تدور هذه الشبهة على أثر تاريخي يروي حادثة اقتصاص الإمام الحسن بن علي عليهما السلام من ابن ملجم جزاء إقدامه على جريمته النكراء التي أودت بحياة سيد الموحدين وإمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
رافقت رواية الحادثة وصية الإمام علي عليه السلام - قبيل مفارقة روحه الزكية جسده الطاهر - لولده الإمام الحسن عليه السلام ومَنْ حوله من أهل بيته عليهم السلام بعدة وصايا من ضمنها الرفق بابن ملجم, بأن لا يقيد له قدماً ولا يغل له يداً وأن يقتص منه ضربة بضربة(١). وعن مدى التزام الإمام الحسن عليه السلام بتنفيذ تلك الوصية يُفهم من بعض الأخبار ما ظاهره عدم تنفيذه وصية أبيه أمير المؤمنين عليه السلام التي حملت في طياتها نصاً بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور. ولم تقتصر رواية الحادثة عند هذا الحد بل تعدت ذلك إلى ما يمتنع صدوره عن المعصوم عليه السلام كالتمثيل والتنكيل بالقتيل.. ومن المؤسف أنّنا نجد بعض الكتاب والمحققين قد تمسك بهذه الأخبار, وهم بهذا لا يخرجون عن أحد أمرين إما عن جهل، وإما عن عناد ومكابرة. ونحن نقتصر على ذكر أسماء بعضهم مع إيراد مقالاتهم بالنص: ١ - الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى – علي وبنوه - قال: (والشيء المحقق هو أن ولاة الدم لم ينفذوا وصية عليّ في أمر قاتله, فهو قد أمرهم أن يلحقوه به ولا يعتدوا, ولكنهم مثلوا به أشنع تمثيل فلما مات حرقوه بالنار)(٢). ٢ - المبرّد في الكامل في معرض وصفه قتل ابن مُلْجَم قال: (قال قوم: بل قَطَع يديه ورجليه. وقال قوم: بل قَطَع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه، فَشَقّ ذلك عليه، فقيل له: لَمْ تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك؟! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً)(٣). ٣ - ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد قال: (البدار بالانتقام حال الغضب يعقب ندماً وطالما ندم المسرور على مجازفته في العطاء وود أن لو كان اقتصر وقد ندم الحسن على تمثيله بابن ملجم)(٤). وسيتضح للقارئ الكريم من خلال الرد على هذه الشبهة إلى أي مدى تعسف هؤلاء في التحامل على سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته الإمام الحسن عليه السلام. رد الشبهة: حرص الإسلام حرصاً بالغاً على تحريم التنكيل والتمثيل بأجساد الموتى والقتلى ولو كانوا محاربين أو مجرمين, ذلك لما نصّ عليه القرآن الكريم من قوله سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٥), ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور), ولما يحدثنا به الرواة الذين منهم إسحاق بن عمار, يقول: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن الله يقول في كتابه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(٦), ما هذا الإسراف الذي نهى الله عنه؟ قال: نهى أن يقتل غير قاتله, أو يمثل بالقاتل...)(٧). هذا وقد عُرِّفتْ مفردة (المُثلة) بتعاريف عدة جلها - إن لم نقل كلها- متقاربة, ولكنّنا نشير إلى اثنين منها على سبيل العجالة: قال ابن منظور: (مَثَلْتُ بالحيوان: أَمْثُل به مَثْلاً، إذا قطعت أطرافه وشَوَّهت به، ومَثَلْت بالقتيل إذا جَدَعت أنفَه وأذنه أو مَذاكيره أو شيئاً من أطرافه، والاسم المُثلة، فأمّا مُثّل بالتشديد: فهو للمبالغة)(٨). وقريب منه ما ذكره ابن الأثير إلا أنه أضاف قائلاً: (ومنه الحديث: نهي أن يُمثَّل بالدواب، أي: تُنصب فتُرمى، أو تُقطّع أطرافها وهي حيّة)(٩). وأما اصطلاحا فلا يخرج المعنى الاصطلاحي في تعريف المُثلة عن معناه اللغوي, فقد عرّفها الشيخ الجواهري بعد ذكر عبارة صاحب الشرائع (لا يجوز التمثيل بهم), فقال: (بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك)(١٠). وعرّفها الخطابي بقوله: (تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يُقتَل أو بعده، وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أُذنه، أو يفقأ عينيه. أو ما أشبه ذلك من أعضائه)(١١). فتحصل من ذلك: أن المُثلة هي تقطيع الأطراف وتشويه الجسد وتشمل الإنسان والحيوان حيين أو ميتين وأن المعنى الاصطلاحي الذي يحرّم المُثلة إنما ينظر إلى المُثلة بأجساد الكفار وأمثالهم, أمّا حرمة التمثيل بأجساد المسلمين، فهي من المسلّمات في الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه. فإذا كان تحريم المثلة بهذا الوضوح لدى جميع المسلمين منذ عصر النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا الحاضر.. أفهل يعقل خفاء حرمتها على من ترعرع ونشأ في بيت كان مهبط الوحي والتشريع؟!. وإن كان ذلك غير خاف على واحد من أهل ذلك البيت لوضوح أنهم عليهم السلام أعدال الكتاب وأنهم ممن خصهم الله عزّ وجل بالطهارة من الرجس, أ فهل يمكن – بعد ذلك - لباحث حرّ، التصديقُ بصدور ما تنفر منه النفوس السليمة، والعقول المستقيمة عن واحد منهم صلوات الله عليهم أجمعين!, كيف وهم الذين تواردت الأخبار تترى بتجليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بكساء. ثم رفع يده فنصبها على ذلك الكساء وقال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهبْ عنهم الرجس, فأنزل الله عزّ وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(١٢), وأن إرادة الله تعالى في الآية الكريمة تلازم الوقوع والتحقّق كما في قوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١٣), وأن قوله عزّ ذكره:(لِيُذْهِبَ) دون قوله (ليُزيل) ما هو إلا إشارة إلى أنّ الرجس ليس ثابتاً ولم يكن راسخاً فيهم عليهم السلام ليحتاج إلى الإزالة، وأن الإذهاب هو التنحية عنهم إذا كان قريباً منهم. وأن الرجس هو مطلق ما يكون كريهاً ولا يليق أن ينسب إلى ساحة وجودهم من الأفكار المنحرفة والصفات الرذيلة والأعمال المنهيّة والآداب التي لا تليق بهم ولا تنبغي لهم. وأن ذكر التطهير بعد إذهاب الرجس في الآية الشريفة هو تأكيد ومبالغة في تزكيتهم وتنزيههم فلا يكتفى بإذهاب الرجس بل يطهّرهم بعد ذلك تطهيراً. وبالجملة، لا ريبة عند أحد أنّهم عليهم السلام هم المقصودون بها. كما لا شبهة في أنّ هذه الآية الشريفة نصٌّ في عصمتهم عليهم السلام؛ لأنّ التطهّر هو التنزّه عن الآثام والقبائح، كما ذكره أحمد بن فارس اللغوي صاحب المجمل(١٤)، وهذا معنى العصمة. وعليه فالآية الشريفة فيها دلالة واضحة على تعظيم هؤلاء الخمسة وتجليلهم وتكريمهم وترفيع مقامهم بما لا يتصوّر أعلى منه، وهو فوق العصمة، فإنّ الرجس أعمّ من الحرام والمنهي، ويشمل جميع أنواع ما يستكره(١٥). وكما لا يخفى – أيضاً - على من له أدنى علم ومعرفة أن التمثيل بجسد القتيل متمحّض عن حقد دفين وكراهية مضمرة في نفس الفاعل تجاه من أوغل في تقطيع جسده وتمزيقه وحرقه, وأقرب مثال على ذلك ما نقله لنا علماء السير من فعل هند أم معاوية بن أبي سفيان بعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بن عبد المطلب. لما قتله وحشي وقام بشق بطنه وأخذ كبده وجاء بها إلى هند، فمضغتها ثم لفظتها، ثم جاءت فمثلت بحمزة، وجعلت من ذلك مسكتين ومعضدتين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة(١٦). ولا يخفى – أيضاً- على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنَّة أن التمثيل والتنكيل بأجساد الخلق إنما هو من فعال الطواغيت والجبابرة لا من فعال أولياء الله؛ إذ يقول الحق سبحانه وتعالى حكاية عن فرعون وتوعده السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام:(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٧), ففرعون ومن سلكوا على منواله وطبعوا على مثاله من طواغيت الأرض وجبابرتها إنما اشتدت شوكتهم واستفحل أمرهم لممارستهم أقسى وسائل التعذيب كسلخ الجلد وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون قبل القتل, وقطع الرؤوس والصلب والحرق – بعد القتل - وغيرها من أمور تقشعر لذكرها الأبدان.. أفلمثل أهل بيت النبوة عليهم السلام ينسب هذا الفعل الشنيع الذي تنفر منه النفوس والطباع!! حاشاهم وكلا وأن لهم بأجمعهم الشرف الأقصى، وغاية المجد والعلا ولا يمكن لذوي البصائر، والأفهام، والمتدبرين من الأنام أن ينسبوا هذا الفعل إلى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً؛ لمجرد روايات تاريخية متناقضة متضاربة يكذّب بعضها بعضاً... بحيث لا يمكن الجمع بينها بوجه, بل لا يصح منها شيء أصلاً - كما سيتضح قريباً - ويترك خلف ظهره كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم التي تتحدث في عصمتهم؟!.. كيف وهم عليهم السلام يمثلون الخط الإسلامي الأصيل باعتبارهم عدل القرآن الكريم ـ كما جاء في حديث الثقلين ـ وسفينة النجاة للأمة ـ كما تضمنه حديث السفينة المشهور, وقد عرف عنهم عليهم السلام - كما لا يخفى على السواد الأعظم - نبذ الظلم وإقامة العدل. ودفع الظالم عن المظلوم وبالحرص على نشر تعاليم الإسلام التي جاءت بالفضيلة والإحسان.. وعلى هذا وذاك فمستبعد كل البعد صدور مثل هذا الفعل عن واحد منهم عليهم السلام؛ لمنافاته مع عصمتهم التي نصت عليها آيات الكتاب وأحاديث السنة النبوية القطعية, كآية التطهير- المتقدمة - وحديث الكساء؛ لتعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل البيت بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؛ ولمكان الإذهاب الدفعي للرجس الوراد في الآية الشريفة والذي هو أعم من الحرام والمنهي, وللتأكيد والمبالغة في تطهيرهم كما بينّاه سابقاً. ومن هنا يتضح لكل ذي لب وأدنى بصيرة بطلان ما نسب إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام - من أنه نكل بابن ملجم ومثّل بجثته- كوضوح الشمس في رابعة النهار. وقد يتمسك بعضهم بهذه الرواية محتجاً بشهرتها. وفيه نظر لأنّ الشهرة والتداول للقصة، أو الرواية ليس دليلًا على ثبوتها، وقد أشار إلى ذلك الألباني في السلسلة الضعيفة بقوله (ليس بخاف على أحد من العارفين بهذا العلم أنه لا تلازم بين الشهرة والصحة، فكم من أمور اشتهرت في بطون الكتب وعلى ألسنة الناس هي غير ثابتة في النقد العلمي! والمرجع في ذلك كله إلى العلم، ولا شيء بعد ذلك)(١٨), وفي هامش التقييد والإيضاح ذكر محققه: (... والشهرة لا تلازم الصحة بل قد يكون المشهور صحيحاً وقد يكون ضعيفاً)(١٩). وعليه فلا بد من نكارة القصة وبطلانها، ووجوب رفضها، وعدم قبولها، تصديقاً للآية الكريمة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) التي نزلت بإجماع المفسرين والمحدثين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.. ثم إذا تأملنا – زيادة على الذي تقدم - في حديث الثقلين الذي تواتر نقله وصح متنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتب العامة والخاصة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا، حتى يردا عليَّ الحوض)(٢٠) لعلمنا أن الكتاب ملازم للعترة، ولم يفترق عنها بحال، والكتاب يقول فيه تبارك وتعالى: (مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)(٢١), ومعنى الإسراف في القتل كما في معتبرة إسحاق بن عمار – المتقدمة - عن الإمام الصادق عليه السلام النهي عن قتل غير القاتل أو التمثيل بالقاتل, على حين أن الروايات التاريخية – التي تقدم ذكرها- صورت إسراف الإمام الحسن عليه السلام في قتل ابن ملجم, الأمر الذي ينتهي بكل منصف إلى نتيجة يعتقد أنها لا تقبل الشك وهي: أن الروايات التاريخية تتعارض مع ما نصت عليه آيات الكتاب وأحاديث السنة النبوية القطعية, وفي مقام التعارض – وبلا أدنى شك – تقدم آيات الكتاب وأحاديث السنة النبوية, الأمر الذي يدحض هذه الشبهة وينقضها من أساسها. فهي إذاً دعوى داحضة باطلة، وما كان باطلاً فإنه لا يسوغ للعاقل أن يتمسك به. ويزداد الأمر جلاء ووضوحاً إذا أضفنا إلى ما تقدم ما ورد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل الإمامين الحسنين عليهما السلام نخص بالذكر منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) فإننا سنجد أن الحديث يثبت الإستقامة لهما مدى الحياة إلى أن ينالا سيادة الجنة التي أشار إليها جدهما صلوات الله عليهم أجمعين, وهذا وجه آخر في رد هذه الفرية ودحضها التي عكست صورة مزيفة عن استباحة الإمام الحسن عليه السلام محرماً جهاراً نهاراً.. وليس هذا فحسب بل صورت ارتكابه مخالفة صريحة لقول جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصية أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. حين أوصاه ومن حوله من أهل بيته ألا يمثلوا بابن ملجم وأن يضربه الحسن عليه السلام ضربة بضربة.. فهذا ما صورته الرواية التي روج لها المغرضون حتى راجت في سوق الجهل وأقبل عليها الكثيرون من الناس والدهماء. ضوابط صدق النص التأريخي من جهة الموضوع: إن الانشغال بموضوع أسانيد المرويات التاريخية وغض الطرف عن نقد متونها وكذلك العكس لا يعتبر الحكم النهائي للوصول إلى الحقيقة, بل إن ذلك يعد نقصاً واضحاً ينبغي تداركه؛ إذ لا بد من دراسة الروايات التاريخية متناً وسنداً، ومتى ما تخلف واحد منهما انعدمتْ صحة الرواية؛ لذا لا يمكن القول في نقد السند والمتن: إنَّ أحدهما هو الأساس بل إن كليهما نقدُه أساس للتعرف على صحة الرواية, ولكن يمكن أن يقال: إن نقد السند شرْط لصحة المتن، فيتبين بهذا أنّ نقده إنما هو لصالح نقد المتن، وإلا لما احتيج إلى النظر في السند أصلاً!. وعليه فالأخذ بالمرويات التاريخية من بطون المصنفات من دون إعمال النظر في أسانيدها ومتونها خصوصاً إذا كان الحكم فيها على طائفة من الناس فإنه يعد بخساً لحقوقهم, وبهذا الصدد يذكر ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) ما نصه: (إن الحكم على أي طائفة أو قوم، يقوم على أصلين، أحدهما: المعرفة بحالهم...)(٢٢), فهذا أصل يقوم على العلم المنافي للجهل، والعدل المنافي للظلم؛ إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة. وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع والأحداث التي تدور رحاها على أهل بيت النبوة ومعدن العلم والحكمة، صلوات الله عليهم أجمعين، فالمعرفة بحالهم تدل على كمال إيمانهم، وصدق مقالهم وحسن فعالهم, وطهر سيرتهم، ونقاء سريرتهم؛ إذ توافرت الأدلة كتاباً وسنة على عصمتهم وطهارتهم وعظيم منزلتهم. وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين وأصحاب الأهواء؛ لأن كذبهم وهواهم يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته. وقد وصف ابن عربي في كتابه (العواصم من القواصم) بعض أرباب التاريخ بـ(الطائفة التاريخية الركيكة)(٢٣), وذكر الحافظ العراقي في فاتحة ألفيته في السيرة النبوية بيتين من الشعر صرح فيهما أن كتب السير والتاريخ مشتملة على الغث والسمين من الأخبار, فقال:
وليعلـمﹺ الطالـب أن السـيرا* * *تجمع ما صح وما قد أُنكرا والقصد ذكر ما أتى أهلُ السير* * *به وإنْ إسنـاده لـم يُعتبر(٢٤)
وأما السبكي فقد صرح بوضوح في كتابه (قاعدة في المؤرخين) قائلاً: (إن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس ورفعوا أناسـاﹰ، إمـا لتعصب أو لجهل أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غيـر ذلـك من الأسباب، والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهـل الجـرح والتعـديل، وكـذلك التعصب، قلَّ أن رأيت تاريخاﹰ خالياﹰ من ذلك)(٢٥), وأكد – أيضاً - على أثر التحزُّب في ميول المـؤرخ بقوله: (وقد استقريت فلم أجد مؤرخاﹰ ينتحل عقيدة، ويخلو كتابه عن الغمز ممـن يحيـد عنها، سنة ﷲ في المؤرخين، وعادته في النقلـة، ولا حـول ولا قـوة إلا بحبلـه المتين)(٢٦). وعليه فلا ينبغي الاعتماد المطلق على مرويات المؤرخين والتعامل معها وكأنها حقائق مسلمة دون إجراء عملية النقد عليها. فلا بد إذن – فيما يخص نقد المتن - من الأخذ بنظر الاعتبار ضوابط صدق الخبر التأريخي من جهة موضوعه, ولعلَّها تضبط في عدَّة نقاط يجدر التنبه لها، ويحسن تسليط الضوء عليها، وهي كالآتي: ١ - أن يروى النص بسند صحيح قد اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة(٢٧). ٢ - أن لا يخالف الراوي روايات الآخرين حتى تصبح راويته مقبولة موضوعاً. ٣ - أن صحة السند لا تكفي دون التأكد من صحة المتن من جهة موضوعه؛ إذ ربما يصح السند أو يحسن دون المتن لشذوذ أو علة فيه، فلا ينفع عنده صحة السند أو حسنه(٢٨). ٤ - أن لا يكون المتن شاذاً، ولا منكراً؛ لأن صحة السند لا تعتبر المحك الوحيد عند الحفاظ بل هم يؤكدون على أهمية نقد المتن في حد ذاته فإذا أتى راوٍ بمتنٍ لا يعرف عن غيره لم يقبل(٢٩). ٥ - التحقق من صدق النص بعملية الاعتبار والبحث عن المتابعات والشواهد(٣٠)، والتي بها يعرف صدق النص عن طريق وروده من أكثر من جهة مختلفة. وربما تكشف جميع روايات النص المختلفة عن وقوع الاضطراب فيه مما يحكم بضعفه(٣١). وعند تطبيق هذه الضوابط على الروايات التأريخية - محل البحث- نلاحظ عليها الآتي: أولاً: التعارض بين روايات الحادثة نفسها: لا بدّ لنا أن نستعرض باختصار الروايات التأريخية التي استند اليها بعض ضعاف النفوس الذين اعتمدوا ما صورته تلك الروايات عن حادثة الاقتصاص من ابن ملجم التي عكست أشنع وأقبح صورة ونسبتها إلى سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة؛ لنقف على حقيقة الأمر ثم نقف بعد ذلك على ثغر إيضاح الحق ونثر شذاه على كل طالب حق وراغب صدق, وفيما يلي نسوق جملة من تلك الروايات: ١ - قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: (وقطع الحسن بن علي يديه ورجليه وهو في ذلك يذكر الله، ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع، فقيل له في ذلك قال: أحببت ألا يزال لساني رطباً من ذكر الله)(٣٢). ٢ - قال عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه, أن علياً دعا حسيناً ومحمداً فقال: بحقي لما حبستما الرجل، فإن مت منها فقدماه فاقتلاه، ولا تمثلا به. قال: فقطعاه وحرقاه. قال: ونهاهما الحسن رضي الله عنه(٣٣). وأخرج نحو هذا ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني فقال: حدثني حجاج بن يوسف، نا عبد الرزاق، عن ابن جريح، عن عبد الكريم بن أمية، عن قثم، مولى الفضل، قال: لما طعن ابن ملجم علياً رضي الله عنه، قال لحسن وحسين ومحمد: "عزمت عليكم لما حبستم الرجل، فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به" قال: فلما مات رضي الله عنه قام إليه حسين ومحمد رضي الله عنهما، فقطعاه وحرقاه ونهاهما الحسن(٣٤). ٣ – قال أبو الفداء في تاريخه: ولما مات عليٌّ أُخرج عبد الرحمن بن ملجم من الحبس، فقطع عبد الله بن جعفر يده ثم رجله، وكحلت عيناه بمسمار محمى، وقطع لسانه، وأحرق لعنه الله. ٤ – قال الدينوري في الأخبار الطوال: فدعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه، فجعل يقول: إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك. فقال له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك؟. قال: إني ما جزعت من ذلك خوفاً من الموت، ولكني جزعت أن أكون حياً في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها، ثم قطع لسانه، فمات(٣٥). ٥ – قال الذهبي في تاريخ الإسلام: (فلما دفن أحضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، دعُونا نشتفّ منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلّم، فكحَلَ عينيه، فلم يجزع، وجعل يقول: إنك لتكحُل عيني عمّك وجعل يقرأ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٣٦) حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليُقْطع فجزع، فقيل له في ذلك. فقال: ما ذاك بجزع، ولكنّي أكره أن أبقى في الدنيا فُواقاً لا أذكر الله، فقطعوا لسانه، ثمّ أحرقوه...)(٣٧). ٦ – قال الدميري في حياة الحيوان: (وقتل الحسن بن علي عبد الرحمن بن ملجم، فاجتمع الناس وأحرقوا جثته)(٣٨). إذن فمن الذي مثّل بابن ملجم على فرض وقوعه ولا نسلِّم به؟ هل هو الإمام الحسن عليه السلام أو الإمام الحسين عليه السلام ومحمد بن الحنفية أو عبد الله بن جعفر؟. فمع هذا التناقض والتعارض في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول؟ ثم كيف يمكن أن يكون مثل هذا التناقض في حادثة واحدة، ففي الرواية الأولى نسِب التمثيل والتنكيل بابن ملجم إلى الإمام الحسن عليه السلام, وفي الثانية نسب إلى الإمام الحسين عليه السلام ومحمد بن الحنفية وأما الإمام الحسن عليه السلام فكان الناهي لهما عن التمثيل به, وفي الثالثة والرابعة نسب ذلك الفعل إلى عبد الله بن جعفر فحسب، ولم يرد فيهما ذكر للحسن والحسين عليهما السلام ولا محمد بن الحنفية. وقريب منهما - من الرواية الثالثة والرابعة - ما جاء في الخامسة, وثمة روايات أخرى كثيرة تحمل مثل هذا التناقض، لا نتوسع بإيرادها. فبطل بذلك ما تعلق به أصحاب الشبهة في وقوع التمثيل والتنكيل على ابن ملجم ونسبته إلى سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته الإمام الحسن المجتبى عليه السلام؛ لأن التناقض في الأخبار يستلزم تكذيب بعضها بعضاً. ثانياً: الانقطاع وضعف السند: وأما عن أسانيدها فنكتفي بإيراد ما ذكره الصلابي في كتابه عن سيرة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام حيث قال ما نصه: (وتذكر الرواية التاريخية المشهورة: (فلما قبض علي -رضي الله عنه- بعث الحسن إلى ابن ملجم، فقال للحسن: هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهداً إلا وفيت به، إني كنت قد أعطيت الله عهداً عند الحطيم أن أقتل علياً ومعاوية، أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك الله علي إن لم أقتله ـ أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك. فقال له الحسن: أما والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله، ثم إن الناس أخذوه، فأحرقوه بالنار), ولكن هذه الرواية منقطعة، والصحيح من الروايات والذي يليق بالحسن والحسين وأبناء أهل البيت أنهم التزموا بوصية أمير المؤمنين علي في معاملة عبد الرحمن بن مُلْجم، وفيها يظهر خلق الإسلام العظيم في النهي في المثلة والالتزام بالقصاص الشرعي. ولا تثبت الرواية التي تقول: (فلما دفن أحضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، دعُونا نشتفّ منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلّم، فكحَلَ عينيه، فلم يجزع، وجعل يقول: إنك لتكحُل عيني عمّك وجعل يقرأ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٣٩) حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليُقْطع فجزع، فقيل له في ذلك. فقال: ما ذاك بجزع، ولكنّي أكره أن أبقى في الدنيا فُواقاً لا أذكر الله، فقطعوا لسانه، ثمّ أحرقوه...))(٤٠).
ومن جميع ما تقدم يتبين بوضوح لا خفاء فيه أن ما ذهب إليه طه حسين والمبرد وابن القيم إنما هو مذهبٌ كاسد وقول فاسد كما تقدم بيانه وظهر ضعفه وبطلانه, فما بعد ذلك إلا العناد.
الكاتب: السيد مهدي الجابري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) انظر: بحار الأنوار, ٤٢: ٢٨٨. (٢) الفتنة الكبرى – طه حسين -. ص١٦٧ – ١٦٨. نشر دار المعارف, ط: الثالثة عشرة, القاهرة. (٣) الكامل في اللغة والأدب – للمبرد – ٣: ١٤٨. (٤) بدائع الفوائد – لابن القيم – ٣: ١٣٦. (٥) سورة النحل: آية ١٢٦. (٦) سورة الإسراء: آية ٣٣. (٧) الكافي. ٧: ٣٧١. كتاب الديات. (٨) لسان العرب. ١١: ٦١٥. (٩) النهاية في غريب الحديث والأثر – لابن الأثير – ٤: ٢٩٤. (١٠) جواهر الكلام, ٢١: ٧٧. (١١) معالم السنن – للخطابي – ٢: ٢٨٠. (١٢) سورة الأحزاب: آية ٣٣. (١٣) سورة يس: آية ٨٢. (١٤) مجمل اللغة لابن فارس ٣: ٣٣٥ ومثله في معجم مقاييس اللغة له ٣: ٤٢٨. (١٥) ينظر: التحقيق في كلمات القرآن, ٤: ٥٩. مادة (رجس). (١٦) ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم – لابن الجوزي – ٣: ١٧٩. (١٧) سورة الأعراف: آية ١٢٤. (١٨) سلسلة الأحاديث الضعيفة – للألباني – ١٣: ١١١٢. (١٩) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، ص٣٣٠. (٢٠) حديث الثقلين من الأحاديث الصحيحة المتواترة، تنتهي سلسلة أسانيده إلى جماعة من أجلة الصحابة، رواه في صحيح مسلم ٤: ١٨٨٣ / ٣٦ و٣٧، سنن الترمذي ٥: ٦٦٢ / ٣٧٨٦ و٦٦٣ / ٣٧٨٨٨، سنن الدارمي ٢: ٤٣١، سنن البيهقي ٢: ١٤٨ و٧: ٣٠ و١٠: ١١٤، مسند أحمد ٣: ١٤ و١٧ و٢٦ و٥٩ و٤: ٣٦٦ و٣٧١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩ و١٤٨. (٢١) سورة الإسراء: آية ٣٣. (٢٢) مجموع الفتاوى. ٢٨: ٥١٠. (٢٣) المصدر نفسه, ص١٧٤. (٢٤) ألفية السيرة النبوية - للحافظ العراقي-, ص٢٩. (٢٥) قاعدة في المؤرخين - للسبكي -. ص٦٦. (٢٦) قاعدة في المؤرخين, ص ٨٨. (٢٧) ينظر تدريب الراوي – للسيوطي – ١: ٦٠. (٢٨) ينظر: المصدر نفسه. ١: ١٧٥. (٢٩) ينظر: المصدر نفسه. ١: ٢٣٢ – ٢٤٠. (٣٠) ينظر: المصدر نفسه. ١: ٢٤١ – ٢٤٥. (٣١) ينظر: المصدر نفسه. ١: ٢٦٢. (٣٢) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد- ٥: ٩٦. (٣٣) المصنف – للصنعاني – ١٠: ١٥٤ ح ١٨٦٧٢. (٣٤) الآحاد والمثاني – لابن أبي عاصم – ١: ١٤٠ ح ١٦٤. (٣٥) الأخبار الطوال – للدينوري-. ص ٢١٥. (٣٦) سورة العلق: آية ١. (٣٧) تاريخ الإسلام – للذهبي – ٣: ١٥٥. (٣٨) حياة الحيوان الكبرى – للدميري – ١: ٧٤. (٣٩) سورة العلق: آية ١. (٤٠) أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - شخصيته وعصره – الصلابي -, ص١٨٦٦.
اترك تعليق