يبرز العمل الفني كوحدة جمالية من العلاقات البصرية المنظمة امام المشاهد ، على اعتبار إن أساس عملية الرسم برمتها ما هي إلا تأسيس لنظام .. وبالتالي هي عملية تنظيم للأشكال المنتقاة من الواقع او محيط الفنان ورؤيته للكون وخالقه الاوحد جل شأنه، ولا يخفى إن القاعدة الأساسية التي قام عليها الكون ما هي إلا منظومة متكاملة أشار إليها الله جل وعلا في كتابه الكريم في جدلية الإيضاح، وتثبيت حقيقة الاتزان الكوني والنظام الحاكم لحركة المتضادين الظاهرين، كما في قوله تعالى..( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ،ولا الليل سابق النهار ،وكلُ في فلك يسبحون )، فالكون هو التصميم والتصميم في واقعيته هو القاعدة الأساسية التي قام الكون على تشكيلها من خلال الإجراءات المرئية المنظمة للاختيار.
لقد تبنى الفنان التشكيلي هذه الوحدة الجمالية وحاول اثبات أصالته وصدقه في أداء رسالته، متخطيا جميع المعوقات التي كانت تقف في طريقه في بداية معاناته ومسيرته المضنية عادة.. وقد التصق الفنان العربي المسلم بشكل عام و العراقي بشكل بشكل خاص عبر تجربته الفنية بمحيطه الاجتماعي، فالفن ليظهر بأعلى جمالياته يجب أن يمتلك خواص إنسانية وروحية وبنفس الوقت يحوي على القيمة الوطنية الأصلية ولم تكن عودة التشكيلي العراقي إلى الموروث الحضاري في استلهامه للأشكال التراثية إلا للبرهنة على قيمة الماضي وأصالته ، اذ ان اكتشاف الذات يتطلب معرفة مسبقة بالجذور.
اللوحة تحمل توقيع الفنان التشكيلي العراقي الراحل ( فرج عبو )، وهي من ضمن مواضيعه المتنوعة والمميزة بالتجريد الهندسي المستمد من جذور الفن الاسلامي، تميزت اعماله بالاختزال والبساطة في الشكل واللون وحتى التكوين ، خصوصا بعد انتمائه الى جماعة بغداد و دراسته المتواصلة للآثار الفنية الإسلامية ، فأخذت اشكاله سمة التبسيط والتسطيح وسرعان ما تحول اسلوبه نحو التكرار الهندسي الذي نقله الى دراسة الابنية والزخرفة العربية الاسلامية، فأصبحت اعماله اقرب الى المنظومات الزخرفة وبناها المجاورة.
ولو دققنا في المشهد التصويري اعلاه نجد انه يتميز بخصوصية وهوية عراقية واضحة من حيث تصوير مشهد امامي متكامل للروضة الكاظمية المقدسة في مدينة بغداد، فعلى الرغم من تنوع الأشكال الظاهرة فيه إلا أنها تنسجم في وحدة فنية متكاملة، مهد لها الفنان من خلال عمليات المحاكاة الواقعية للأشكال وتحوير البعض منها، واظهر الفنان في هذا المشهد مهارته بالجمع بين أنواع مختلفة من الخطوط ،فضلاً عن التبادلية بين التضاد اللوني والانسجام جامعا فيها بين الألوان الحارة والباردة في الجو العام للمشهد، والتي أضفت عليه بعدا جمالياً استثنائياً، فالرواد لم يهملوا دراسة مكونات هوية اعمالهم الفنية على الرغم من تعددها وتشعبها، فالهوية الفنية في أعمالهم هي القاعدة الاساسية المحددة لأسلوبهم الفني الجامع بين اصالة الموروث الاسلامي والحداثة المكتسبة من تأثرهم بالأساليب الفنية الغربية، وعلى الرغم من إن مرحلة التأسيس الفني للحداثة مازالت قائمة حتى يومنا الحاضر، الا ان التعبير عن مفهوم الهوية بتراكمه المعرفي والتقني ما زال حاضراً وبقوة، فالحداثة في الفن العراقي مازالت ترتبط بحالتين كما اشار لها التشكيلي الراحل شاكر حسن ال سعيد في منتصف القرن العشرين ، الاولى منها تقليد الفن الأوربي على العموم والثانية تمثل محاولة اكتشاف واضافة عناصر للتجديد والمعاصرة واستلهام التراث الحضاري والاسلامي، فالحداثة بهذا المعنى ليست تقليدا للأساليب الأخرى ،بل هي أبداع العمل الذي تتمثل فيه روح العصر دون حصول تقاطع مع للموروث لتكون بذلك الاعمال الفنية المنتجة ذات قيم جمالية عالية الحساسية ومرتبطة بالعقيدة وروحية وبيئة الفرد العراقي من خلال توظيفه لرموز تراثية وحضارية رافدينية وإسلامية.
من هذا المنطلق نستطيع القول إن الهوية الفنية هي خلاصة حقبة طويلة من الوعي والتجارب قد مرّ بها الفنان العراقي، وهي بالتالي ولدت تكوينات ذات طابع ديناميكي على وفق رؤية حدسية وتقنية وهذا ما نراه واضحا في الرسمة اعلاه واسلوب الفنان فقد اهتم الفنان بجانب القيمة الجمالية لبنية تكوين الأشكال التراثية، أي بالتشكيل واعتمد اللون كقيمة مهمة في تأسيس مناخ اللوحة الروحي، فاللون غير مختزل وإنما زاخر بحرارة اللون الشرقي واظهار مناخه، وهي بالإجمال تمثل مجموعة من قواعد الرسم المتطورة عند الفنان العراقي لأنه استفاد من تراث العربي القديم، والإسلامي الخطي والزخرفي ، فضلا عن طرز العمارة والاساليب التصميمية والتزيينية التي حاول نقلها الى المشاهد برؤيته الفنية، فامتلك وعيا خاصا بضرورة اختزال اللون في سماء اللوحة، واستخدم في بعض المواطن الواناً ذات دلالات خاصة بأسلوبه ليمنح اللون روحية خاصة داخل العمل الفني.
اترك تعليق