برزت البذرة الأولى للفكر النقدي الفني في حضارة اليونان القديمة ، فقد نشأ مُلازماً لأقرانه من فنون الأدب ، فلم يكن حقلاً مُستقلاً بذاته ، بل كان يُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من هذه الفنون ، ومن العلوم الفنية التي تتداخل مع العلوم الأخرى ، فتداخل النقد مع الفلسفة والتاريخ وعلم الجمال وعلم الأخلاق وغيرها من العلوم الاخرى ، حتى ظهر في أول الأمر على صورة تأثيرات عفوية تلقائية لفنون الأدب ، ومع مضي الزمن والنمو المستمر لملكة التفكير، بدأ البحث عن أصول ومبادئ عامة للنقد كمحاولة لتفسير هذه التأثيرات التي يتلقّونها عن فنون الأدب المتنوعة ، وأكّدت الكثير من الدراسات أن أصل كلمة ( نقد ) هو اشتقاق من الكلمة اليونانية ( Krino ) بمعنى ( يُصدر حكماً ) ، وأيضاً من كلمة ( Krites ) التي تعني ( قاضي أو رجل قضاء ) ، وأيضاً من كلمة ( Kritikos ) والتي تعني ( الذي يُصدر حكماً على الأدب ) .
لقد اكتسبت هذه المفردة موروثاً من ثلاثة حقول ، هي الموروث القانوني في إقامة العدل والمساواة، والموروث الطبي في اللحظة الحرجة ولحظة التحوّل في النص، والموروث الثالث في دراسة النصوص الأدبية ، فمصطلح النقد لا يقتصر على مجموعة واحدة من المفاهيم ، لذلك يصعب تحديد مفهوم ثابت للنقد ، فهو مُتنوّع بتنوّع معالجاته وممارساته ، فمثلاً الاستعمال المُبكّر لمفردة النقد كان ( النقد النصّي ) والذي يعني عملية تثبيت ما كتبه حقاً مؤلف النص الأدبي على النحو الذي وردت فيه هذه الكتابات حرفياً ، وهناك أيضاً استعمال كلمة ( ناقد ) في وقتٍ ما للدلالة على شخص حاذق في أسلوبية الأعمال الفنية وغيرها من الأشياء التي يتطلّب إنجازها دقّة ومهارة فائقتين ، وهناك أيضاً كلمة ( نقد ) كمختصر للنقد الأدبي والفني على حدٍّ سواء ، فهي تُطلق على أيّة كتابة عن النصوص الأدبية وكذلك على النصوص المكتوبة عن أعمال الفنون الجميلة . ويمكن أيضاً رصد استعمال آخر لكلمة ( نقد ) بمعنى أوسع ، إذ تأتي بمعنى تعقيب على كيفية عمل أو أداء أي شيء على نحو جيّد أو رديء .
ويحمل النقد في ذاته علاقة جدلية ديناميكية بين الفن والمجتمع منذ بزوغ ملامحه الأولى في العصر اليوناني ، فالنقد يقوم على أرضية من الحوار البنّاء بين الفن والمجتمع ، ولكي يتم تلاقح إيقاع هذا الحوار لا بُدَّ للنقد من أن يقوم على العلم والمعرفة والموهبة .
ويرتبط النقد بشكل أو بآخر بالعملية الإبداعية ، بل هو إبداع إن صح التعبير ، وإن بدا أنه يأتي بعد الإبداع ، لأن النقد يبدأ مباشرةً بعد ولادة النص الإبداعي ، فالمُبدع أول من يُمعن النظر في نصّه المُنتج ، إن لم يكن بعد كل خطوة من خطوت إنتاجه لنصّه أو عمله الفني . وبعدها يأتي دور المجتمع في تذوّقهم لهذا العمل الفني ، فهناك علاقة مشتركة وتبادلية بين المجتمع والفن ، يحدّدها النقد بوصفه ضرورة تاريخية لضبط العلاقات القيمية في المجتمع المعاصر بوظيفتي الضبط والتنظيم ، فوظيفة الضبط تنطلق من المجتمع إلى الفن لتوجيهه نحو ما يطمح له هذا المجتمع ونحو منظومة القيم والتوجّهات المُميّزة له . أما الوظيفة الأخرى في التنظيم ، فهي على العكس من الضبط ، إذ تنطلق من الفن إلى المجتمع ، ومهمّتها تقديم القيم المُبتكرة والجديدة التي يطرحها الفنانون في أعمالهم وتفسيرها .
وبهذا فإن أي عمل فني ( أدب أو فنون جميلة ) لا يوجد إلاّ بوجود مجتمع مُتذوّق له ، فلا يمكن أن تُطلق صفة جميل على صورة أو لوحة أو قصيدة ما إلاّ بعرضها على الجمهور فتنال استحسانهم أو استهجانهم . بمعنى آخر ، استقراء الانطباعات التي تؤثّر في نفس المتذوّق أو الجمهور بالقبول أو الرفض . فالنقد هو تحليل للأعمال الفنية وتحديد قيمها الجمالية والفنية والغائية من خلال تذوّق تشترك في تشكيله موضوعية التحليل وانفعالية الوجدان ، أي إن النقد هو عملية مُركّبة تنطوي على عناصر من التحليل والتقويم والكشف عن جوانب الكمال والنقص في العمل الفني، وتحديد مستوياتها الفنية .
ومن هذا المنطلق يمكننا تحديد أُسس رئيسة يخطو من خلالها النقد في مسيرته ، هما التحليل أولاً ، ثمّ التقويم ثانياً ، إذ لا يمكننا أن نُقوّم نتاجاً فنياً ما لم نبدأ أولاً بدراسة وحدة ذلك النتاج الفني والعناصر المشتركة فيما بينها والمكوّنة للنتاج الفني ، والتي تُكوّن بجمعهامعاً وحدة فعّالة ومؤثّرة للمتلقي ، باعتبار أن العمل الفني يمثّل " وحدة متماسكة لا تتجزّأ وعلى الناقد أن يتحاشى في ذلك كل ما من شأنه زعزعة تلك الدعائم القوية باقتحام أمور ونزوات خاصة به على العمل الفني فيُطيح بتكامله ويُشوّه معالمه " ، فيبدأ دور التحليل وعمل الفكر والعقل والتعليل ، وإذا ما أمعنّا النظر في المهمة الرئيسة للنقد الفني ، نجد أنها تنحصر في تحديد قيمة ذلك العمل ، والكشف عن فكرته والدلالات التعبيرية الكامنة في بنيته الشكلية ، أي الحكم الجمالي على العمل الفني ، ولا يمكن الوصول إلى هذا الحكم بعيداً عن إحاطة الناقد بظروف العمل الفني ومعرفته بالسيكولوجيا المحيطة بالفنان وظروفه الاجتماعية والايديولوجية ، فضلاً عن ضرورة إلمام الناقد ومعرفته بتاريخ الفن وايضاً تتبّعه للبناء الشكلي والجمالي للنتاج الفني .
سامر قطان القيسي
اترك تعليق