الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم العبادات التي يتقرَّب فيها العبد إلى الله تعالى، وهو من الأركان التي بُني عليها الإسلام، وقد أسَّس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) لهذه العقيدة ونظَّم قواعدها وأرسى قوانينها، ثمَّ تبعه أمير المؤمنين (عليه السلام) فذكر الجهاد وبيَّن أهمِّيته، وممَّا قال فيه: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالاْسْهَابِ، وَأُدِيلَ الحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الجِهَادِ، وَسِيمَ الخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ...))([1])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل من الجهاد بابًا للجنَّه وهو غير متاحٍ للجميع؛ بل يُفتح لخاصَّة الأولياء فقط دون غيرهم، ثمَّ يُشدِّد أمير المؤمنين (عليه السلام) التمسُّك بالجهاد وعدم تركه، ومن يتركه رغبةً عنه فإنَّ عاقبته الذلَّ والبلاء وأن يكون صغيرًا بين الناس .
والجهاد، هو أفضل ما يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك ((إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ: الإيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيلِهِ))([2])، فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الجهاد بعد الإيمان بالله تعالى وبرسوله، وعلى ذلك فالجهاد مقدَّم على كثيرٍ من العبادات الأخرى . ومن رحمة الله تعالى أن لم يجعل الجهاد في حيثية واحدة، وإنَّما فتح له شعبًا أربعة ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ، وَشَنَآنِ الْفَاسِقيِنَ: فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤمِنِينَ، وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِينَ، مَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ لله غَضِبَ اللهُ لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))([3]) .
وكان من آخر ما نطق به أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لأولاده قال: ((اللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ))([4])، فكانوا أولاده (عليهم السلام) من خيرة المجاهدين في سبيل الله تعالى، وقد استشهد جُلُّهم في سبيل الدفاع عن العقيدة، ومن أولاده الذين ساروا على نهجه ابنه الحسين الشهيد (عليه السلام) الذي استحقَّ بجدارة لقب سيِّد الشهداء، وهو ليس بدعًا عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنَّما هو جزء من ذلك المشروع الرِّسالي، الذي بذره رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم) ثمَّ نما وترعرع عند أهل بيته (صلوات الله عليهم) . ومن عجيب التوافق بين علي والحسين (عليهما السلام) أنَّهما اشتركا بمقولةٍ تكاد أن تكون واحدة، قالها كلٌّ منهما في آخر أيَّامه، وهما في مقولتيهما يرسمان طريق الجهاد ويحثَّان عليه، ويجعلانه طريق النصر والنجاة والطريق الموصلة إلى الله تعالى، فأمَّا مقولة أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي: ((الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا، فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ))([5]) . وما لبث بعد هذه المقولة إلَّا بضعة أيام حتَّى اُستشهد في سبيل الله تعالى، وأمَّا الحسين (عليه السلام) فنقل عنه الإمام الصادق (عليه السلام) رسالة بعثها من مكَّة المكرَّمة إلى محمد بن الحنفية وسائر بني هاشم قال فيها: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي، ومن قبله من بني هاشم، أمَّا بعد فإنَّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام))([6]) .
فأمير المؤمنين (عليه السلام) دعا النَّاس إلى الرَّواح إلى الله تعالى، وقيَّد ذلك بمن يرغب في الخروج، والإمام الحسين (عليه السلام) دعا أخيه وأبناء عمومته إلى الشهادة، وجعل النصر والفتح معقودًا بها ومن يتخلَّف عنها فإنَّه لا يدرك الفتح .
فكان الختام مسكًا بين عليٍّ وابنه الحسين (عليهما السلام)، فهما كلاهما دعا النَّاس إلى الذِهاب إلى الله تعالى، وكلاهما عسكر من يومه في ميدان الشهادة، وكلاهما خذله النَّاس، وكلاهما كان ختام حياتهما مسك الشهادة في سبيل الله تعالى .
([1]) نهج البلاغة: 63 .
([2]) نهج البلاغة: 252 .
([3]) نهج البلاغة: 776
([4]) نهج البلاغة: 689 .
([5]) نهج البلاغة: 361
([6]) كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه (ت: 367 هـ)، تحقيق : الشيخ جواد القيومي (لجنة التحقيق)، مؤسسة النشر الإسلامي، ط: 1، عيد الغدير/ 1417 هـ: 157 ، دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي )، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة – قم، ط:1 ، 1413 هـ: 188 .
اترك تعليق