مسجد الكوفة ..

تمثل اللوحة اعلاه احدى النقاط الاساسية التي ساهمت في خلق التحولات النوعية في مجال الفن التشكيلي العراقي الحديث بشكل عام ، والتي تمخضت عن سلسلة تجارب تمتد بتاريخها الى خمسينيات القرن العشرين حيث ذروة مرحلة النضوج الفكري والثقافي  .

اللوحة بعنوان مسجد الكوفة وهي تحمل توقيع الرسام والنحات العراقي الراحل جواد سليم (1921 - 1961) ، وهو من مواليد أنقرة لأبوين عراقيين حيث اشتهرت عائلته بفن الرسم  وقد كان والده الحاج سليم واخوته فنانين تشكيليين ايضاً .

 أكمل جواد دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد وتدرج في دراسة فني الرسم والنحت داخل العراق وخارجه ، حتى عمد الى تأسس جماعة بغداد للفن الحديث عام 1951م مع اقرانه من رواد التشكيل العراقي ، امثال الفنان شاكر حسن آل سعيد ، و الفنان محمد غني حكمت والرسامة نزيهة سليم وغيرهم ، ويعد جواد أحد مؤسسي جمعية التشكيليين العراقيين ، وقد وضع عبر بحثه الفني المتواصل أسس مدرسة عراقية في الفن الحديث ، فضلاً عن حيازته على الكثير من الجوائز العالمية والمحلية ، ومنها فوز نصبه النحتي المعنون (السجين السياسي المجهول) بالجائزة الثانية في مسابقة النحت العالمية وكان هو المشترك الوحيد من منطقة الشرق الأوسط ، وتحتفظ الأمم المتحدة بنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب حتى الوقت الحاضر .

جعلت اللوحة الشاخصة امام انظاركم رحلة دخول الفن العراقي الى عالم التجريد اكثر سلاسة وقبولاً ، عبر مراحلها الاختزالية المميزة  اكثر من سابقتها من اللوحات ، فاصبح فيها الخط هو المهيمن على سياق الرؤية التي شُكلت بها ، فكأن المشاهد لها امام ادوات بسيطة لخلق عالم متقدم حسب المعايير العالمية التي تشكلت في القرن العشرين ، فكان هناك قصد من وراء خلق هذه الصياغات الفنية والمنظورية منها على وجه الخصوص ، -  فكل شكل له عالمه الخاص دون الاتفاق رياضيا على دقة منظوره - ، فهي تكشف بين خطوطها عن معنيين احدهما ينتمي الى بيئة محلية – الموروث الشعبي - والاخر يتجه الى بيئة الحداثة العالمية الرائجة آنذاك .

فهذا الكم من الخطوط التي تكون وحدات زخرفية رغم بساطتها وشدة اختزالها الا انها حملت تلك الايقونات والعلامات التي تكشف عن طبيعة دينية للمكان من خلال القباب والاهلة ، وهذه التكوينات تعكس اشكال متباينة لمبدأ واحد وهو "المنارة" ، وهي ثنائية تعتمد على التراث الممزوج بالحداثة ، لكن الموضوع يكشف عن حجم التوجه الحر في صياغة لغة جديدة رغم تلك المحلية التي تنبع من واقع شعبي في مدلولاته الموضوعية ، الا انه اضاف واقعا بلاغيا في سياقه من خلال تنوعات المضامين الغزيرة للتراث، والتحول باتجاه ان يكون الواقع الشعبي جزءاً من آلية التلقي المعاصرة  ، والتي تشكل فيما بعد واقعا ثقافيا ذي مديات واسعة من خلال محاولة الالتفاف على الواقع بحركة اختزالية فنية مدروسة ترمي لأشراك التراث بكل تفاصيله مع الحداثة ..

ذهب جواد سليم في اجواء هذا العمل الفني الى التبسيط والاختزال وهي تحمل طاقة كبيرة على توليد دلالات ذات اطر تأويلية واسعة،  فالمؤول كما هو معروف هو من يكشف عن حجم المعنى الذي ينتج عن اعلى درجات التبسيط لأكثر مساحة من التعبير ، وهذه ميزة طرأت جديدة على الفن العراقي في العقد الخمسيني من القرن المنصرم .

فالبنية الهندسية شكلت عالما منفصلا عن المحيط اللوني الذي يحتضنه، فتوزيع الالوان هو لوحة تجريدية قائمة بذاتها  ، ثم جاءت الخطوط ذات اللون الغامق لتشكل تضادا لونيا لهاتين التقنيتين ، فكأن كلاً يناقض الاخر وكأنه يعكس طابعا دراميا رغم سكونية المشهد وجموده ، فهي ان صح التعبير( تمازج بنية هندسية تعكس واقعا مشخصا فوق ارضية تعكس بعدا حداثيا يحمل خواص القرن العشرين )  ليتشكل وفق الصياغة البصرية التي اصبحت فيما بعد احدى الاواصر المهمة بل المفاصل الحيوية التي تعكس بنائية اللوحة العراقية الحديثة  ،وهو بالتالي يعود مرة اخرى باتجاه تلك الغاية التي جاهدت رؤياه للوصول اليها ، وهي الذات والحداثة من اجل الوصول الى غاية الابداع المتفرد الذي يعكس هوية خاصة بالمعنى ضمن بيئة يحاول الفنان زرعها في السياق العالمي للفن على انها جغرافية جديدة في خارطة الفن الحديث. فيكون العمل بدرجات متقدمة من الحداثة داخل الفن العراقي.

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة