النبي وإعلان مرجعية آل البيت عليهم السلام

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بدنو أجله وأحسّ المسلمون بذلك في حجة الوداع، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن الكتاب والسنة دون مبين لهما غير كافيين لمواصلة المسيرة المباركة التي ابتدأها، لذلك أعلن في حجة الوداع على مرأى ومسمع الألوف من الحجّاج مرجعية أهل البيت عليهم السلام الفكرية والسياسية[1].

وقد نقل لنا مسلم هذه الوصية التاريخية في صحيحه وبعدة طرق: قال زيد بن أرقم ـ أحد رواة الحديث ـ : (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر، ثم قال:

«أمّا بعد ألا أيُّها الناسُ فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به».

فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثمّ قال:

«وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»)[2].

وفي صحيح الترمذي ومستدرك الحاكم ـ وصححه ـ :

«إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما»[3].

لقد روى هذا الحديث عن النبي خمسة وثلاثون صحابياً، وعده البعض من الأحاديث المتواترة، قال الشيخ أبو المنذر سامي المصري في كتابه: (الزهرة العطرة في حديث العترة) البحث الثالث: (وبعد ثبوت حديث العترة المطهرة عن سبعة من صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم، ومن أكثر من ثلاثين طريقاً، وصحته التي لا مجال للشك فيها، وما علمناه من معنى التواتر والمتواتر، وشروط المتواتر، وأقسام المتواتر، وعدد نقلة المتواتر، وصفة نقلة المتواتر، وإفادة المتواتر، يمكننا أن نقول: إن حديث العترة المطهرة قد بلغ حد التواتر، وان تواتره معنوي كما نقلنا، وهذا فضلا عن أن لفظ: الكتاب والعترة، ما تخلّف في نص مما سبق، فيكون ـ حسب كلام السيوطي ـ هذا القدر المشترك من الحديث ـ كتاب الله وعترتي ـ متواتر قطعا)).

 وصحّحه كثير من علماء الحديث، منهم: الحاكم في المستدرك، الذهبي في تلخيص المستدرك، الهيثمي في مجمع الزوائد، وابن كثير في تاريخه، والسيوطي في الجامع الصغير، وابن تيمية ذكره في منهاج السنة عدّة مرات، وبالرغم من تعصبه المقيت ومحاولة صرف الحديث لظاهر معناه إلا أنه احتج بلفظ الترمذي على حجية إجماع العترة، وصححه من المعاصرين الألباني المحدّث السلفي، إذ خرجه تخريجا كاملا ورد على من حاول الطعن به، إذ قال: (أخرجه الترمذي: ج2، ص308؛ والطبراني: ح2680)، عن زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر عن أبيه عن جابر ابن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: (فذكره، وقال: (حديث حسن غريب من هذا الوجه، وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم).

قلت: قال أبو حاتم، منكر الحديث، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال الحافظ: (ضعيف).

قلت: لكن الحديث صحيح، فإن له شاهدا من حديث زيد بن أرقم قال: (قام رسول الله صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:

«أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور (من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل)، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به».

فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:

«وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»)[4].

ثم أخرج أحمد والطبراني والطحاوي من طريق علي بن ربيعة قال: (لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

إني تارك فيكم الثقلين (كتاب الله وعترتي)»? قال: نعم، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح)[5].

و شاهد آخر من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: (إني أوشك أن أدعى فأجيب، و) إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض[6].

و ابن عباس عند الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. وعمرو بن عوف عند ابن عبد البر في جامع بيان العلم: ج2، ص24، وص110.

و هي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من ضعف، فبعضها يقوي بعضا، وخيرها حديث ابن عباس، ثم وجدت له شاهدا قويا من حديث علي مرفوعا به. أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق أبي عامر العقدي: حدثنا يزيد بن كثير عن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن علي مرفوعا بلفظ: (... كتاب الله بأيديكم، وأهل بيتي). ورجاله ثقات غير يزيد بن كثير فلم أعرفه، وغالب الظن أنه محرف على الطابع أو الناسخ. والله أعلم[7].

ثم خطر في البال أنه لعله انقلب على أحدهم، وأن الصواب كثير بن زيد، ثم تأكدت من ذلك بعد أن رجعت إلى كتب الرجال، فوجدتهم ذكروه في شيوخ عامر العقدي، وفي الرواة عن محمد بن عمر بن علي، فالحمد لله على توفيقه.

ثم ازددت تأكدا حين رأيته على الصواب عند ابن أبي عاصم (1558).

وشاهد آخر يرويه شريك عن الركين بن الربيع عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت مرفوعا به[8].

و هذا إسناد حسن في الشواهد والمتابعات، وقال الهيثمي[9] أيضا، ورواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات!

وقال في موضع آخر[10]: رواه أحمد، وإسناده جيد!

بعد تخريج هذا الحديث بزمن بعيد، كان علي أن أهاجر من دمشق إلى عمان، ثم أن أسافر منها إلى الإمارات العربية، أوائل سنة (1402) هجرية، فلقيت في (قطر) بعض الأساتذة والدكاترة الطيبين، فأهدى إليّ أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا الحديث، فلما قرأتها تبيّن لي أنه حديث عهد بهذه الصناعة، وذلك من ناحيتين ذكرتهما له.

الأولى: أنه اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة، ولذلك قصر تقصيرا فاحشا في تحقيق الكلام عليه، وفاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلا عن الشواهد والمتابعات، كما يبدو لكل ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا..

الثانية: أنه لم يلتفت إلى أقوال المصححين للحديث من العلماء ولا إلى قاعدتهم التي ذكروها في (مصطلح الحديث): أن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق، فوقع في هذا الخطأ الفادح من تضعيف الحديث الصحيح.

و كان قد نمى إليّ قبل الالتقاء به واطلاعي على رسالته أن أحد الدكاترة في (الكويت) يضعف هذا الحديث، وتأكدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك، يستدرك عليّ إيرادي الحديث في (صحيح الجامع الصغير) بالأرقام (2453 و2454 و2745 و7754) لأن الدكتور المشار إليه قد ضعفه، وأن هذا استغرب مني تصحيحه!

ويرجو الأخ المشار إليه أن أعيد النظر في تحقيق هذا الحديث، وقد فعلت ذلك احتياطيا، فلعله يجد فيه ما يدله على خطأ الدكتور، وخطئه هو في استرواحه واعتماده عليه، وعدم تنبهه للفرق بين ناشئ في هذا العلم، ومتمكن فيه، وهي غفلة أصابت كثيرا من الناس الذين يتبعون كل من كتب في هذا المجال، وليست له قدم راسخة فيه. والله المستعان)[11]، وصححه المحقق السيد حسن السقّاف[12].

مناورة ابن تيمية

وبالرغم من أنّ الحديث صريح في وجوب إتباع الثقلين معاً الكتاب وأهل البيت عليهم السلام، إلاّ أنّ البعض ـ كابن تيمية ـ شكك فيه وعندما اصطدم برواية مسلم قال: (الحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم قد قاله!! فليس فيه إلاّ الوصيّة بإتباع الكتاب، وهو لم يأمر بإتّباع العترة، ولكن قال:

«أذكركم الله في أهل بيتي»)[13].

من الطبيعي إنّ الذي يعتصر مخيلته ليصرف أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته عليهم السلام عن معانيها يقع في هذه المطبات، فإذا كان الأمر مجرد تذكير، فلماذا يقرنهم بالقرآن فيقول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

«إني تارك فيكم الثقلين» و«لن يفترقا» و«حتّى يردا»؟

وقد أسعفنا الألباني برواية صحّحها، ترد على ابن تيمية وكل من كرر كلامه، فعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم:

«إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض»[14].

ثم إن ابن تيمية ناقض نفسه واحتج بحديث الثقلين على حجية إجماع العترة! إذ قال: إن النبي صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق فيدل على أن إجماع العترة حجة، وهذا قول طائفة من أصحابنا)[15].

وقال في موضع آخر: (وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفى إجماع العترة هل هو حجة يجب إتباعها والصحيح أن كلاهما حجة فإن النبي قال: (عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).

(وهذا حديث صحيح في السنن، وقال صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم:

«أنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

رواه الترمذى وحسنه وفيه نظر)[16].

حديث كتاب الله وسنتي

هذا الحديث المشهور على الألسن غير صحيح، وقد ورد في موطأ مالك (كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر) وسيرة ابن هشام : 4/251 بدون إسناد!

وذكره الحاكم في" المستدرك: 1/93، بسند فيه ابن أبي أويس، وهذه ترجمته:

قال ـ فيه ـ النسائي: ضعيف، وقال الدار قطني: لا أختاره في الصحيح ...، وقال ابن عدي: قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت ابن معين يقول: هو وأبوه يسرقان الحديث.

وقال الدولابي في الضعفاء: سمعت النضر بن سلمة المروزي يقول: كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب.

وقال العقيلي: حدثني أسامة الدقاق بصرى: سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن أبي أويس لا يساوي فلسين[17].

قال ابن حجر: (وقال اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه ولعله بان له ما لم يبن لغيره لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى انه ضعيف؛ وقال ابن عدي: روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد...؛ وقال ابن حزم في المحلى: قال أبو الفتح الأزدي: حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث)[18].

وقد احتج الشيخان بابن أبي أويس، وهذا لا يعني صحة حديثه هذا.

قال ابن حجر: (وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه! الذي شارك فيه الثقات)[19].

ولم يصحح الحاكم الحديث بالرغم من تساهله، وبالرغم من جلبه شاهدا له (1/93) وهو:

أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه أنبأ محمد بن عيسى بن السكن الواسطي ثنا داود بن عمرو الضبي ثنا صالح بن موسى الطلحي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة ... وفيه صالح بن موسى الطلحي.

قال ابن حجر: (قال ابن معين: ليس بشيء.

وقال أيضا: صالح وإسحاق ابنا موسى ليسا بشيء ولا يكتب حديثهما.

وقال هاشم عن ابن معين: ليس بثقة.

وقال الجوزجاني: ضعيف الحديث على حسنه.

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، كثير المناكير عن الثقات...

وقال البخاري: منكر الحديث عن سهيل بن أبي صالح.

وقال النسائي: لا يكتب حديثه، ضعيف.

وقال في موضع آخر: متروك الحديث...

وقال أبو نعيم: متروك، يروي المناكير[20].

وقال الذهبي فيه: (كوفي ضعيف...)[21].

وروى الحديث البيهقي[22] وابن حزم[23] بإسنادين: الأول فيه ابن أبي أويس والثاني فيه: صالح بن موسى الطلحي، وقد مر الكلام فيهما.

وروى ابن عبد البر الحديث بإسناد فيه صالح بن موسى الطلحي[24].

ووصل ابن عبد البر رواية مالك المرسلة من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده[25].

وروى الحديث بسند فيه كثير بن عبد الله[26].

قال عنه ابن معين: ليس بشيء.

وقال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه.

وقال الدار قطني وغيره: متروك، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال مطرف بن عبد الله المدني: رأيته، وكان كثير الخصومة، لم يكن أحد من أصحابنا يأخذ منه... وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة... وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه...)[27].

وقال فيه ابن حجر: (ضعيف من السابعة، منهم من ينسبه إلى الكذب)[28].

قال أبو طالب عن أحمد منكر الحديث، ليس بشيء، وقال عبد الله بن أحمد: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في المسند وقال أبو خيثمة: قال لي أحمد:

لا تحدث عنه شيئا... .

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: واهي الحديث ليس بقوي... .

قلت: وقال أبو نعيم: ضعفه علي بن المديني، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث يستضعف...)[29].

وروى الحديث المذكور أبو بكر الشافعي[30] وأبو القاسم اللالكائي[31] وفي كلا السندين صالح بن موسى الطلحي.

ورواه الخطيب البغدادي بسند فيه سيف بن عمر وهو زنديق لا يحتج به، وبسند آخر فيه الطلحي المذكور[32].

فهذه أسانيد الحديث وهؤلاء رواته، وجاء العلماء من بعدهم ونقلوه عنهم في كتبهم: كالبغوي[33]، وابن الأثير[34]، والخطيب التبريزي[35]، والسيوطي[36]، والمتقي الهندي[37].

وقد ضعف الحديث أكثر من واحد من أهل الشأن منهم:

1. أحمد سعد حمدون، قال: (سنده ضعيف فيه صالح بن موسى الطلحي...)[38].

2. حلمي كامل أسعد، قال في تعليقه على (الغيلانيات: ج1، ص510): (إسناده ضعيف جدا).

3. قال فواز أحمد زمرلي في تعليقه على (عقائد أئمة السلف): (قلت: سنده ضعيف جدا).

4. الشيخ محمد الأمين في ملتقى أهل الحديث في الشبكة العنكبوتية.

5. الشيخ حاتم الشريف، قال في موقع الإسلام اليوم الإلكتروني، حيث قال: (الحديث المذكور أورده الإمام مالك في الموطأ بلاغاً (معلقاً) غير متصل، رقم (2618)، ووصله بعض أهل العلم من طرق لا تصح، وليس في طرقه ما يُقوي بعضها...).

6. ذهب حسن السقاف إلى أن هذا الحديث موضوع (صحيح صفة صلاة النبي: ص289)، على أن هناك إشكالات عديدة ترد على صيغة حديث (كتاب الله وسنتي).

ـ فالروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الحديث في حجة الوداع، والملاحظ أنه حضر مع النبي أكثر من مائة ألف إنسان، ومع هذا لم يرو الحديث إلا ابن عباس وأبو هريرة، إن الوصية بالكتاب والسنة كضمان للأمة من الضلال ـ إن صحت ـ فهي عظيمة، فلمَ لا يروي هذه الوصية إلا اثنان من أولئك المائة ألف؟!!

ـ إن أصحاب الصحاح الستة بما فيهم البخاري ومسلم لم يرووا هذا الحديث، وبالرغم من أن البخاري أفرد بابا في صحيحه بعنوان: باب الاعتصام بالكتاب والسنة، إلا أنه لم يورد هذا الحديث، مع العلم أنه أنسب حديث في الباب، والغريب أن البخاري اختار صحيحه من مائة ألف حديث صحيح كانت لديه، فلِمَ لم يختر هذا الحديث المهم؟!!

ـ إن إمام السلفية أحمد بن حنبل وهو الداعي الأول لاتباع النصوص لم يرو هذا الحديث في مسنده بالرغم من اطلاعه على ستمائة ألف حديث صحيح!!

ومن يراجع كتب أئمة السلفية: ابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن عبد الوهاب مثلا لا يجد للحديث أي ذكر، وهذا كله يدل على عدم اعتناء هؤلاء بالحديث بالرغم من حاجتهم الماسة إليه.

ـ كيف يصح هذا الحديث فيأمر النبي الناس بالرجوع إلى سنته مع عدم تدوينه لها ومع نهيه عن كتابتها كما في حديث مسلم؟

وأين يجد الآخرون من غير الصحابة سنة النبي؟ هل يرجعون إلى الصحابة؟ ولا يمكن هذا فهم ليسوا مخلدين، كما إن إرجاع الناس إلى صحابته يؤدي لتضييع السنة، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن صحابته عرضة للموت في أي لحظة وخاصة في ساحات القتال، فكيف يودع سنته عندهم؟! كيف يودعها عندهم وفيهم منافقون لا يعلمهم إلا الله؟

ـ من الثابت أن عمر رد على رسول الله حين أمر صلى الله عليه وآله وسلم بإحضار كتف ودواة ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا، وكان رده: حسبنا كتاب الله، فلماذا لم يذكر (وسنتي) وهي لا تشكل تحديا له، إن صح الحديث فلا شك أن عمر هو أول من رفض العمل بمقولة وسنتي!

ـ على افتراض صحة الحديث فقد قامت سياسة الخلفاء على منع التحدث عن النبي ومعاقبة من يفعل ذلك وحرق سننه المجموعة، فكيف يترك النبي سنته ضمانا للأمة من الضلال فيعمد الخلفاء إلى إخفائها ومنع التحدث بها؟

ـ إن التمسك بالكتاب والسنة غير كاف للأمن من الضلال، فأغلب الفرق الإسلامية تدعي تمسكها بالكتاب والسنة بطريق أو بآخر ومع ذلك فهي مختلفة وتائهة.

لا شك أن السنة مصدر أساسي من مصادر التشريع، ولكن هل (الكتاب والسنة) هما سبيل نجاة الأمة الذي تركه النبي للناس؟

قد بينا ضعف هذا القول، وللفريق الذي يصر على تصحيح حديث " كتاب الله وسنتي" دون مستند صحيح يقال:

لو افترضنا صحة حديث (كتاب الله وسنتي) فيمكن الجمع بينه وبين حديث "كتاب الله وعترتي (فيكون النبي قد ترك لنا الكتاب والسنة والعترة)، فتكون السنة عند الأئمة من العترة وهو ما يقوله الإمامية! قال الشيخ الدكتور رجب ديب: (فالمسلمون مأمورون بشكل صريح باتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه ـ وآله ـ وسلم وآل بيته...) من تقديمه لكتاب فقه الآل بين دعوى الإهمال وتهمة الانتحال[39].

وفي رواية (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي:

«...وأنت أخي ووارثي ».

قال ـ عليه السلام ـ :

«ما أرث منك يا نبي الله؟».

قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

«ما ورث الأنبياء قبلي».

قال ـ عليه السلام ـ :

«وما ورث الأنبياء قبلك؟».

قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

«كتاب الله وسنة نبيهم»)[40].

وجاء (في مسند زيد بن علي:

«يا أيها الناس إنّي خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي»[41].

قال ابن حجر: (وفي رواية كتاب الله وسنتي، وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب لأن السنة مبينة فأغنى ذكره عن ذكرها، والحاصل أن الحث وقع على التمسك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة)[42].

ولو افترضنا صحة حديث (كتاب الله وسنتي) فهو قاض باتباع أئمة أهل البيت، لأن حديث (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) من سنة النبي التي يجب اتباعها!

وهكذا اتضح الحق مبيناً لكل ذي بصيرة لم ينخرها العناد بالفساد.

حديث السفينة

ونصُّه:

«مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك».

روى هذا الحديث ثمانية من الصحابة، وصححه كل من: الحاكم في المستدرك[43]، والسيوطي في نهاية الافصال في تشريف الآل[44]، والطيبي في شرح المشكاة، وابن حجر الشافعي حيث قال: (جاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً...)[45].

وصححه محمد بن يوسف المالكي المعروف بالكافي حيث قال بعد كلام له: (ويدلك على ذلك): الحديث المشهور المتفق على نقله:

«مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق»)[46].

وصححه الإمام المقبلي والأمير الصنعاني كما يظهر.

قال الإمام المقبلي في (نجاح الطالب في شرح مختصر ابن الحاجب): (إن أهل البيت والكتاب لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض قد تواترت معنى ويشهد له حديث مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق).

1 ـ نقله عنه الأمير الصنعاني في كتابه: دون اعتراض منه عليه مما يعني موافقته[47].

وقد روى هذا الحديث حتّى القرن الرابع عشر أكثر من مائة وخمسين عالماً من علماء أهل السنة.

ودلالة الحديث لا تخفى على أحد في وجوب اتباع أهل البيت عليهم السلام لتحصيل النجاة.

حديث الأمان

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»[48].

قال المناوي في شرح الحديث: (شبههم بنجوم السماء وهي التي يقع بها الاهتداء وهي الطوالع والغوارب والسيارات والثابتات فكذلك بهم الاقتداء وبهم الأمان من الهلاك قال الحكيم الترمذي: أهل بيته هنا من خلفه على منهاجه من بعده وهم الصديقون وهم الإبدال)[49].

وقال الإمام المقبلي: (وكذا أخرج أحمد حديث النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس) قال: ( ومن أنصف علم أن هذا الدليل أقوى من أدلة إجماع الأمة بمراتب).

ونقله عنه الأمير الصنعاني في كتابه: دون اعتراض منه عليه مما يعني موافقته له في الاحتجاج به[50].

فتبين أن هذا الحديث صريح في أنّ أهل البيت (عليهم السلام) أمان الأمة من الاختلاف.

الهوامش:----

([1]) ونعني بأهل البيت إضافة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء عليها السلام الأئمة الاثني عشر عليهم السلام أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام ثم الحسن عليه السلام والحسين عليه السلام وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، لمزيد من التفصيل انظر كتابنا: وركبت السفينة: ص533 ـ 596.

([2]) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.

([3]) صحيح الترمذي: ج5، كتاب المناقب، ص663، ح3788؛ المستدرك على الصحيحن: ج3، ص148.

([4]) أخرجه مسلم: ج7، ص122 ـ 123؛ والطحاوي في مشكل الآثار: ج4، ص368؛ وأحمد: ج4، ص366 ــ 367؛ وابن أبي عاصم في السنة: ص1550 ــ 1551؛ والطبراني: ح5026؛ من طريق يزيد بن حيان التميمي عنه.

([5]) أخرج أحمد: ج4، ص371؛ والطبراني: ح5040؛ وله طرق أخرى عند الطبراني: ح4969، وح4971، وح4980، وح4982؛ وبعضها عند الحاكم: ج3، ص109، وص148، وص533)، وصحح هو والذهبي بعضها.

([6]) أخرجه أحمد: ج3، ص14، وص17، وص26، وص 59؛ وابن أبي عاصم: ص1553، وص1555؛ والطبراني: ح2678، وح2679؛ والديلمي: ج2، ص1، ح45؛ وهو إسناد حسن في الشواهد. وله شواهد أخرى من حديث أبي هريرة عند الدار قطني: ص529؛ والحاكم: ج1، ص93؛ والخطيب في الفقيه والمتفقه: 56 / 1.

([7]) مشكل الآثار: ج2، ص307.

([8]) أخرجه أحمد: ج5، ص181 ـ 189؛ وابن أبي عاصم: ص1548 ـ 1549؛ المعجم الكبير للطبراني: ص4921 ـ 4923.

([9]) مجمع الزوائد: ج1، ص170

([10]) المعجم الكبير: ج9، ص163.

([11]) سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج4، ص355، رقم الحديث 1761.

([12]) صحيح صفة صلاة النبي: ص289.

([13]) منهاج السنة: ج4، ص85.

([14]) السنة لابن أبي عاصم: ص337، رقم الحديث754؛ مسند أحمد بن حنبل: ج5، ص182.

([15]) منهاج السنة النبوية: ج7، ص395.

([16]) مجموع الفتاوى: ج28، ص493.

([17]) ميزان الاعتدال: ج1، ص222 ـ 223.

([18]) تهذيب التهذيب: ج1، ص271 ـ 272.

([19]) تهذيب التهذيب: ج1، ص273.

([20]) تهذيب التهذيب: ج4، ص354 ـ 355.

([21]) ميزان الاعتدال: ج2، ص301 ـ 302.

([22]) السنن الكبرى للبيهقي: ج10، ص114.

([23]) الإحكام لابن حزم: ج6، ص243.

([24]) التمهيد لابن عبد البر: ج24، ص332.

([25]) التمهيد لابن عبد البر: ج24، ص331.

([26]) جامع بيان العلم: ج2، ص979.

([27]) ميزان الاعتدال: ج3، ص406 ـ 407.

([28]) تقريب التهذيب لابن حجر: ج2، ص132.

([29]) تهذيب التهذيب: ج8، ص377 ـ 378.

([30]) الغيلانيات لأبي بكر الشافعي: ج1، ص510

([31]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ج1، ص76.

([32]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: ج1، ص306.

([33]) مصابيح السنة: ج2، ص239

([34]) جامع الأصول من أحاديث الرسول: ج1، ص277، عن الموطأ.

([35]) مشكاة المصابيح: ج1، ص53، عن الموطأ.

([36]) الجامع الصغير: ج1، ص505.

([37]) كنز العمال: ج1، ص173، نقلا عن المستدرك.

([38]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة: ص8،تخريج أحمد سعد حمدون.

([39]) الشيخ أمين بن صالح هران الحداء: ص7.

([40]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج2، ص666.

([41]) مسند زيد بن علي: ص404.

([42]) الصواعق المحرقة لابن حجر: ج2، ص439.

([43]) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج2، ص343، وج3، ص151.

([44]) خلاصة عبقات الأنوار: ص43.

([45]) الصواعق المحرقة: ص150.

([46]) راجع؛ خلاصة العبقات: ص247.

([47]) إجابة السائل شرح بغية الآمل للصنعاني: ج1، ص155 ـ 156.

([48]) مستدرك الحاكم: ج3، ص149، قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ الصواعق المحرقة لابن حجر: ص91 وص140، وصححه مجمع الزوائد للهيثمي: ج9، ص147.

([49]) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: ج6، ص386.

([50]) إجابة السائل شرح بغية الآمل: ج1، ص155 ـ 156.

المرفقات

: الدكتور مروان خليفات