أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل إلى البشر وفق منهج دقيق. فكان ما يحمله النبي الرسول يتماشى في حجمه ومهمته مع حجم المجتمع المرسل اليه وحاجته. فالمجتمعات البدائية، كأقوام نوح وإبراهيم (عليهما السلام) لم تكن، ضمن واقعها الاجتماعي والتجاري والعلمي، بحاجة إلى رسالة تتجاوز في محتواها حدود فكرة التوحيد وبعض الوصايا المتعلقة بالثوابت الأخلاقية. وربما كانت الرسالة والمرسل محصورين في دائرة معينة أو دور خاص, "وهناك حقيقة أساسية في الرسالة المسيحية أنها جاءت لتصحيح مسار الديانة اليهودية. فهي ليست شريعة خاصة, وإنما هي وصايا وأخلاق. وإن هذه الوصايا إنما قصد بها تخفيف جشع اليهود وانصرافهم إلى المادية الخالصة. فهي دعوة الى التحرر من المادة والزهد في الدنيا والتطلع الى الجوانب الروحية القائمة على الرحمة والخير والسماحة والحب. وهي بمجموعها تنقض اليهودية في واقعها بعد ان خرجت عن أصلها الاصيل."
لننتهي بذلك إلى أن كل الرسالات لم يكن يراد لها أن تؤدي دوراً شاملاً أو تحدث تغييراً تاما في حركة التاريخ. فلا حاجة بها حينئذ لإقامة دولة لها أو حتى إحراز نصر عسكري على الطرف المناهض للرسالة. ولهذا نلاحظ أن أغلب الرسل (عليهم السلام) في حياتهم الرسالية, كانوا يشتركون بعامل مشترك هو الجد في التبليغ السلمي, ثم ينتهون الى نقطة يتحصحص فيها الحق ولايبقى لمن بعثوا إليهم ذريعة أو حجة. وعند الوصول الى هذه النقطة يترك الرسول قومه وشأنهم. نرى ذلك في نوح (عليه السلام) الذي عكف على دعوة قومه ألف عام. وحين يئس منهم, صنع على عين الله الفلك وتركهم. وإبراهيم (عليه السلام) حين قدّم لهم الدليل القاطع على صدق نبوته بخروجه من نار نمرود سالما, أخذ أهله وعياله وارتحل عنهم. وموسى (عليه السلام) حين ترك مصر بمن رحل معه من بني اسرائيل.
ولم يستثن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من العامل المشترك. فقد كان ككل الأنبياء هادياً دالاً على الله. وقد جاهد وكافح من أجل هداية قريش وجعلها تؤمن بالله الواحد وتنبذ ما كانت عاكفة عليه من عبادة الأصنام. وقد فعل ذلك باللين والحكمة والحوار المنطقي. وتحمل ما لم يتحمله نبي من الأنبياء, وحين يئس منهم تركهم وهاجر إلى المدينة.
ولكنه (صلى الله عليه وآله) تميز برسالته الخاتمة التي تحمل في معطياتها وأحكامها كل مايضمن للمجتمع البشري من مقومات النظام الأصلح, وتخاطب الإنسانية جمعاء على اختلاف الأمكنة والأزمنة. فلابد لهذه الرسالة، حينئذ من دولة تقام. وعليه فإن المرحلة التي تلت هجرته الشريفة ـ حيث خاض الحروب وأهرق الدماء ـ كانت من أجل إقامة الدولة التي تحقق المثل والقيم التي نادى بها الرسلُ كافة. وإن أي رسول من الرسل كان سيعمد إلى حمل السيف لو قدّر له أن يكون ضمن مهامه إقامة دولة للقيم التي يدعو اليها. فالمسيحية التي تعتبر نفسها الحاضنة الأم للسلام والمحبة, هل كان يمكن فيها للسيد المسيح (عليه السلام) ـ لو أراد أن يقيم لهاتين القيمتين دولة ويحمل دهاقنة المعبد وحكام الدولة الرومانية على التحلي بهما ـ أن يفعل ذلك بأن يدير خده الآخر؟!
وفي يومنا هذا، حيث تنصب أمريكا نفسها القيّمَ على الديمقراطية والحرية والإنسانية وتعلن أنها تسعى لفرض هذه القيم على العالم كله, ألا تفعل ذلك من خلال جيوشها التي تملأ أرجاء المعمورة؟!
وهنا نصل إلى بيان الخطأ الكبير الذي وقع فيه البعض ـ أو أنهم يقولون ذلك تدليساً ونكاية ـ في أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين كان في مكة لايملك القوة عمد إلى الحوار والدعوة الحسنة, وحين صارت له القوة والمنعة في المدينة سارع الى اتخاذ القوة والسيف وسيلة لتحقيق انتصاراته وبسط سلطانه.
الكاتب/ الشيخ صلاح الخاقاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1):الاسلام في مواجهة الفلسفات القديمة أنور الجندي ص 29
اترك تعليق