يمثل المحراب عنصراً فنياً معمارياً مهما يؤكد على الطرز الفريدة للعمارة الإسلامية ،ويمثل في الوقت نفسه أحد الملامح المعبرة عن جماليات الفن ، فهو أحد العناصر المعمارية الأساسية في المساجد ودور العبادة الأخرى ، ويعد من أرفع الأماكن وأشرفها مجلساً عند العرب.
والمحراب عبارة عن تجويف أو حنية موجودة على الجدار المواجه للقبلة ولا يتسع إلا لشخص واحد هو إمام الصلاة ، يؤدي فيه صلاة الجمعة وغيرها من الأعياد والمناسبات الدينية الأخرى، فيكون وجوده داخل تجويف المحراب متيحاً لتوفير المكان للمصلين ، أما في الأحوال العادية فإن الإمام غالبا ما يقف بعيدا عنه ليعطي انطباعاً بأن عمل المحراب لا يزيد عن كونه علامة بارزة لتحديد اتجاه القبلة وهذا هو العمل الرئيسي للمحراب.
تمثل الصورة أعلاه نموذجاً لمحراب إسلامي مسطح يعود تأريخه الى عام (623 هـ - 1226 م) ، وهو مغطى بالزخارف الأسلامية المنجزة على القاشاني ذي البريق المعدني بهيأة الفسيفساء الخزفية ذات العناصر الهندسية والنباتية والكتابية البارزة والملونة بألوان معدنية، وهي موشحة بدهان أزرق كوبلتي مع الأزرق الفيروزي والزهري بجانب البريق المعدني الذهبي، وتتألف هذه التحفة الفنية الفريدة من حنية مسطحة ذات عقد مثلثة منحوتة على أرضية مستطيلة الشكل كانت قائمة على جدار القبلة في جامع الميدان في قاشان وتعود إلى العصر السلجوقي في إيران وهي الآن من مقتنيات متحف الدولة ببرلين.
تتكون هذه التحفة المعمارية المسطحة من شريطين متوازيين مؤلفين من وحدات زخرفية ذات عناصر كتابية تتمثل بآيات قرآنية منقوشة على خلفية زخرفية نباتية، والشريطان قائمان على عمودين بارزين نقشت عليهما تشكيلات زخرفة كتابية ونباتية متداخلة غاية في الجمال والاتقان ، فنلاحظ لفظة الجلالة ( يالله ) قد نقشت على تاج العمود الايسر بينما نقشت عبارة ( يا رسول الله ) على تاج العمود الثاني ، وهذان الشريطان قد التقيا في نقطة واحدة تكون شكلاً قببياً هرمياً معبراً عن اللامتناهي الذي يسعى اليه الفنان المسلم في اغلب اعماله .
ولو تأملنا داخل هذه القبة الهرمية المسطحة لوجدنا وحدات زخرفية ذات تفريعات نباتية مصغرة تسبح داخل اطارها ، وقد كرر الفنان هذا الشكل القببيّ داخل الشكل الاول فظهرت قبة صغيرة قائمة على عمودين ايضاً تتواشج مع محيطها الزخرفي ، ولو امعنا النظر اكثر للاحظنا وجود قبة كبيرة ثالثة ضمن التكوين المكرر للمحراب تحتضن الشكلين (الاول والثاني) داخل مساحة مستطيلة قائمة مؤطرة بشريط عريض يحوي نصوصاً قرآنية منحوتة بأسلوب بارز بلون ازرق فيروزي على مدار الشريط ، فضلاً عن وجود شريط آخر يطوق الشكل الكلي للمحراب وهو ممتلئ بالأشكال الحروفية والنباتية المجردة التي تحيل ذهن المتلقي الى الامتداد خارج حدود الرؤية البصرية .
إن عمليات التداخل والتراكب والتماثل إضافة الى التناظر في الوحدات الزخرفية المتواجدة في نصفي مشهد المحراب ، قد جعلت وحدات التكوين وعناصره تتراصف داخل وحدة شمولية رصينة ، تحيطها أشرطة حروفية ( كتابية ) من نصوص القرآن الكريم كقوله تعالى من سورة البقرة : " بسم الله الرحمن الرحيم . الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ...." لتعظمها وتضفي عليها روحانية وقدسية لترمز الى اشارات الجلال والجمال والوحدانية .
ومن جانب آخر نجد ان الفنان قد وظف عنصر الحركة ليتماهى وانماط الالوان في النتاج الفني بغية اظهار الدلالات الرمزية للمشاهد ، وذلك بانتقائه الالوان التي تميل وتذكر بلون السماء كاللون الازرق الفيروزي والذهبي والنيلي وغيرها والتي عبرت عن موقف الفنان الروحي والرمزي اتجاه القوى اللامرئية الخفية مقابل اقصائه التام لكل ملامح العالم الخارجي الملموس .
ان الاسلوب الفني التجريدي الذي اتبعه الفنان في انشاء هذا التكوين الفني قد تجلى من النقطة الجوهرية المتجسدة في ايمان الفنان المسلم بان الله سبحانه وتعالى متواجد في كل زمان ومكان وهو اقرب له من حبل الوريد ، مما جعله يقترح آليات اشتغال اللامرئي عبر عمليات حدسية متداخلة تخلق احساساً بالامتداد الحركي ، بوصف ان فكر الفنان الاسلامي قائم على فكر القرآن الكريم الذي يؤكد على ان اللامرئي المطلق هو النافذة الوحيدة والفريدة التي تطل على الوجود الروحي الموصل الى الجمال الالهي الحقيقي ، على اعتبار ان الروح الاسلامية تبحث عن حقيقة صورية مثالية تقتدي بالمثال الالهي متجاوزة كل حدود القياس التقليدي .
اذن بشمولية الفنان المسلم التكوينية الممثلة في اقتراحاته للمساحات الزخرفية ذات الوحدات النباتية والهندسية والكتابية ، المنظمة على وفق هياكل رياضية منظمة ومرتبطة بالعقيدة الدينية الاسلامية ، استطاع ان يؤلف ذاتيته الشمولية المنطلقة من تطبيقات الحدس التي تؤسس نتاجات فنية تؤمن بالغيب مقابل ابتعادها عن العالم الملموس.
من هذا المنطلق دأب المبدع الاسلامي الى استنطاق ما وراء الاشكال من خلال تحليل المرئي الى اشكاله الجوهرية كالمربع والمستطيل والدائرة وغيرها ، ومن ثم تزويقها بنصوص قرآنية واسماء الله الحسنى بجانب لفظة الجلالة ( الله ) سبحانه وتعالى ، واجراء عمليات الترميز بالوحدات الزخرفية النباتية والهندسية والتكفيت بالمعادن ( الذهب ) من اجل استنطاق السطوح الصامتة ومنها الجدران والتي استطاع من خلال عناصرها الفنية المبهرة أن يحيل القانون الطبيعي والمبادئ الايقونية الفنية للمرئي الى قيم كيفية بعد ان كانت صورية كمية ، فتحررت الاشكال من أسرالجمود الى الحركة الدؤوبة وفق مبدأ الوحدانية والاتجاه نحو مركز الكون المتمثل بالخالق جل شأنه .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق