حين يتحول الهواء إلى خدمة.. العتبة الحسينية تشغل أكبر منظومة تبريد لخدمة الزائرين

في كربلاء، حيث يعانق الحزن جدران التاريخ، وتحتدم الخطى نحو الصحن الحسيني الشريف مع اقتراب عاشوراء، كان على المكان أن يتنفس كما الزائر، حيث الحرارة اللاهبة، والزحام المتزايد، والانفعالات العاطفية التي لا تنقطع، كلها تتطلب استجابة لا تأتي من العاطفة فقط، بل من "هندسة باردة" تقف خلف الستار، وفي هذا الموسم، لم يكن التبريد ترفا، بل ضرورة.

العتبة الحسينية المقدسة أعلنت عن تشغيل واحدة من أضخم منظومات التبريد في العتبات الدينية، بطاقة إجمالية تبلغ (9000) طن تبريد، منتشرة بدقة في أروقة الصحن الحسيني الشريف، ومحيطه، لتؤمن الراحة والهواء النقي للزائرين خلال ذروة الزخم في شهر محرم.

"أردنا أن نوفر بيئة صحية لا تقل قدسية عن المكان"، هكذا يقول مسؤول شعبة التبريد التابع لقسم المشاريع الهندسية والفنية في العتبة الحسينية المقدسة المهندس صفاء علي حسين، وهو يشير بيده إلى مجموعة مراوح رذاذية تدور بهدوء قرب باب الرأس الشريف.

هواء لا يمر دون أن يفلتر

المنظومة التي أعلنت عنها العتبة الحسينية المقدسة لا تقتصر على تبريد الهواء، بل تشمل تحكما كاملا بجودته، من دافعات هواء نقية بنسبة (100%)، إلى منظومات ضغط موجب وسالب تفرز الهواء الملوث وتطرده بعيدا، وكل ذلك يدار من قبل فريق تقني عراقي دون الاستعانة بخبرات أجنبية.

لكن اللافت، بحسب مسؤول الشعبة، أن النظام لا يسمح بانخفاض درجات الحرارة تحت مستوى معين (بين 24 و26 درجة مئوية) حفاظا على توازن بيئي يمنع أمراض التنفس الناتجة عن التباين الحراري، خاصة لمن يقضون ساعات طويلة داخل الصحن.

 

"أشعر وكأنني في مدينة غير كربلاء"

في ساحة قريبة من ضريح الإمام الحسين (عليه السلام)، تقف السيدة "أم زهراء"، القادمة من قضاء الحسينية في كربلاء، وتقول بصوت خافت كمن يخشى إزعاج القداسة " دخلت الحرم الشريف، وكان الحر شديدا، لكن فجأة شعرت بتيار هواء بارد يلامس وجهي، لم أصدق أنه طبيعي، لم أشعر بحرارة الشمس بعدها، التنظيم هذا العام مختلف تماما".

أما الشاب "مهدي الجبوري" من منطقة الحر، الذي اعتاد التواجد في المدينة القديمة، فيعلق بابتسامة "كنا نأتي ونبحث عن الظلال، الآن حتى الهواء صار خادما للزائر، فهذا ليس تبريدا، هذا كرم حسيني بطريقة حديثة".

 

من مصنع الوارث إلى قلب الصحن

لم تكتف العتبة الحسينية بشراء المعدات، بل أنتجت بعض مكوناتها محليا في مصنع الوارث التابع لها، في خطوة تهدف إلى تعميق الاكتفاء الذاتي ومواءمة التجهيزات مع خصوصية المكان.

"المراوح المزدوجة، والمبردات، وحتى بعض وحدات التحكم الذكي كلها صنعت هنا"، يقول المهندس صفاء، مضيفا أن "العتبة الحسينية لا تبحث فقط عن حلول تقنية، بل عن حلول تحترم الزمان والمكان والناس".

 

عاشوراء بهندسة الطمأنينة

في كل عام، يتضاعف عدد الزائرين القاصدين كربلاء، وتتضاعف معه المسؤولية، لكن العتبة الحسينية، التي تقود جهودا خدمية تدار بعقول محلية، تمضي بثبات في بناء ما يشبه المدينة الذكية داخل واحدة من أقدس بقاع العراق.

تحت قبة الإمام الحسين (عليه السلام)، لا شيء يترك للصدفة، حتى الهواء يهندس، والبرد ينسق، والخطوات ترشد، كي يبقى الحزن نقيا، لا يفسده اختناق، ولا يعطله تعب.

وهكذا، وبينما تتدفق الجموع لتجديد عهدها مع عاشوراء، تظل كربلاء مستعدة، لا بصوت المنابر وحدها، بل بصمت التبريد الذي يحرس أنفاس الزائرين، ويرافق ولاءهم حتى آخر دمعة.

: مصطفى احمد باهض : فلاح حسن غالي