وصايا الإمام علي (عليه السلام) لابن آدم دراسة في ضوء تحليل الخطاب

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...

تكرَّر لفظ (ابن آدم) في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) بشكل لافت؛ ونرى أنَّ اختياره لهذا اللفظ ولا سيَّما في مجال التربية مقصودًا بنفسه، ويمكن أن نقرأ هذه القصدية من أنَّ هذا اللفظ (ابن آدم) يشير إلى انتساب البشر إلى ذلك النبيِّ المكرَّم، الذي أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد له تكريمًا وإجلالًا لمنزلته عند الله تعالى، وهذا النبي هو آدم (عليه السلام)، ومن هنا فإنَّ أمير المؤمنين يُذكِّرُ البشر بهذا الأصل المقدَّس الذي جعله الله تعالى خليفةً له في الأرض؛ ولأجله طرد إبليس من رحمته، وعليه يجب أن يكون الأنسان مراعيًا لهذا الأصل النبوي المشرَّف من لدن الله تعالى في أفعاله وأفكاره، فلا يتسافل بفعل الرَّذائل وقد رفعه الله تعالى بذلك الأصل الطاهر، وهذا المعنى يتناسب مع الجانب التربوي الذي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بصدده .

هذا من جانب ومن جانبٍ آخر يمكن لنا أن ننظر إلى الأصل الاشتقاقي للفظة (آدم)، وهي الأدمة التي تعني وجه الأرض، وهذا المعنى له وجه أيضًا ولا سيَّما في الجانب التربوي الذي نحن بصدده، وذلك تذكير الإنسان بأصل خلقته التي هي من التراب، ولذلك فلا يتكبَّر ولا يتبختر فهو من مخلوق من شيء لا يكاد أن تكون له قيمة في الحياة الدُّنيا، وهذا المعنى أيضًا له وجهٌ من المقبوليَّة في القصديَّة التي عناها أمير المؤمنين (عليه السلام) من استعماله لهذه اللفظة، وسنحاول فيما يلي بيان النصوص التي ورد فيها هذا اللفظ، وسنخصِّص بحثنا في كتاب نهج البلاغة، وممَّا ورد في ذلك قوله (عليه السلام): ((يَابْنَ آدَمَ، إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ))([1])، وقال (عليه السلام): ((يَابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ، فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ))([2])، وقال (عليه السلام): ((يَابْنَ آدَمَ، كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ، وَاعْمَلْ فِي مَالِكَ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ))([3])، وقال(عليه السلام): ((يَابْنَ آدَمَ، لاَ تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الَّذِي لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ الَّذِي قَدْ أَتَاكَ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اللهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ))([4]) .

وهذه الأقوال الأربعة يمكن أن نجعلها ضمن القصديَّة الأولى التي يعمد فيها الإمام (عليه السلام) إلى تذكير الإنسان بذلك الأصل النبوي المقدَّس؛ ولذلك لا يليق بمن هذه صفته أن يعصي الله تعالى مع إنعام الله تعالى عليه؛ بل مع تتابع النعم عليه، وليس من شأنك أيُّها الإنسان أن تسعى لكسب ما فوق احتياجاتك؛ فإنَّ ذلك ستتركه إلى غيرك وأنت من تحاسب عليه وغيرك من يترفَّه به وفي ذلك الحسرة الكبرى، ومن هنا يأتي القول الثالث الذي يتضمَّن وصيَّةً لابن آدم بأن يحرص أن يتصرَّف بأمواله فيما ينفعه في آخرته، وأن لا ينتظر من غيره أن يحرص على صرف أمواله في الوجه الذي ينفع حاله به يوم القيامة . أمَّا القول الرَّابع فوصيَّةٌ للإنسان بأن لا يهمَّ بما يأتي من قابل الأيام فيفسد عليه يومه الذي هو فيه، وقد لا يكون ذلك اليوم من أيَّام حياته فيخسر أيَّامه التي هو في صددها، وأمَّا لو كان ذلك اليوم من أيَّام حياته فسيكون رزقه على الله تعالى، وعليه أن يجعل الله تعالى عند حُسن ظنِّه؛ لأنَّه كرَّمه على كثيرٍ ممَّن خلق، وكرَّم أبيه (آدم) (عليه السلام) على الملائكة وجعله خليفةً في الأرض؛ ولذلك لا يجد بمن هذه مؤهلاته أن يهمَّ بقابل أيَّامه وهو المكرَّم عند الله تعالى .

وإذا ما تحوَّلنا إلى الوجه الآخر في القصديَّة من استعمال لفظ (ابن آدم) الذي يتضمَّن تذكير الإنسان بأصله الترابي المتواضع، فيمكن أن نجد نصوصًا لأمير المؤمنين (عليه السلام) تتضمَّن هذا المعنى، ومنها: قوله (عليه السلام): ((مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، ولاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ))([5])، وهنا ينهى أمير المؤمنين (عليه السلام) الإنسان عن الفخر والتفاخر بغير حق؛ لأنَّه فضلًا عن أصله الترابيِّ المتواضع أوَّله نطفة تمجُّها الأنفس السليمة، وآخره جيفة يُحفر لها في باطن الأرض لكي يتمَّ التخلُّص من ضررها، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يرزق نفسه ولا يدفع عن روحه الضرر، ولا يمتلك أيَّ استقلال في وجوده خارج ملك الله تعالى . وفي هذا المعنى أيضًا يقو أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ: مَكْتُومُ الاَْجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تَؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ))([6]) .

فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُبدي التعاطف والرأفة بهذا المخلوق البشري، الذي يتمالكه الضعف من كلِّ اتِّجاه، فهو لا يعرف متى يُغادر هذه الدُّنيا، ولا يعلم من أين تأتيه علَّته، تؤلمه أبسط الحشرات بأتفه الأدوات، ويمكن أن يموت بغصَّةٍ في ريقه، وإذا ما أصابه العرق فإنَّه يُفسد رائحة جسمه، وعلى ذلك يكون الأجدر بمن هذه صفاته أن لا يتكبَّر ولا يستعلي على غيره، ولا يتجبَّر على أقرانه، فهو في حقيقته ضعيف؛ بل في غاية الضَّعف . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يستمع إلى الحديث فيتَّبع أحسنه .

([1])

([2])

([3])

([4])

([5])

([6]) 

: د. عمار حسن عبد الزهرة : دار القرآن الكريم