خصائص ومميزات أرض كربلاء

خصائص ومميزات أرض كربلاء (دراسة لغوية روائية)

 

تمهيد

كلّ مدينة تحتاج في وجودها وتكوّنها إلى سبب ومَنشأ، وكذلك تمتاز عن غيرها ببعض المميِّزات، والتي ربّما تكون سلبية أو إيجابية، كثيرة أو قليلة، ولا يختلف اثنان في أنّ ظاهرة نشوء المدن وتمايزها لم تأتِ عن فراغ، أو من باب الصدفة والاتفاق، وإنّما هنالك عوامل كانت وراء تكوّنها وتمايزها، سواء كانت هذه العوامل تاريخية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو دينية أو غيرها، هذا بصورة عامّة.

وأمّا بخصوص المدن الإسلامية، فيذكر الكثير من الباحثين من أمثال: لويس ماسنيون، ووليم مارسيه، وهنري بيرين، وكارديه سوفاجيه، والمستشرق الإنجليزي: ستيرن وغيرهم، أنّ مردّ ذلك إلى أمرين جوهريين:

 الأول: أنّها حواضر قديمة كانت قبل الإسلام، وبعد أن استقرّ بها المسلمون منحوها طابعاً إسلامياً.

 الثاني: أنّها أمصار أسّسها المسلمون بعد الفتوحات الإسلامية[1].

ومن هذه المدن التي صارت مَعْلَماً شاخصاً، ومناراً للعالم من بين كلّ المدن الإسلاميّة هي كربلاء، فقد جمعت كلّ تلك الأسباب ومناشئ تكوّنها وشهرتها لدى العالم ككل؛ ممّا يعني أنّ هذه الأسباب تحتوي على الشرافة والرفعة، التي جعلت كربلاء بهذه المنزلة المترامية الفضل لدى أهل السموات قبل أهل الأرض!

والذي نريد أن نُبيّنه في هذه الدراسة هو الخصائص والمميزات التي امتازت بها هذه الأرض المباركة، والبحث قدر المستطاع عن الأسباب التي جعلتها كذلك؛ حيث إنّها ضمّت مَعلمَين شريفين، وهما: الحائر الحسيني ونهر العلقمي؛ لأنّهما تشرّفا بجسد المولى أبي عبد الله وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام، والصفوة من أهل بيته عليهم السلام وأصحابه رضي الله عنهم.

وعليه؛ سينعقد البحث في جهتين:

الجهة الأُولى: الخصائص والمميزات في إطار البحث اللُّغوي والتاريخي.

الجهة الثانية: الخصائص والمميزات على ضوء البحث الروائي.

 

الجهة الأُولى: الخصائص والمميزات في إطار البحث اللُّغوي والتاريخي

لا يخفى أنّ كلّ لفظ له دلالته على المعنى الموضوع له، وخصوصاً الأسماء، فإنّ لها دلالة عميقة على المعنى الذي تدلّ عليه، وهو ـ أي الاسم ـ يُبرز ويُظهر ما يمتاز به ذلك المعنى، خصوصاً إذا كان هذا الاسم صادراً وموضوعاً من جهة عُليا، غير جهة الوضع البشري للألفاظ والأسماء، كما هو الحال في أسماء مولاتنا الزهراء عليها السلام؛ إذ جاء في الأمالي للشيخ الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «لفاطمةعليها السلام تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة، والصدِّيقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والرضية، والمرضية، والمحدّثة، والزهراء...»[2]. وكلّ اسمٍ من هذه الأسماء الشريفة كاشف عن معنى حقيقي، ومقام رفيع لمولاتنا الزهراء عليها السلام.

وقبل أن ننقل الكلام إلى مفردة كربلاء، ننوّه إلى أمر يخصّ هذه الجهة، وهو: أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأسماء ـ من خلال البحث اللُّغوي والتاريخي ـ أنّها تبيّن قداسة الأرض وحرمتها، أمّا سبب ذلك فهو ما سنُوكل بحثه إلى الجهة الثانية إن شاء الله.

 

الآراء في تسمية كربلاء

ثمّ إنّ الباحث عندما يلج في دائرة البحث اللُّغوي يرى أن ّهناك آراءً كثيرة في تفسير مفردة كربلاء، وبعض الجوانب التاريخية المرتبطة بها، وهذه الآراء وإن كانت ناظرة إلى منشأ التسمية وتفسير هذه المفردة، إلّا أنّ ذلك يدلّ على خصوصية التفضيل والتشريف لهذه الأرض الطاهرة، وفيما يلي نستعرض أهمّ تلك الآراء:

الرأي الأول: ما ذكره ياقوت الحموي

أوعز ياقوت الحموي ـ في صدد كلامه عن لفظة كربلاء ـ التسمية إلى ثلاثة أوجه، حيث قال: «كربلاء بالمدّ: هو الموضع الذي قُتل فيه الحسين بن علي عليهما السلام ، في طرف البرية عند الكوفة، فأمّا اشتقاقه [أي اللفظ] فالكربلة رخاوة في القدمين، يُقال: جاء يمشي مكربلاً. فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة؛ فسُمّيت بذلك، ويُقال: كربلتُ الحنطة. إذا هذّبتها ونقّيتها، ويُنشد في صفة الحنطة:

       يُحملن حمراء رسوباً للثقل   قد غُربلت وكُربلت من القصل

فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض مُنقّاة من الحصى والدغل؛ فسُمّيت بذلك.

والكربل: اسم نبات الحماض، وقال أبو وجرة يصف عهون الهودج:

       وثامر كربل وعميم دفلى      عليها والندى سبط يمور

فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر نبته هناك؛ فسُمّي به»[3].

الرأي الثاني:الفعل العُلْوي أو العمل السماوي

ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني، أنّ لفظة كربلاء متكوّنة من كلمتين، هما:

كار؛ أي: الفعل، وبالا؛ بمعنى: السامي أو العُلْوي باللغة الفارسية، وبذلك يكون معنى لفظة كربلاء: الفعل العلوي أوالعمل السماوي: وهذا يُقارب المعنى الذي ذهب إليه الأب انستانس ماري الكرملي[4].

الرأي الثالث: معبد الإله أو حريم الإله

يُرجِع بعض المؤرِّخين التسمية إلى كلمتين آشوريتين، ومنهم الأب انستانس ماري الكرملي، هما: كرب بمعنى: معبد أو حرم، والكلمة الثانية: إل بمعنى: إله في اللغة الآرامية، ومجموع الكلمتين: معبد الإله، أو حرم الإله[5].

الرأي الرابع:كاربيلا الواردة في سِفر دانيال

من الأسماء التي سُمّيت بها كربلاء ما ذكره الدكتور رياض كاظم سلمان وإليك نصّه: «...يحتمل البحث في أصل تسمية كربلاء بُعدين: الأول لُغوي والآخر تأريخي يساعد على الوقوف ولو بشكلٍ عام على معرفة طبيعة العوامل التي تقف وراء التسمية المدنية، وبالرجوع إلى المعاني اللغوية للفظة يرجّح عودتها إلى الاسم الآرامي كاربيلا، الوارد ذكره في سِفر دانيال الثالث، ويحتمل كذلك تكون ترجمته تعني: كور بابل. فيما يرى آخرون بأنّ اللفظة تعود إلى كلمة كرب وأيل، التي تُترجم مجتمعة إلى: حرم قدسي... أمّا الرؤية التاريخية لأصل التسمية، فإنّها تستند إلى جميع الإشارات اللُّغوية التي نُعتت بها المنطقة ومنها: كاربيلا، كرب آيل، كاربالا، كور بابل»[6].

الرأي الخامس: قاربا لاتو الأكادية

 كذلك ذكر ديلك قايا ـ الباحث التركي ـ اسماً خامساً، وذكر أنّها مشتقّه من كلمة: قاربا لاتو الأكادية، التي تعني: القلنسوة الحادّة، والتي تحوَّلت إلى كلمة: كار باله الموجودة في اللغة الآرامية والعبرانية الوسطى، وقِيل: إنّ أصلها عربي مشتقّ من كلمة: كور بابل، التي تعني: أنحاء بابل، أو كلمة: كربله، التي تعني: غوص القدم في الأرض الناعمة[7].

الرأي السادس:عمورا وماريا وصفورا

ذُكر في موسوعة العتبات المقدّسة أنّ كربلاء المقدّسة قد أُطلق عليها الأسماء التالية: عمورا، وماريا، وصفورا، حيث جاء ما نصّه: «...يتّضح ممَّا تقدّم أنّ تاريخ كربلاء موغل في القِدَم، وأنّها كانت من أُمّهات مُدن طسوج[8] النهرين الواقعة على ضفاف نهر بالاكوباسالفرات القديم، وعلى أرضها معبد للعبادة والصلاة، كما يستدلّ على قِدَمِها من الأسماء التي عُرفت بها قديماً: عمورا، وماريا، وصفورا»[9].

وقد ذكر المجلسي كذلك في البحار أنّ الحسين عليه السلام، قال لأصحابه قبل أن يُقتل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: «يا بني، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى عمورا، وإنّك تُستشهد بها، ويُستشهد بها جماعة من أصحابك...»[10].

الرأي السابع:كور بابل

يُرجِع البعض من المؤرّخين لفظة كربلاء إلى كلمة كور بابل العربية الأصل، وأنّها مشتقّة من هذه الكلمة، وكور جمعها: أكوار، ويعتقد أنّها مجموعة من القرى البابلية القديمة، التي استوطنت المنطقة قديماً، كما يذكر البعض أنّ من أبرز هذه القرى شيوعاً هي نينوى، والتي لا تزال آثارها موجودة من جهة الشرق والشمال الشرقي من مدينة كربلاء حالياً[11].

الرأي الثامن: الحائر

ذكر ابن منظورالحائر اسماً لكربلاء، حيث قال: «والحائر: كربلاء، سُمّيت بأحد هذه الأشياء. واستحار المكان بالماء وتحيّر: تملّأ. وتحيّر فيه الماء: اجتمع. وتحيّر الماء في الغيم: اجتمع. وإنّما سُمّي مجتمع الماء حائراً؛ لأنّه يتحيّر الماء فيه، يرجع أقصاه إلى أدناه»[12].

وذكر الزبيدي ذلك في تاج العروس حيث قال: «والحائر: بالعراق فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالبرضي الله عنهم، سُمّي لتحيّر الماء فيه»[13].

وذكر أيضاً في مادةحير، ما نصّه: «والحائر: كربلاء، سُمّيت بأحد هذه الأشياء، كالحيراء، هكذا في النسخ بالمدّ، والذي في الصحاح وغيره: الحَيْر، أي: بفتحٍ فسكون، بكربلاء، أي: سُمّي لكونه حِمىَ. والحائر أي: بكربلاء، وهو الموضع الذي فيه مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه»[14].

وقد ورد اسم الحائر في كلمات المعصومين عليهم السلام، فقد جاء في كامل الزيارات عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن: مكّة، والمدينة، ومسجد الكوفة، والحائر»[15].

وجاء اسم الحائر كذلك في زيارات الإمام الحسين عليه السلام، فقد ذكر صاحب كامل الزيارات عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «إذا أتيت الحائر فقل...»[16].

 وعلى هذا؛ يكون اسم الحائر لكربلاء اسبق ممّا يُزعَم بأنّ سبب التسمية ترجع إلى حادثة المتوكّل العباسي، عندما أراد إخفاء القبر الشريف، وذلك بإيصال الماء إليه، فصار الماء يدور حول القبر، وحار ولم يصل إليه؛ ولأجله سُمّي بالحائر، والحال أنّ المعروف بأنّ الإمام الصادق عليه السلام تُوفّي قبل أن يصل المتوكِّل إلى الخلافة بما يقارب الثمانين عاماً، واسم الحائر كان معروفاً في زمنه عليه السلام.

نعم، يمكننا القول: إنّ هذه التسمية راجعة إلى حادثة المتوكِّل، وإن سبق ذكر ذلك في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام على وقوع الحادثة؛ فإنّ الله في عالَم الغيب قد وضع هذا الاسم قبل أن يخلق المتوكِّل، لكنّ إظهار هذا الاسم من عالم الغيب وتجسيده على أرض الواقع يكون بسبب فعل المتوكِّل العباسي، فإنّ الله يعلم بما يُقدم عليه المتوكِّل. أمّا الأئمة عليهم السلام فهم يعلمون أُمور الغيب بإذن الله، فمن الممكن أن يكون الإمام عليه السلام ذكر هذا الاسم تلقّياً من الغيب. ولكنّ هذا الأمر يحتاج إلى دليل واستقراء للروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام.

الرأي التاسع: أرض كربٍ وبلاء

ورد في أمالي الصدوق في حديثٍ طويل بين أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس، في أيام خروجه عليه السلام إلى صفين، حيث قال عليه السلام لابن عباس: «...والذي نفس عليٍّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسم صلى الله عليه وآله إنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين عليه السلام، وسبعة عشر رجلاً من وُلدي ووُلد فاطمة، وإنّها لفي السماوات معروفة، تُذكر: أرض كربٍ وبلاء، كما تُذكر: بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس...»[17].

والشاهد في الحديث قول الإمام عليه السلام لابن عباس: «وإنّها لفي السماوات معروفة، تُذكر: أرض كربٍ وبلاء». إذ يُفهَم منه أنّها اسمٌ وليست وصفاً لما يقع فيها من مصائب على أبي عبد الله عليه السلام.

وجاء قريب من هذه الرواية أيضاً في الفتوح لابن أعثم في باب خروج علي بن أبي طالب، مع مغايرة قليلة في بعض ألفاظه، حيث يذكر عليه السلام على لسان النبي صلى الله عليه وآله: «أَلا وإنّ جبريل عليه السلام قد أخبرني بأنّ أُمّتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء...»[18].

وذكر ذلك أيضاً شمس الدين الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام في حوادث سنة واحد وستين، حيث قال: «وقال أبو معتز نجيح، عن بعض مشيخته: إنّ الحسين رضي الله عنه قال حين نزلوا كربلاء: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا كربلاء. قال: كرب وبلاء...»[19].

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: «...وساروا جميعاً إلى أن أتوا أرض كربلاء، وذلك يوم الأربعاء، فوقف فرس الحسين عليه السلام، فنزل عنها وركب أُخرى فلم تنبعث خطوة واحدة! ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس، وهنَّ على هذه الحال! فلمّا رأى ذلك قال: يا قوم، ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض الغاضرية. قال: فهل لها اسم غير هذا؟ قالوا: تُسمّى نينوى. قال: أهل لها اسم غير هذا؟ قالوا: شاطئ الفرات. قال: أهل لها اسم غير هذا؟ قالوا: تُسمى كربلاء. فعند ذلك تنفّس الصعداء! وقال: أرضُ كربٍ وبلاء! ثمّ قال: انزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا...»[20].

ويمكن أن نستظهر من المحاورة التي وقعت بين الحسين عليه السلام وأصحابه أنّ كرب وبلاء هو اسم لبقعة كربلاء وليس وصفاً؛ بقرينة الأسماء التي ذُكرت قبل لفظ كربٍ وبلاء، فيمكن أن نستفيد ذلك من سياق الكلام، وكذلك مع عضدها بحديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً.

الرأي العاشر: أسماء بعد الفتح الإسلامي

 سُمّيت كربلاء أيضاً بأسماء ليست قديمة، وإنّما جاءت بعد الفتح الإسلامي 634م، وذلك بعد ما حدثت واقعة كربلاء، ولها ارتباط وثيق بالواقعة، فمن هذه الأسماء: شطّ الفرات، ووادي الطف، ومشهد الحسين، والحائر الحسيني. وقد ذُكرت هذه التسميات في روايات المعصومين عليهم السلام، خصوصاً في زيارات الحسين عليه السلام، وسوف نذكر بعضها في مطاوي البحث إن شاء الله.

مناقشة الآراء

ومن خلال الآراء المتقدّمة لبيان منشأ ومعنى مفردة كربلاء، نجد أنّ بعضها يتعيَّن رفضه وعدم قبوله؛ لبعض الدلائل والقرائن، والبعض الآخر يحتاج إلى إثبات ودقّة تاريخية قد تكون مفقودة في البين، وأنّ ترجيح بعضها على الآخر ربّما يكون بعيد المنال؛ لشحّة الأدلّة التاريخية، وفيما يلي تفصيل الكلام، من خلال النقاط التالية:

1ـ أمّا بالنسبة لما ذكره ياقوت الحموي في لفظة كربلاء، وأنّها مشتقّة، وذكر احتمالات ثلاثة؛ من أنّها مشتقّة من كربله، والتي بمعنى: رخاوة القدمين، أو أنّها تأتي بمعنى: التنقية، كما في كربلت الحنطة أي: نقّيتها. أو أنّ كربل اسم نبات، فإنّنا نرى أنّ هذه الاحتمالات غير مقبولة؛ وذلك لأنّ لفظة كربلاء ليست عربية، بل هي كلمة بابلية، أو أنّها من الأسماء السامية الآرامية، وكانت معروفة قبل الفتح الإسلامي، وقبل أن تستوطنها القبائل العربية، كما تُشير إلى ذلك كثير من المصادر التاريخية التي ذكرنا قسماً منها، وكما يظهر ذلك أيضاً من قول الإمام علي عليه السلام المتقدّم لابن عباس: «وإنّها لفي السماوات معروفة، وتُذكر: أرض كربٍ وبلاء». وأيضاً قد ذكر أكثر من واحد من المفسِّرين أنّ هذا الاسم كان معروفاً عند زكريا عليه السلام، حيث جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿كهيعص﴾ الرواية الواردة عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، والتي هي من أنباء الغيب التي علَّم الله بها نبيّه زكريا عليه السلام، حيث إنّ جبرئيل أخبره: إنّ الكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين عليه السلام، والعين عطشه، والصاد صبره»[21].

وذكر الشيخ الطبسي في كتابه مع الركب الحسيني: «...وأنا أرى محاولة ياقوت الحموي ردّ كربلاء إلى الأُصول العربية غير مجدية، ولا يصحّ الاعتماد عليها؛ لأنّها من باب الظن والتخمين... وإنّ في العراق كثيراً من البلدان ليست أسماؤها عربية كبغداد، وحرورا، وجوخا، وبابل، وبعقوبا...»[22].

2ـ أمّا بالنسبة لما ذكره الشيخ آغا بزرك الطهراني من أنّ لفظ كربلاء متكوّن من كلمتين هما: كار وبالا، بمعنى: الفعل السامي أو العُلوي، وكذلك ما ذكره الأب إنستانس ماري الكرملي، وهو أنّ لفظ كربلاء منحوت من كلمتين آشوريتين هما: كرب وأيل، وهما باللغة الآرامية بمعنى: معبد الإله أو حرم الإله، فما ذكراه يمكن أن يكون له موضع قبول، خصوصاً وأنّ لفظ كربلاء ليس عربياً، كما أشرنا إليه مسبقاً، وأنّ أكثر المؤرّخين والباحثين ذكروا أنّها كلمة بابلية، فإذا صحّ هذا الرأي، ينقدح هذا التساؤل: هل كان من باب الصدفة أن تُسمّى هذه الأرض بالحرم القدسي، أو الفعل العُلوي؟!

نقول: إنّ هذا الأمر مستبعد؛ إذ المسألة ليست مجرّد تسميات فقط، بل إنّ هذا الأمر قد تعامل معه الأنبياء والرسل والأولياء ـ الملل المتقدمة على الإسلام ـ بحرمة وقدسية، وذلك عندما مرّوا بهذه الأرض المباركة أو مرّ ذكرها عليهم، وهذا واضحٌ من خلال الآثار الموغلة بالقدم من معابدهم على هذه الأرض؛ ولذا نرجّح أن تكون هذه التسمية قديمة، أطلقها البابليون أو مَن سبقهم من الأقوام التي سكنت هذه الأرض؛ لإشارات استفادوها من الأنبياء عليهم السلام الذين مرّوا بهذه البقعة المباركة، كما تذكر ذلك كتب التفاسير والتأريخ وغيرها، مثل ما يُروى عن النبي عيسى عليه السلام وأصحابه الحواريين، أنّهم مرّوا بأرض كربلاء فرأى الظباء مجتمعة وتبكي، فجلس عيسى عليه السلام والحواريون معه وبكوا حيث قالوا له: «...يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟ قالوا:لا. قال: هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد صلى الله عليه وآله، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي...»[23].

وكذلك مرّ بها النبي إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء، فلا يُستبعد أنّهم ـ أو تلامذتهم ـ أخذوا يتناقلون حرمة وقداسة هذه الأرض، حتى وصلت إلى عامّة الناس وصارت تسمية لها بعد ذلك، فاختلفت التسميات كلٌّ بحسب لغته، آرامية، أو بابلية، أو فارسية...، ولكن الكلّ يُشير إلى معنى واحد، وهو قدسية المكان؛ وعلى هذا يمكن الجمع بين هذه التسميات.

3ـ وهكذا الكلام في لفظ الحائر، وكذلك كربٍ وبلاء، نلمس فيهما قدسية واضحة؛ لما ذكرناه آنفاً عند عرض الآراء، وقد ذكرنا في لفظ الحائر أنّ تسميته وإن كانت سابقة على حادثة المتوكِّل، ولكن ليس من البعيد أن يكون هذا المعنى الإعجازي السابق للحادثة مأخوذاً بالتسمية لعلم الواضع للاسم ـ وهو الله تبارك وتعالى أو المعصوم عليه السلام ـ بما يجري من كرامة للقبر الشريف، وأنّه سوف يحير الماء ـ الذي أجراه المتوكِّل العباسي ـ حوله.

وهكذا الحديث في لفظ كربٍ وبلاء؛ لما تقدّم من أنّ الاسم معروف في السماء قبل الأرض، وبعد الالتفات إلى أنّ الأسماء السماوية أكثر شرافة من الأسماء الأرضية؛ لارتباطها بعالم الملكوت والقدس. لكن يبقى هذا اللفظ العربي غير منسجم مع فرض كون التسمية غير عربية.

4ـ أمّا ما يتعلّق بمَن يذهب إلى أنّ اسم كربلاء يعود إلى الأُصول العربية، أعني: كور بابل، فهذا وإن أمكن قبوله من جهة الامتداد الجغرافي بين كربلاء وبابل، وإنّ كربلاء كانت مجموعة قُرى مرتبطة مع بابل القديمة، لكن يرد عليه ما ورد على ما ذكره ياقوت الحموي، من أنّ لفظ كربلاء لفظ بابلي أو آرامي، وليس لفظاً عربياً كما يذهب إليه أكثر المؤرّخين، وقد ذكرنا بعضاً منها فيما سبق.

هذا ما يمكن استفادته من جهة البحث اللُّغوي والتاريخي فيما يتعلّق ببحثنا، أمّا بقية الأسماء فقد أعرضنا عنها؛ لعدم الاستفادة منها فيما نحن فيه، وربّما فيها إشارات لم نفهمها.

وبقي لنا أن نُذكِّر بأمر قد ذكرناه سابقاً وهو: أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأسماء هو أنّها تبيّن قدسية وحرمة المكان، أمّا بيان علّة ذلك فهذا ما لا يمكن معرفته من هذا الطريق، ولكن يمكن معرفته من طريق آخر، وهو البحث الروائي عند بيان الجهة الثانية من البحث.

 

الجهة الثانية: الخصائص والمميزات في ضوء البحث الروائي

هناك مجموعة كبيرة ووافرة من الروايات تُبيِّن لنا خصائص ومميزات عدة لأرض كربلاء، وقد ذكرناها تحت تسع طوائف، محاولين تقديم تحليلٍ مناسبٍ لكلّ طائفةٍ تباعاً، وهي ما يلي:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على كونها أوّل مَن قدّس الله

روى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن صفوان الجمال، أنّه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول: «...إنّ الله تبارك وتعالى فضّل الأرضين والمياه بعضها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت... وإنّ أرض كربلاء وماء الفرات أوّل أرض وأوّل ماء قدّس الله تبارك وتعالى وبارك الله عليهما، فقال لها: تكلّمي بما فضّلك الله تعالى، فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض. قالت: أنا أرض الله المقدّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعةٌ ذليلةٌ لمَن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني، بل شكراً لله. فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين عليه السلام وأصحابه، ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: مَن تواضع لله رفعه الله، ومَن تكبّر وضعه الله تعالى»[24].

فيظهر من هذه الرواية أنّ علّة التفضيل سُنّة كونية، راجعة لحكمة الله ومشيئته، فالرواية تقول: «إن الله تبارك وتعالى فضّل الأرضين والمياه بعضها على بعض». فتفضيل الله عز وجل للأرض على السماء أو بالعكس يدلّ على أنّ هناك سُنّة كونية ترجع لحكمته سبحانه، ثمّ إنّ بعض الأرضين التي تمّ تفضيلها تفاخرت على غيرها؛ ولذا ـ كما سيأتي ـ عُوقبت على تركها التواضع لله، ثمّ بيّنت الرواية مطلباً آخر، وهو لمّا تواضعت أرض كربلاء، وقدّست الله تبارك وتعالى زادها الله شرفاً بالحسين عليه السلام وأصحابه.

الطائفة الثانية: ما دلّ على احتوائها لقبر الحسين عليه السلام

فقد ورد في كامل الزيارات بإسناده عن أبي سعيد القماط، عن عمر بن يزيد بياع السابري، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «إنّ أرض الكعبة قالت: مَن مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري، ويأتيني الناس من كلّ فجٍّ عميق، وجُعلتُ حرم الله وأمنه؟! فأوحى الله إليها أن كُفّي وقرّي، فوعزّتي وجلالي، ما فَضْلُ ما فُضّلت به فيما أُعطيت به أرض كربلاء إلّا بمنزلة الإبرة غُمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضّلتك، ولولا ما تضمّنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقرّي واستقرّي، وكوني دنيّا[25] متواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكفٍ ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلّا سخت بك، وهويت بك في نار جهنم»[26].

ومثله عن أبي سعيد العصفري، عن عمر بن يزيد بياع السابري، عن أبي عبد الله عليه السلام[27].

وما يمكن استفادته هو أنّ هذه الطائفة صريحة في تفضيل كربلاء على أرض الكعبة، بل لولا أرض كربلاء ما فُضّلت الكعبة، ولولا ما تضمّنته كربلاء وهو جسد الحسين عليه السلام ما خلق الله الكعبة. ثمّ إنّ دواعي الافتخار التي ذكرتها أرض مكة كما بيّنتها الرواية: «مَن مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري، ويأتيني الناس من كلّ فجٍّ عميق، وجُعلت حرم الله وأمنه»، نرى أنّ ما أُعطيت كربلاء أعظم منه، أمّا بالنسبة لوجود بيت الله على ظهرها، ومجيء الناس إليها من كل فجٍّ عميق، فما حبا الله كربلاء من ضمّها لقبر الحسين عليه السلام أعظم من ذلك، وما تناقلته الروايات من أنّ حرمة المؤمن أعظم من الكعبة، فكيف بحرمة خليفة الله في أرضه، وهو الحسين عليه السلام، فهذه الخصيصة من الخصائص والمميزات المهمّة لأرض كربلاء.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّ الله أتّخذها حرماً آمنا قبل أن يتخذ مكة حرماً

 روى صاحب الوسائل بإسناده عن جعفر بن محمد بن قولويه في المزار، بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث ثواب زيارة الحسين عليه السلام، ما نصّه: «...والله، لو أنّي أُحدّثكم في فضل زيارته لتركتم الحج رأساً، وما حجّ أحد، ويحك! أما علمت أنّ الله سبحانه اتّخذ كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتّخذ مكة حرماً؟! قال ابن أبي يعفور: قد فرض الله على الناس حجّ البيت، ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام. قال: وإن كان كذلك، فإنّ هذا شيء جعله الله هكذا، أما سمعت قول أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ باطن القدم، أحقّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكن الله فرض هذا على العباد؟! أما علمت أنّ الإحرام لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكنّ الله صنع ذلك في غير الحرم؟!».

 فإنّ في هذه الطائفة إشارة واضحة على خصوصية كربلاء على مكة، وتحتوي على أمر مهم؛ باعتبار أنّ فيها معالجة لتوهّم كثير من الناس، مثلما استغرب، بل توهّم ابن أبي يعفور، عندما حدّثه الإمام بتفضيل كربلاء على مكة، فابن أبي يعفور توهّم والتبس عليه الأمر رغم جلالته، كيف تُفضَّل كربلاء على مكة وفيها بيت الله، ويأتيها الناس من كلّ فج عميق؟! فأجابه الإمام أن لا يلتبس عليك الأمر، ولا تقِس الأفضلية على ذلك، ولأهمية الأمر، ولأجل رفع الشبهة ذكر له الإمام عليه السلام أكثر من حكم، كقوله: «إنّ باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكنّ الله فرض هذا على العباد، أما علمت أنّ الإحرام لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم؟!».

الطائفة الرابعة: ما دلّ على كونها أُهرقت فيها دماء أحبّة لا مثيل لهم

الرواية الأُولى: روى ابن قولويه بإسناده عن جعفر بن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال: «...مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بكربلاء في أُناس من أصحابه، فلمّا مرَّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملتقى رحالهم، وهنا تُهرق دماؤهم، طوبى لكِ من تربةٍ عليك تُهرق دماء الأحبّة»[28].

الرواية الثانية: ما ورد في كامل الزيارات كذلك بإسناده عن علي بن أسباط، عن محمد بن سنان، عمَّن حدّثه، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «...خرج أمير المؤمنين علي عليه السلام يسير بالناس، حتى إذا كان من كربلاء على مسير ميل أو ميلين، تقدّم بين أيديهم حتى صار بمصارع الشهداء، ثمّ قال: قُبض فيها مائتا نبيّ، ومائتا وصيّ، ومائتا سبط، كلّهم شهداء بأتباعهم، فطاف بها على بغلته خارجاً رجله من الركاب، فأنشأ يقول: مناخ ركاب، ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم»[29].

فقد أشارت هذه الطائفة ـ في كلا الروايتين ـ إلى زيادة شرف هذه البقعة؛ لأنّها أُهرقت عليها دماء الأحبّة، ورغم أنّ هذه الأرض قد قُبض فيها، قبل مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، مائتا نبي، ومائتا وصي، ومائتا سبط مع أتباعهم، كلّهم شهداء قبل الحسين عليه السلام وأصحابه، إلّا أنّنا نلاحظ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «مناخ ركاب، ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم». فهي وإن قُبِضَ فيها الأنبياء والأوصياء والأسباط إلّا أنّها امتازت على غيرها بخصوصية تضمّنها للأحبة الذين لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق.

الطائفة الخامسة: ما دلّ على كونها بقعة يحبّ الله أن يُعبد فيها

رُوى عن محمد بن عيسى، عن أبي هاشم الجعفري، حينما بعث له الإمام الهادي عليه السلام في مرضه وبعث كذلك لمحمد بن حمزة، وإنّ محمد بن حمزة سبقه إلى الإمام عليه السلام فأخبره أنّه ما زال يقول: «...ابعثوا إلى الحائر. فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحائر؟ ثمّ دخلت عليه، فقلت له: جُعلت فداك، أنا أذهب إلى الحائر. فقال: اُنظروا في ذلك... فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحائر وهو الحائر؟! فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: اجلس، حين أردت القيام، فلمّا رأيته أنِسَ بي ذكرتُ قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلت له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحجر، وحرمة النبي صلى الله عليه وآله والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، إنّما هي مواطن يُحب الله أن يُذكر فيها، فأنا أُحبّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها، والحائر من تلك المواضع»[30].

إنّ هذه الطائفة بيَّنت خصوصية بالغة الأهمية، وهي أنّ للحائر أهمّية في استجابة الدعاء، وأنّه من المواضع التي يحبّ أن يُعبد فيها، وبما أنّ كلام الإمام المعصوم هو الكاشف الحقيقي عن مراد الشريعة الحقيقية الواقعية، بل هو الواقع بعينه.

وحينئذٍ، فإنّ قوله عليه السلام: «والحائر من تلك المواضع»، تتعيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ الدعاء في الحائر الشريف مُستجاب؛ بسبب هذه المحبوبية، ويتبيّن أيضاً المعنى المراد من الرواية المعروفة: بأنّ الدعاء عند الإمام الحسين عليه السلام أو تحت قبته مُستجاب[31].

الطائفة السادسة: ما دل ّعلى أنّها أفضل مسكن في الجنة

الرواية الأُولى: ابن قولويه بسنده عن أبي الجارود، عن الإمام السجاد عليه السلام، أنّه قال: «...اتّخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً، قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنّه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيّرها، رُفعت كما هي بتربتها، نورانية صافية، فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة، لا يسكنها إلّا النبيون والمرسلون ـ أو قال: أُولو العزم من الرسل ـ وأنّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدرّي بين الكواكب لأهل الأرض، يغشى نورها إبصار أهل الجنة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدّسة الطيبة المباركة، التي تضمّنت سيد الشهداء، وسيد شباب الجنة»[32].

الرواية الثانية: ما جاء في وسائل الشيعة للحر العاملي بإسناده عن محمد بن الحسن، عن محمد بن أحمد بن داود، عن الحسين بن علي البزوفري، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن سنان، عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «...خلق الله كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدّسة مباركة، ولا تزال كذلك، وجعلها الله أفضل الأرض في الجنة»[33].

وتُعدّ الرواية الأُولى ـ من الطائفة السادسة ـ من أجمع الروايات التي ذكرت فضائل كربلاء، من أنّها حرم آمن خلقها الله قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وأنّها أرض الله المباركة المقدّسة، وأنّها ضمَّت قبر الحسين عليه السلام وأصحابه، وكونها أفضل مسكن في الجنة، ولا يسكنها إلّا النبيون والمرسلون وأُولو العزم، فالتفضيل لم يقف في الدنيا فقط، بل امتدّ إلى الآخرة.

الطائفة السابعة: ما دلّ على إتمام الصلاة عند قبر الحسين عليه السلام

روى ابن قولويه بسنده عن حماد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «...من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن: مكة والمدينة ومسجد الكوفة والحائر»[34].

ففي هذه الطائفة تتبيَّن شرافة المكان من خلال تمامية الصلاة عند قبر الحسين عليه السلام، باعتبار أنّ التمام أفضل من التقصير، وباعتبار هو الحكم الأصلي والأوّلي للصلاة. وفي رواية لأبي الحسن عليه السلام يخاطب أحد أصحابه: «...إن قصّرت فلك، وإن أتممت فهو خير، وزيادة الخير خيرٌ»[35].

الطائفة الثامنة: ما دلّ على أنّها البقعة المباركة التي نُودي فيها النبي موسى عليه السلام

روى الشيخ الطوسي عن جعفر بن محمد، عن محمد بن الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه، عن جدّه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن الحكم، عن مخرمة ابن ربعي، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «...شاطئ الوادي الأيمن الذي ذكره الله تعالى والقرآن هو الفرات، والبقعة المباركة هي كربلاء»[36]

فإنّ هذه الرواية صريحة في شرافة كربلاء، وإنّها تشرّفت بكليم الله موسى عليه السلام قبل أن يستُشهد بها الحسين عليه السلام وأصحابه، وإنّها مذكورة في كتاب الله بهذا اللحاظ الذي ذكره الإمام عليه السلام، ويكفي أن تُسمّى كربلاء بالبقعة المباركة في تعبير القرآن الكريم.

الطائفة التاسعة: ما دلّ على أنّ السجود على تربة الحسين عليه السلام يخرق الحُجب السبع

رُوي عن معاوية بن عمار أنّه قال: «...كان لأبي عبد الله عليه السلام خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام، فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجّادته وسجد عليه، ثمّ قال عليه السلام: إنّ السجود على تربة أبي عبد الله عليه السلام يخرق الحُجب السبع»[37]. وكذلك رُوي عنه عليه السلام أنّه قال: «...السجود على طين قبر الحسين عليه السلام ينوّر إلى الأرضين السبعة، ومَن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السلام، كُتب مسبّحاً وإن لم يسبّح بها» [38].

أمّا هذه الطائفة الأخيرة، ففي الرواية الأُولى والثانية نجد أنّ هناك بعض الأحكام التي انفردت بها التربة المتّخذة من قبر الحسين عليه السلام، فتارة تخرق الحُجب السبع، وتارة تنوّر الأرضين السبع، وبالتالي لا يوجد شيء في الكون لا تصل إليه تربة الحسين عليه السلام، وهذا هو منتهى العظمة والفضل، وإذا لاحظنا جانباً آخر وهو أنّ أعظم حالات القرب الإلهي هو في حالة السجود، أفلا يدلّ ذلك على التفضيل؟!

محصّل ما يمكن استفادته من مجموع الروايات المتقدّمة

ومحصّل ما ذكرناه من الطوائف المتقدّمة: أنّ العلّة في تفضيل أرض كربلاء على غيرها ـ سواء قلنا بتفضيل كربلاء مطلقاً، أو قلنا هي مفضّلة كما أنّ غيرها مفضّل أيضاً، مثلما لو قلنا: إنّ الأنبياء أولي العزم هم أفضل الأنبياء عليهم السلام، مع أنّهم ليسوا بمرتبة واحدة في التفضيل، فالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله هو أفضلهم، ولكنّنا نصف الجميع بالأفضلية ـ مرجعها إلى الأُمور التالية:

1ـ أن يرجع إلى ما ذكرناه في أوّل المناقشة من المقدّمة؛ من أنّ التفضيل لا بدّ له من منشأ، ولا يمكن أن يكون أمراً جزافياً، وعلى هذا يكون منشأ تفضيل كربلاء هو: لأنّها ضمّت قبر الحسين عليه السلام، وقد ذكرنا مجموعة من الروايات على ذلك، من قبيل: «ولولا ما تضمّنته أرض كربلاء ما خلقتكِ، ولا خلقت البيت الذي افتخرتِ به، فقرّي واستقرّي، وكوني دنيّا متواضعاً، ذليلاً مهيناً، غير مستنكفٍ ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلّا خسفت بك، وهويت بك في نار جهنم».

2ـ وإمّا أن يكون التفضيل على ضوء السنّة الكونية والقرآنية، التابعة للحكمة والمشيئة الإلهية في خلق مخلوقاته، وتفضيل بعضها على بعض ـ كما بينّاه سابقاً في المرتبة الثانية للتفضيل، في أول المناقشة ـ وقد ذكرنا مجموعة من الروايات التي تُشير إلى ذلك، منها: «إنّ الله تبارك وتعالى فضّل الأرضين والمياه بعضها على بعض».

وعلى هذا يكون قبر الحسين عليه السلام زاد من شرفها وفضّلها، كما جاء في الرواية: قالت: أنا أرض الله المقدّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعةٌ ذليلةٌ لمَن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني بل شكراً لله، فأكرمها وزادها؛ لتواضعها وشكرها لله بالحسين عليه السلام وأصحابه».

3ـ وهناك منشأ ثالث لعلّة التفضيل، وهو أنّ قضية الحسين عليه السلام قضية استثنائية، فريدة من نوعها بكلّ المقاييس الكونية، والتشريعية، والعقائدية، والفقهية، والعسكرية، وتوجد عشرات بل مئات الأدلّة والشواهد على ذلك، والتي منها: كراهة لبس السواد إلّا على الحسين عليه السلام، فترتفع الكراهة، بل يستحبّ ذلك حزناً عليه عليه السلام. ومنها: أكل الطين محرّم مطلقاً إلّا تربة قبر الحسين عليه السلام ففيها الشفاء. ومنها: أنّ زيارات الأئمة عليهم السلام إذا استوجبت خطراً على النفس لا يُنتدب إليها، بخلاف زيارة الحسين عليه السلام، وأمثلة أُخرى كثيرة على ذلك.

 

 الكاتب: الشيخ محمد الريشاوي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السابع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات النخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

 

[1]     اُنظر: الأنصاري، محمد رؤوف، عمارة كربلاء: ص18.

[2]     الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص688.

[3]     الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان: ج7، ص229.

[4]     اُنظر: الخليلي، جعفر، موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء: ج2، ص18.

[5]     اُنظر: الحسيني، عبد الرزاق، العراق قديماً وحديثاً: ص124.

[6]     الجميلي، رياض كاظم سلمان، مدينة كربلاء دراسة في النشأة والتطور العمراني: ص11.

[7]     ديلك قايا، كربلاء في الأرشيف العثماني دراسة وثائقية: ص21.

[8]     طسوج: قضاء.

[9]     الخليلي، جعفر، موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء: ج2، ص16.

[10]    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص41.

[11]    الجميلي، رياض كاظم سلمان، مدينة كربلاء دراسة في النشأة والتطور العمراني: ص11.

[12]    ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج4، ص223.

[13]    الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج6، ص317، مادة حور.

[14]    المصدر السابق: ج6، ص321، مادة حير.

[15]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص430 ـ 431.

[16]    المصدر السابق: ص382.

[17]    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص253.

[18]    ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج4، ص326.

[19]    الذهبي، محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام: ج5، ص13.

[20]    الطبسي، محمد جعفر، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة: ج3، ص623.

[21]    التستري، جعفر، الخصائص الحسينية، المجلس الخامس عشر، وكذلك: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص223، بتصرّف.

[22]    الطبسي، محمد جعفر، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة: ج4، ص15.

[23]    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص253.

[24]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص455.

[25]    في الوسائل: ذنباً.

[26]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص450.

[27]    المصدر السابق.

[28]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات:ص453.

[29]    المصدر السابق.

[30]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص459 ـ 460.

[31]    الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص452.

[32]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص451.

[33]    الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج10، ص516.

[34]    المصدر السابق: ج8، ص532.

[35]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص432.

[36]    الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص38.

[37]    الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج5، ص366.

[38]    المصدر السابق.