامٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَقَدْ سَمِعَ قَوْماً مِنْ أَصْحَابِهِ يَسُبُّونَ أَهْلِ الشَّامِ أَيَّامٍ حَرْبِهِمْ بِصِفِّينَ: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)[10].
الأمر الثالث: إنّنا أمرنا بالتولي لهم، والتبري من أعداءهم لكن بشرط الحفاظ على النفس ولعلّ البعض يقول من أين لك ذلك؟ أقول: ألم يقولوا أمّا السب فنعم، وأمّا التبري لا، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أَلَا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي، فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةُ وَلَكُمْ نَجَاةُ، وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تتبرأوا مِنِّي فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ)[11]، فاذا كانوا يجيزون لنا سبهم عند التقية فكيف بترك سب أعداءهم!!!.
الأمر الرابع: إنّنا لا عدو لنا يستحل قتاله، والجهاد ضده، وتكفيره واستحلال دمه وعرضه وماله، أو بعضها إلا فئات معينة قد حدّدها وبيّنها لنا القرآن الكريم، وأكدتها السُنّة الشريفة وهي:
1- قتال الكفار الذي أمرنا الله بجهادهم وفق معطيات معينة وليس في جميع الأوقات، أي الذين يشكلون خطراً على الإسلام، أو من يرفعون السلاح ويشكلون تهديداً لأمن المسلمين، ويدّل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[12]، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}[13]، وقد يقول قائل لمَ خصصتم القتال بمن يحمل السلاح أو من يشكل تهديداً للمسلمين؟ قلنا وذلك لأنّ هنالك عهوداً وموائيقاً كانت تراعى من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع المشركين في أول الأمر فنهى الله عن قتالهم ما لم ينقضوا العهد، والاتفاق المبرم مع المسلمين، وقد أوضح في كتاب الله فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[14]، أو لأجل الاستجارة وتبليغهم بالأحكام وعرض الإيمان عليهم، فقد قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}[15]، بل كلّ من يرتد عن الدين الإسلامي بعد الإيمان من الرجال إن كان ملياً فيستتاب ولا يقتل مباشرة، وإن كان الرجل المرتد فطرياً، قيل: فهنالك خلاف فيه، قالوا: (فإذا كان ارتداده فطرياً هل تقبل توبته أم لا؟ ففيه أقوال ثلاثة: الأول: أنّها تقبل مطلقاً باطنا وظاهرا، الثاني: أنّها لا تقبل مطلقاً لا باطنا ولا ظاهرا، الثالث: أنّها تقبل باطناً ولا تقبل ظاهراً)[16]، ثم أنّ هنالك أصحاب ديانات أخرى كانت تعيش بسلم وأمان وفق قانون الذمي ودفع الجزيات.
2- قتال أهل النفاق، إذ يستحل قتالهم وتستحل دماءهم دون أعراضهم وأموالهم ما لم يأذن المعصوم بأخذها اضعافاً لهم، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[17].
3- قتال البغاة، وهو قتال لردهم عن البغي ولا تستحل الأعراض، أمّا المال فموكول علمه للمعصوم (عليه السلام) ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[18].
4- قتال الناصب الحربي الذي ينصب العداء لآل البيت (عليهم السلام)، فقد ورد عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (أَنَا حَرْبُ لِمَنْ حَارَبَكُمْ، وَسِلْمُ لِمَنْ سَالَمَكُمْ)[19]، أمّا من يخالفهم في الفكر ولا يعاديهم ولا ينصب لهم الحرب؛ فنحن وإن كنّا لا نتفق معه، ولسنا معه، لما ورد في الزيارة الجامعة: (فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ غَيْرِكُمْ، وَإِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ لَا إِلَى عَدُوِّكُمْ)[20]، إلا أنّنا لا نقتلهم ولا نكفرهم ونستحل أموالهم؛ لأنّ النص قال حرب لمن حاربكم، ولم يقل لمن خالفكم في الفكر.
فكم من مخالف لأهل البيت (عليهم السلام) في الفكر والمعتقد، ثم صار من خلص أتباعهم وثقاتهم، أمثال محمد بن مسلم& الذي كان على غير مذهب أهل البيت ثم صار من خلص الأصحاب، وقد وصفه الإمام الصادق (عليه السلام) من النجباء، فقد روي عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) يَقُولُ: (بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ بِالْجَنَّةِ: بُرَيْدُ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعِجْلِيِّ، وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ الْمُرَادِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنِ مُسْلِمٍ، وَزُرَارَةَ، (أَرْبَعَةُ نُجَبَاءُ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لَولَا هَؤُلَاءِ انْقَطَعَتْ آثَارُ النُّبُوَّةِ وَانْدَرَسَتْ)[21]، فتلك النتائج لا يمكن أن تحصل لو لم يقم أهل البيت (عليهم السلام) من خلق حسن وعمل متقن وخالص لله بروية وتدبير غايته هداية الآخرين.
الأمر الخامس: نعم ورد عنهم النهي عن أتباع الغير، أو إتباع أفكار من يخالفهم، وعدم الأخذ ممن يخالفهم؛ لكي نكون مقربين جداً منهم ونكون في نجاة ونعلو في المقامات فـ(مقام منه) يختلف عن (مقام معه)، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي: (يَا كُمَيْلُ لَا تَأْخُذْ إِلَّا عَنَّا تَكُنْ مِنَّا)[22]، وكذا ورد في وصبة الإمام الرضا (عليه السلام) لأبن محمود قائلاً له: (يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِذَا اخُذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا فانه مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ)[23].
وبناء على هذا نقول: إنّ ما يخرج من شتم للآخرين، وتحليل دماءهم أو جواز قتلهم من غير أهل العلم؛ إنّما هي تصريحات بما تهوى النفس، وهي الطامة الكبرى التي تمزق الإسلام والأوطان، وتخدم أعداء الدين لضرب المؤمنين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
إنّنا وبفعلنا هذا من تجاوز وشتم وسب للآخرين نتجاهل قضيتين مهمتين:
القضية الأولى: إنّ كلّ من يتكلم لا يتكلم عن مقدار حجمه، بل يعتبر نفسه هو الممثل الشرعي عن الشيعة، وقطعاً أقصد من سياسيين، أو عامة الناس غير المتفقهين، أو بعض رجال الدين المبتدئين الذين غاية فهمهم من الدين ما يميلون إليه، أو يفهموه بعقولهم القاصرة عن بلوغ غور الدين وعمقه؛ لعدم بلوغه لمنصب الفتيا والاجتهاد حقاً ويقيناً، ثم يقول هذا قول الإمام (عليه السلام)، ولعمري إنّ هذه طامّة كبرى.
القضية الثانية: إنّنا نتجاهل كلام الأئمة وتوجيهاتهم في التعايش مع الطرف الآخر، بل قد أوصونا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن لا ننقل الى مخالفيهم إلا محاسن كلامهم وهل ما ينقل من كلام على الفضائيات والذي يشحن الجو بالطائفية هو ما يريده الإمام المعصوم؟ قطعاً لا. ولذا فقد جاء في رواية صحيحة السند عن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ وَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْراً)[24].
إنّ ما يحدث اليوم لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) من قتل وتهجير وحمل أفكار خاطئة عن المذهب الحق؛ تعود أسبابه لبعض التصرفات المتطرفة وغير الصحيحة من بعض الجماعات المتشددة اتجاه المذاهب الأخرى، والإساءة إلى رموزهم، متناسين أنّهم جزء موجود في نفس المجتمع الذي نعيشه فالأئمة (عليهم السلام) يريدون منّا أن نبيّن للناس محاسن كلامهم الذي يحبب الناس إليهم، فهل يا ترى سباب رموز الغير والتعدي على مذهبهم يحبب الناس في الأئمة، ويجرهم إلى الاعتراف بالمعصوم والتأثر في خلقه؟
أليس التعدي على الآخرين تهديم لمشروع التعايش السلمي الذي يريده الله ورسوله الكريم وأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)؟
أليس السباب منهياً عنه إن كان ممّا يجرّ الآخرين ويسوغ لهم التعدي على الله عز وجل؟
فحري بنا أن لا نحمل المعاول التي تساهم في تهديم الدين والمجتمع، وتهدد الأمن السلمي، ونمتثل لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[25].
الهوامش:-----
([1])سورة النحل, آية: 125.
([2])الشيخ الصدوق, من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣٨٣.
([3])الشيخ المفيد, الأمالي ص 185.
([4])سورة البقرة, آية: 83.
([5])منسوب الى الإمام العسكري (عليه السلام), تفسير الإمام العسكري ج 1 ص 354.
([6])الميرزا النوري, مستدرك الوسائل ج ٩ ص٣٦.
([7])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٨٩ ص٢٥٥.
([8])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ١٦ ص٢٠٥.
([9])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٧٢ ص ٤٠١.
([10])الشريف الرضي, نهج البلاغة ج ٢ ص ١٨٥.
([11])المصدر نفسه, ج ١ ص ١٠٦.
([12])سورة التوبة, آية: 123.
([13])سورة الفتح, آية: 29.
([14])سورة التوبة, آية: 4.
([15])سورة التوبة, آية: 6.
([16])المحقق البحراني, الحدائق الناضرة ج ١١ ص ١٥.
([17])سورة التحريم, آية: 9.
([18])سورة الحجرات, آية: 9.
([19])ابن شهر آشوب, مناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٨.
([20])العلامة المجلسي, بحار الأنوار ج ٩٩ ص١٥٣.
([21])الشيخ الحر العاملي, وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٤٢.
([22])ابن شعبة الحراني, تحف العقول ص ١٧١.
([23])الشيخ الصدوق, عيون أخبار الرضا(عليه السلام) ج 2 ص272.
([24])الشيخ الكليني, الكافي ج ٨ ص ٢٢٩.
([25])سورة الأنعام, آية: 108.
اترك تعليق