أفضل البقاع - القسم الأول

هناك بقاع فضّلها الله سبحانه وتعالى على غيرها من البقاع؛ وما ذلك إلّا لأنّها تميّزت بما يُوجب لها التفضيل والتعظيم، ككونها محلاً للعبادة وممارسة الشعائر، أو محلاً لقبول الدعاء، أو لاحتضانها أجساد الأولياء عليهم السلام ، من أنبياء وأوصياء وصُلَحاء، أو لغير ذلك من الامتيازات.

وحيث إنَّ هذه المميزات تتفاضل فيما بينها؛ تفاضلت لذلك نفس البقاع التي هي محلٌّ لها، وقد اختلف العلماء في البقعة الأفضل ـ هل هي مكة أو المدينة أو كربلاء أو غيرها من البقاع المفضّلة؟ـ تبعاً لاختلاف الروايات والأدلّة في ذلك.

وبما أن لمعرفة البقعة الأفضل أهمّية كبيرة؛ لما يترتّب على ذلك من آثار فقهية وأخلاقية ـ من جهة وجوب احترامها وتقديسها أكثر من غيرها، وقصدها لغرض العبادة والدعاء، والإكثار من الطاعات فيها، ونحو ذلك من الآثار والأحكام ـ جاء هذا البحث لتسليط الأضواء على تلك البقاع المفضّلة واستكشاف الأفضل منها، بحسب ما يتوفّر لدينا من أدلّة وقرائن وشواهد نقلتها مصادر الحديث عند المسلمين، من العامّة والخاصّة.

ولكي لا يتوسّع البحث كثيراً ويخرج عن الهدف المرسوم له؛ نُحاول تسليط الأضواء فيه على نقطتين أساسيتين:

الأُولى: فضل تربة كربلاء، وهل يمكن إثبات فضلها من كُتب العامّة؟ بعد ثبوته في كُتب الخاصّة بشكلٍ واضح، كما سيتّضح إن شاء الله تعالى.

الثانية: ما هي أفضل البقاع؟ أهي مكة أم المدينة أم كربلاء أم غيرها؟ بعد الفراغ عن كون كربلاء هي إحدى تلك البقاع المقدّسة.

وفي القسم الأول من هذا البحث سنتحدّث عن النقطة الأُولى، ونفصّل فيها الكلام، مع بيان بعض المقدِّمات المرتبطة بالنقطة الثانية. على أمل أن نُتمّم البحث في النقطة الثانية في القسم الثاني منه.

النقطة الأُولى: فضل تربة كربلاء

الحديث عن فضل تربة كربلاء ينقسم إلى قسمين:

الأول: الحديث عن فضلها في كتب العامّة.

والثاني: الحديث عن فضلها في كتب الخاصّة.

القسم الأول: فضل تربة كربلاء في كتب العامّة

روى العامّة في جوامعهم الحديثيّة وكتبهم التاريخية، كثيراً من الأحاديث والروايات التي تتحدث عن إخبارات النبيّ صلى الله عليه وآله بقتل الإمام الحسين عليه السلام ، وعن الأرض التي يُقتل فيها، وأنّ اسمها كربلاء ونينوى، وأرض الفرات وغير ذلك، وأنّ جبرئيل قد أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله بذلك، وأراه تراباً من البقعة التي يُقتل فيها، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد أودع من ذلك التراب عند زوجته أُمّ سلمة، وفيما يلي نَعْرض مُهمَّ تلك الروايات، التي يمكن الاستدلال بها على فضل تربة كربلاء وأهميتها، مع بعض المناقشات والإيرادات إن وجُدت.

أ) روى الحاكم النيسابوري في المستدرك حديثاً يمكن أن يُستفاد منه فضل تربة كربلاء، والحديث هو: «أخبَرَناه أبو الحسين علي بن عبد الرحمن الشيباني في الكوفة، حدَّثنا أحمد بن حازم الغفاري، حدَّثنا خالد بن مخلّد القطواني، قال: حدَّثني موسى بن يعقوب الزمعي، أخبرني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أُمُّ سلمة1 أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائر، ثمّ اضطجع فرَقَد، ثمّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت به المرّة الأُولى، ثمّ اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يُقبِّلها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل عليه السلام  أنَّ هذا يُقتل بأرض العراق ـ للحسين ـ فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يُقتل بها. فهذه تربتها. هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه»([1]).

ومحلُّ الشاهد فيه: «وفي يده تربة حمراء يُقبِّلها».

وقد روى هذا الحديث بهذه الصيغة كلٌّ من:

1ـ الطبراني في المعجم الكبير؛ حيث جاء فيه: «تربة حمراء يُقبّلها»([2]).

2ـ الذهبي في تاريخ الإسلام؛ حيث جاء فيه: «وفي يده تربة حمراء وهو يُقبّلها»([3]).

ولعلّ هناك مصادر أُخرى روتها بهذه الصيغة، يجدها المتتبّع في مظانّها.

 وتقريب الاستدلال: إنَّ تقبيل النبي صلى الله عليه وآله لهذه التربة يُفهم منه عُرفاً فضل التربة وقداستها؛ إذ تقبيله صلى الله عليه وآله يدلُّ على رجحان التقبيل، ولا معنى له إلّا كونها مباركة ومقدّسة.

ولعلّ هذا المعنى بهذه القرينة العرفية واضح، ولكن المشكلة في أنّ هذه الرواية قد رُويت في كتب أُخرى بصيغة مغايرة، فقد رواها المقريزي في إمتاع الأسماع وغيره بصيغة «تربة حمراء يُقلّبها»([4]).

وعلى هذا الأساس؛ يحتمل كون كلمة (يُقبِّلها) تصحيفاً عن (يقلّبها)، وبهذا الاحتمال نفقد القرينة التي اعتمدناها لفهم التفضيل.

اللّهم إلّا أن يحصل الجزم بأنّ الوارد هو (يُقبِّلها) وأنّ كلمة (يُقلّبها) تصحيف عنها، ولو بقرينة كون الصيغة الأُولى واردة في المصادر الأكثر عدّة وضبطاً واعتباراً، ولكنّ الجزم بذلك شيءٌ غير ميسور.

ب) روى الهيثميّ في مجمع الزوائد عن مسند عليّ عليه السلام ، قال: «دخلت على النبيّ صلى الله عليه وآله ذات يوم، وعيناه تفيضان، قلت: يا نبيّ الله، أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل قبلُ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات، فقال: هل لك إلى أن أُشمّك من تربته؟ قلت: نعم. فمدّ يده فقبض قبضةً من تراب، فأعطانيها فلم أملك عينيَّ أن فاضتا». ثُمّ قال الهيثميّ: «رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات...»([5]).

ومن خلال التأمل في مفردات هذا الحديث، يتضح شدّة اهتمام جبرئيل عليه السلام  بتربة كربلاء؛ فإنّ إشمامها لرسول الله صلى الله عليه وآله وقَبْضها وإعطاءها له صلى الله عليه وآله يدلّ على ذلك بشكل واضح، ويُلاحظ أيضاً اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله بهذه التربة لمّا قبضها من يد جبرئيل عليه السلام ، ولم يملك نفسه عندما شاهدها أن فاضت عيناه دموعاً، وهذا يكشف عن وجود خصوصيّة لهذه التربة، وإلّا فما معنى هذا الاهتمام المتزايد بها؟! مع أنّ الكثير من الشخصيّات الإسلاميّة التي قُتلت أو ستُقتل ـ والنبيّ صلى الله عليه وآله يعلم بذلك يقيناً ـ لم يُعِر أيّة أهميّة للتربة التي قُتلوا عليها أو التي سيُقتلون عليها، ولم يُعِر كذلك جبرئيل لها أيّة أهميّة.

وممّا يؤكد هذه الخصوصيّة، الروايات الكثيرة الدالّة على اهتمامه صلى الله عليه وآله بهذه التربة، كما في قصة أُمّ سلمة لمّا أراها رسول الله صلى الله عليه وآله تربة كربلاء، وأعطاها إليها وجعلها وديعةً عندها؛ لتحتفظ بها([6]).

ومن خلال هذه الروايات؛ يمكن استفادة فضل تربة كربلاء وحرمتها، بعد دلالتها بشكلٍ واضح على وجود خصوصيّة لهذه التربة، ولا معنى لهذه الخصوصيّة سوى فضلها وحرمتها.

ويمكن تأييد فضلها وحرمتها بروايتين رواهما ابن أعثم الكوفيّ في كتابه الفتوح؛ حيث روى بأسانيد كثيرة عن ابن عباس، أنّه روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: «لقد رأيت حين هبط جبرئيل عليه السلام  في قبيل من الملائكة، قد نشروا أجنحتهم يبكون حزناً منهم على الحسين، وجبريل معه قبضة من تربة الحسين، تفوح مسكاً أذفر...»([7]).

وروى أيضاً عن كعب أنّه قال: «وأنَّ البقعة التي يُدفن فيها [أي: الحسين عليه السلام ] خير البقاع بعد ثلاث: مكّة، والمدينة، وبيت المقدس، وما من نبيّ إلّا وقد زارها وبكى عندها»([8]).

إذاً؛ من مجموع ما تقدّم من الروايات والقرائن، يحصل لدينا دليل إثباتي في مصادر العامّة، يفيد فضل تربة كربلاء وحرمتها، ولا بدّ من الإشارة إلى الخلاصة التالية:

1ـ من مجموع هذه الروايات يُفهم وجود خصوصيّة لتربة كربلاء.

2ـ لا معنى لهذه الخصوصيّة إلّا الفضيلة والقداسة والحرمة.

3ـ بعض هذه الروايات تامّة سنداً.    

ج)  ما نقله الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة عن العامّة، أنّهم قد رووا: «أنّ عيسى بن مريم عليه السلام  مرَّ بأرض كربلا، فرأى عدّة من الظباء هناك مجتمعة، فأقبلت إليه وهي تبكي، وأنّه جلس وجلس الحواريون؛ فبكى وبكى الحواريون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى، فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرضٍ هذه؟ قالوا: لا. قال: هذه أرضٌ يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي، ويُلحد فيها، هي أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرخ المُستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، وهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المُستشهَد المبارك، وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض. ثمّ ضرب بيده إلى بَعْر تلك الظباء فشمّها، فقال: اللّهمّ، أبقها أبداً حتى يشمّها أبوه؛ فيكون له عزاء وسلوة. وإنّها بقيت إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام  حتى شمّها وبكى، وأخبر بقصّتها لمّا مرّ بكربلاء»([9]).

ونقل هذا الخبر ابن حاتم العاملي في الدرّ النظيم مع إضافات؛ حيث قال: «وروى مشيخة المخالفين، عن شيخٍ لأصحاب الحديث بالري، يُعرف بأبي علي بن عبدويه، ويروون عن شيخٍ لهم بأصفهان يُعرف بأبي بكر بن مردويه، بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال: كنت مع علي بن أبي طالب عليه السلام  في خَرجته إلى صِفّين، فلمّا نزل نينوى، قال بأعلى صوته: يا بن عباس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت: ما أعرفه. قال: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال: فبكى طويلاً،حتى اخضلّت لحيته وسالت الدموع على صدره، وهو يقول: أُوه أُوه، مالي ولآل أبي سفيان، ومالي ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر، صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم، ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوء الصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يُصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأول، إلّا أنّه نعس عن انقضاء كلامه ساعة ثمّ انتبه، فقال: يا بن عباس. فقلت: ها أناذا يا أمير المؤمنين. قال: ألا أُحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي؟ قلت: نامت عيناك ورأيت خيراً. فقال: رأيت كأنّي برجال نزلوا من السماء معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض، فرأيتها تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخّي قد غرق فيه، يستغيث ولا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض الذين نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول؛ فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة إليك يا أبا عبد الله مشتاقة. ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِرْ؛ فقد أقرَّ الله عينك به يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين. ثمّ انتبهت هكذا، والذي نفسي بيده، لقد حدَّثني الصادق المصدّق أبو القاسم صلى الله عليه وآله، قال: وإنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كربٍ وبلاء، وستُذكر كما تُذكر بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس.

ثمّ قال: يا بن عباس، اطلب لي حولنا بَعْر الظباء، فوالله، ما كَذبت ولا كُذِّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران.

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال علي: صدق الله ورسوله. ثمّ قام يُهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال: هي هي بعينها يا بن عباس، تعلم ما هذه البعرات؟ هذه قد شمّها عيسى بن مريم عليه السلام . ثمّ قال علي عليه السلام : يا ربَّ عيسى بن مريم عليه السلام ، لا تُبارك في قتَلَتِه، والحامل عليه، والمُعين عليه، والخاذل له. ثمّ بكى طويلاً وبكينا معه، حتى سقط لوجهه مغشيّاً عليه، ثمّ أفاق فأخذ البعر وصرّه في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك.

ثمّ قال لي: إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً؛ فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتل بها ودُفن. وقال ابن عباس: لقد كنت أحفظها ولا أحلّها من طرف كمّي، فبينا أنا في البيت نائم وقد دخل عشر المحرَّم، إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً، فجلست وأنا باكٍ، وقلت: قُتل الحسين. وذلك عند الفجر، ورأيت المدينة كأنّها ضباب، ثمّ طلعت الشمس وكأنّها منكسفة، وكأنّ على الجدران دماً، فسمعت صوتاً يقول وأنا أبكي:

                       اصبروا آل الرسول                                قُتل الفرخ النجول

                       نـزل الروح الأمين                                 بـبـكـاءٍ وعــويل

ثمّ بكى وبكيت، ثمّ حدَّثت الذين كانوا مع الحسين عليه السلام ، قالوا: لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة، فكنّا نرى أنّه الخضر عليه السلام »([10]).

ويمكن أن يُستفاد من هذه الرواية فضل تربة كربلاء من خلال عبارتين، الأُولى موجودة في نقل الشيخ الصدوق، والثانية موجودة في نقل ابن حاتم.

أمّا التي في نقل الشيخ الصدوق، فهي قول عيسى عليه السلام  للحواريين: «هي [أيّ كربلاء] أطيب من المسك؛ لأنها طينة الفرخ المُستشهَد». فإنّ (أطيب) فيها دلالة واضحة على فضيلتها وقداستها، لاسيّما مع ملاحظة التعليل: «لأنّها طينة الفرخ المُستشهَد». فإنّه يُفيد ذلك.

بل توجد فيها قرينة أُخرى، وهو قوله: «وزعمت [أيّ الظباء] أنّها آمنة في هذه الأرض». والمكان الآمن لا بدّ وأن يكون مكاناً له حُرمة وكرامة أوجبت أن يكون آمناً.

بل يُستفاد من قوله عليه السلام : «وهكذا تكون طينة الأنبياء، وأولاد الأنبياء»؛ لأنّ الطينة التي تحتضن أجساد الأنبياء وأولادهم ـ ومنهم أهل البيت عليهم السلام  ـ طينة مباركة مفضّلة لها قداستها وحرمتها.

هذا كلّه بحسب نقل الشيخ الصدوق.

وأمّا في نقل ابن حاتم العاملي، فهي قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وستُذكر [أيّ أرض كربلاء] كما تُذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس». ومقصوده أنَّ المسلمين سيذكرون كربلاء ويقدّسونها ويعظّمونها، كما يذكرون ويقدّسون بقعة الحرمين، وبقعة بيت المقدس.

والحاصل: إذا تمّ النقلُ المذكور سنحصل على دليلٍ واضح، يُستفاد منه الأُمور التالية:

1ـ فضيلة أرض كربلاء وقداستها.

2ـ حُرمتها وعظمتها.

3ـ أنّها أرض آمنة.

4ـ فضيلة أرض الأنبياء وأبنائهم، أي: فضيلة الأرض التي دُفن فيها أئمة أهل البيت عليهم السلام ؛ لأنّهم من أولاد الأنبياء.

5 ـ أنّ المسلمين سيذكرون كربلاء ويعظّمونها ويجعلون لها حرمة، كما هو الحال بالنسبة لأرض الحرمين وبيت المقدس.

هذا، ولكنّنا لم نجد للرواية المذكورة أثراً في كتب العامّة، لا في جوامعهم الحديثيّة، ولا في كتبهم التاريخية، ولم أهتدِ إلى مصدر الرواية التي نقلها عنهم الشيخ الصدوق وابن حاتم، ولعلّهما سمعاها من مشايخهما سماعاً عن بعض المخالفين، ولم يأخذاها من كتاب معيّن، أو  لعلَّها مذكورة في كتاب لم نطّلع عليه.

وعلى كلّ حال، ما دمنا لم نعثر لهذه الرواية على مصدر في كتب العامّة، ولم نحصّل لها طريقاً وسنداً واضحاً؛ لا نستطيع أن نعتبرها من مروياتهم التي نحتجّ بها عليهم، لإثبات فضل تربة كربلاء.

هذا كلّ ما وجدناه مما يمكن أن يُستدلّ به على المقام من كتب العامّة، وقد اتّضح أنّ العمدة في ذلك هو الرواية الأُولى والثانية، إلّا أنّ الرواية الأُولى تتوقّف على كون كلمة (يُقبِّلها) هي الواردة وليست (يُقلّبها).

ولكن مع ذلك تبقى هذه الرواية دالّة على وجود خصوصيّة لتربة كربلاء، فتضاف حينئذٍ إلى الرواية الثانية مع شواهدها وقرائنها، فتقوّي دلالتها على المطلوب، وهكذا يمكن أن يُستفاد من الرواية الثالثة كمؤيد وليس دليلاً مستقلاً؛ للمشكلة السنديّة المتقدّمة، فيحصل من المجموع الاطمئنان بثبوت فضل تربة كربلاء في كتب العامّة، ممّا لا يدع مجالاً للشك.

القسم الثاني: فضل تربة كربلاء في كتب الخاصّة

طفحت كتب الحديث الشيعية برواياتها الكثيرة حول فضل تربة كربلاء وحرمتها، ولو أردنا أن نستوعب ذلك كلّه لاحتجنا إلى بحثٍ مستقلّ؛ ولخرجنا بذلك عن الهدف المرسوم لهذا البحث، ولكن سنكتفي بالإشارة إلى بعض العناوين التي تحدّثت عن فضل تربة كربلاء، وهي:

1ـ إنّها روضة من رياض الجنّة.

2ـ إنّها البقعة المباركة، والربوة ذات قرارٍ ومعين، والمكان الذي وُلد فيه عيسى بن مريم عليه السلام .

3ـ إنّها حرمٌ آمن؛ مَنْ استجار به أُجير.

4ـ أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة، وأنّها لَمِن بطحاء الجنّة.

5ـ يُستحبّ السجود عليها، واتّخاذ مسبحة منها.

6ـ يُستحبّ الاستشفاء بها([11]).

إلى غيرها من العناوين التي يجدها المتتبّع في مظانّها.

وينبغي الالتفات إلى أنّ ما ذكرناه هو مجرّد عناوين تندرج تحتها الكثير من الروايات، ومع هذه الكثرة لا حاجة إلى البحث عن سندها وطرقها؛ لأنّ الباحث بمجرّد أن يطّلع عليها يحصل له القطع بصدور بعضها، أو على الأقل يحصل له الاطمئنان بفضيلة تربة كربلاء وقداستها؛ وهو المطلوب.

تحرير محلّ البحث

بعد أن اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ كربلاء من البقاع المفضّلة والمقدّسة ـ ولا أقل في كتب الخاصّة وهذا هو المهمّ ـ ننتقل إلى البحث عن أفضل تلك البقاع على حسب ما يتوفّر لدينا من أدلّةٍ وشواهد، ولكن لا بُدَّ أولاً من تحرير محل البحث، فنقول:

إنّ التفضيل الذي نبحثه في هذه المناسبة لا يتناول أشخاص المعصومين عليهم السلام ، وقبورهم المشتملة على رفاتهم؛ لأنّ أجسادهم عليهم السلام ، والحفر التي تتضمنهم، والتراب الذي يلامس أجسادهم الطاهرة، مفضّلة على جميع البقاع وسائر الأماكن، ولا فرق في ذلك بين مكة وغيرها من البلدان؛ لما دلَّ على ذلك من الأحاديث الكثيرة المتضافرة، وإليك بعضاً منها:

1ـ ما ورد من أنّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة.

 فعن المفيد رحمه الله ، عن الحسن بن علي الزيتوني ومحمد بن أحمد بن أبي قتادة، عن أحمد بن هلال، عن الحسن بن محبوب، عن الحسن بن عطية، قال: «كان أبو عبد الله عليه السلام  واقفاً على الصفا، فقال له عباد البصري: حديثٌ يُروى عنك. قال: وما هو؟ قال: قلتَ: حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية. قال: قد  قلتُ ذلك، إنّ المؤمن لو قال لهذه الجبال: أقبلي. أقبلت. قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت، فقال لها: على رسلك؛ إنّي لم أُردك»([12]).

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله  في الخصال بطريقٍ صحيح، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: «المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة»([13]).

ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام  أنّه قال: «والله، ما عُبد الله بشيءٍ أفضل من أداء حقّ المؤمن. فقال: إنَّ المؤمن أفضل حقّاً من الكعبة...»([14]).

وهناك أحاديث أُخرى بهذا المضمون، وهي تُفيد أنّ حُرمة المؤمن وفضله أعظم حرمةً وفضلاً من الكعبة، وبالأولويّة يثبت ذلك لأجساد المعصومين ورفاتهم عليهم السلام .

 وقد أجمع المسلمون ـ خاصّة وعامّة ـ على أنّ حرمة المؤمن بعد وفاته كما هي في حياته([15])؛ وحينئذٍ لا فرق في حُرمة المؤمن ـ وبالأولويّة المعصوم ـ بين حياته ووفاته.

2ـ جاء في بعض الروايات أنّ الأئمة عليهم السلام  خُلقوا من عشر طينات: خمسة من الجنّة، وخمسة من الأرض.

فأمّا التي من الجنّة، فهي: جنّة عدن، وجنّة المأوى، وجنّة النعيم، وجنّة الفردوس، وجنّة الخُلد.

وأمّا التي من الأرض، فهي: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر.

 ومن الواضح أنّ المخلوق من مجموع هذه الطينات أفضل من طينة كلّ واحدةٍ منها.

والرواية هي ما رواه الكليني بسنده، عن علي بن رئاب، مرفوعاً إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ لله نهراً دونَ عرشه، ودون النهر الذي دون عرشه نور نوَّره، وإنَّ في حافَّتي النهر روحَين مخلوقَين: روح القُدُس، وروحٌ من أمره، وإنّ لله عشرَ طيناتٍ: خمسةً من الجنة، وخمسةً من الأرض، ففسّر الجنات وفسّر الأرض، ثمّ قال: ما من نبيٍّ ولا مَلَك من بعده جَبَلهُ إلّا نُفخ فيه من إحدى الروحين، وجعل النبي صلى الله عليه وآله من إحدى الطينتين. قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام : ما الَجَبْلُ؟ فقال: الخلقُ غيرنا أهل البيت؛ فإنّ الله } خلقنا من العشر طيناتٍ، ونفخ فينا من الروحين جميعاً، فأطيب بها طيباً. وروى غيرُهُ عن أبي الصامتِ، قال: طينُ الجنان: جنة عدنٍ، وجنّة المأوى، وجنّة النعيم، والفردوس، والخُلد. وطين الأرضِ: مكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، والحائر»([16]).

3ـ ورد في عدّة روايات أنّ النبي والأئمة عليهم السلام  هم أفضل الخلق أجمعين.

من ذلك ما رُوي في حديثٍ طويل: «أنّ الله سبحانه وتعالى أمر آدم عليه السلام  أن يرفع رأسه وينظر إلى ساق العرش، فلمّا رفع رأسه ونظر إلى ساق العرش وجد عليه مكتوباً: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته سيّدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. فقال آدم: يا ربّ، مَن هؤلاء؟ فقال }: هؤلاء من ذرّيتك، وهم خيرٌ منك ومن جميع خلقي، لولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنّة والنار، ولا السماء والأرض، فإيّاك أن تنظر لهم بعين الحسد. فتسلَّطَ الشيطان عليهما حتى أكلا من الشجرة، فأخرجهما الله من جنّته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض»([17]).

وهناك روايات أُخر بنفس المضمون أو يقرب منه تركتُ التعرّض لها خوف الإطالة، فمَن أرادها فليطلبها في مظانّها([18]).

ويُستفاد من هذه الروايات وأمثالها؛ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام عليهم السلام  هم أفضل الخلق، بما في ذلك البقاع والبلدان، كمكة، والمدينة، والكوفة، وبيت المقدس، وعرفة، وسائر البقاع المقدّسة.

مناقشة مدفوعة

قد يُناقش في هذا الاستدلال بأنّ المستفاد من هذه الرواية: أنّ النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام  أفضل الخلق بالقياس للآدميين، فلا تشمل مثل البقاع والأماكن.

ولكنّها مدفوعة بملاحظة الفقرة القائلة: «ولولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنّة والنار، ولا السماء والأرض». فإنّها تكفي لإثبات المطلوب.

والحاصل: من مجموع هذه الروايات يحصل للباحث الاطمئنان بأنّهم عليهم السلام  أفضل الخلق بما في ذلك البقاع، على الرغم من ضعف بعض أسانيد الروايات المتقدّمة؛ فإنّ ذلك لا يضرّ بعد كثرتها وتعدّدها، يُضاف إليه الاتّفاق الحاصل بين العامّة والخاصّة على تفضيل موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله على سائر البقاع، بما في ذلك مكة والمدينة.

كلام الأعلام

أمّا العامّة، فقد نقل القاضي عياض الإجماع على أنّ موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله أفضل البقاع([19]).

وأمّا الخاصّة، فقد ذكر الشهيد في الدروس: «مكة أفضل بقاع الأرض ما عدا موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وآله»([20]). وهذه العبارة تُوحي بالاتّفاق على تقدُّم موضع قبره صلى الله عليه وآله على سائر البقاع.

وأمّا قبور الأئمة عليهم السلام ، فلم أجد ـ حسب تتبّعي ـ تصريحاً واضحاً في تقدّمها على سائر البقاع، سوى عبارتين لعلمين من أعلامنا:

الأُولى: للشهيد في الدروس؛ حيث قال: «والأقرب أنّ مواضع قبور الأئمة عليهم السلام  كذلك»([21]). أي: أفضل من مكة وسائر البقاع.

الثانية: ما ذكره السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي، محقّق كتاب عوالي اللئالي؛ حيث ذكر في هامش التحقيق ما نصّه: «ولا ينبغي الشك في أفضليّة مواضع قبورهم عليهم السلام  على أرض البيت الحرام»([22]).

هذا ما عثرتُ عليه من كلمات الأعلام، وقد اتّضح منها الأُمور الآتية:

1 ـ نقل القاضي عياض من العامّة الإجماع على تفضيل موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله على سائر البقاع.

2 ـ عبارة الشهيد الأول من علمائنا توحي باتّفاق الإماميّة على تفضيل موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله على سائر البقاع.

3 ـ ما قرأناه من عبارة الشهيد الأول والمحقّق المرعشي، المتقدّمين ـ وهما كلّ ما وجدته في كلمات أعلامنا ـ حيث يتّضح منهما تفضيل قبور الأئمة عليهم السلام  على سائر البقاع.

4 ـ بعد الاطّلاع على الروايات المتقدِّمة بطوائفها المختلفة؛ يحصل الاطمئنان بتفضيل النبي والأئمة عليهم السلام  بذواتهم المقدَّسة على سائر البقاع.

ولهذا؛ ينبغي أن يقع الكلام فيما عدا قبورهم عليهم السلام  المتضمِّنة لأجسادهم الطاهرة، فيكون البحث في التفضيل فيما زاد على القبر الشريف بينه وبين سائر البقاع، فمثلاً: هل الحائر الحسيني أو كربلاء أفضل من الكعبة والمسجد الحرام وسائر مكة المكرمة أو الأمر بالعكس؟

والأمر الآخر الذي ينبغي تحريره هو: ما المراد من التفضيل المبحوث عنه؟ فهل المراد منه أنّ العامل في تلك البقعة أكثر ثواباً من العامل في سائر البقاع؟ فيكون مرجع التفضيل إلى العامل لا إلى نفس البقعة، أو أنّ المراد منه ما هو الأعم من ذلك، فلا يكون التفضيل حينئذ راجعاً إلى خصوص العامل، بل يرجع أيضاً إلى البقعة نفسها، وإنّها بذاتها أفضل من غيرها؟

ولم أعثر ـ حسب تتبّعي ـ على مَن تعرّض لهذا الموضوع سوى بعض العامّة وبشكل مختصر، على أنّ بعض كلمات الأعلام قد يُستفاد منها منشأ التفضيل من خلال التعليل، كما سيتّضح ذلك لاحقاً.

 معنى التفضيل

التفضيل مشتقّ من (فضل)، وهذه الكلمة تأتي هي أو أحد مشتقاتها بالمعاني التالية:

1 ـ الفضل والفضيلة: يأتيان ضد النقص والنقيصة.

2 ـ الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل.

3 ـ التفاضل: التمايز في الفضل.

4 ـ التفاضل بين القوم: أن يكون بعضهم أفضل من بعض.

5 ـ رجل فاضل: ذو فضل.

6 ـ الإفضال: الإحسان.

7 ـ التفضُّل: التطوُّل على الغير.

8 ـ الفَضْل والفَضْلة: البقيّة من الشيء.

9 ـ الفَضيلة والفُضَالة: ما فضل من الشيء.

10ـ الفَضْلة: الثياب التي تُبتَذل للنوم؛ لأنّها فضُلَت عن ثياب التصرّف.

11ـ التفضُّل: التوشُّح، وأن يخالف اللابس بين أطراف ثوب على عاتقه([23]).

هذا أهمّ ما ذكره اللغويون في معنى (الفضل) ومشتقاته، واتّضح منه ما يأتي:

لعلّ النافع في مقامنا من هذه المعاني هو المعنى الأول والثاني، أي: بمعنى الكمال الذي هو ضدّ النقص، وبمعنى الدرجة الرفيعة، ومعه تكون الأفضلية بمعنى الأكملية، والأرفع درجة.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ الأكملية والأرفع درجة راجعان إلى العامل في هذه البقعة، فالذي يعمل في هذه البقعة يكون عمله أكمل وأرفع درجة من العامل في غيرها من البقاع، وهذا المعنى يناسب القول: بأنّ مرجع الأفضلية إلى ثواب العامل فيها.

وعلى كلّ حال، فمرجع الأفضلية في المقام يُحتمل فيه أحد المعاني التالية:

الأول: إنّ مرجع الأفضلية إلى كثرة الثواب الراجع إلى العامل في هذه البقعة دون غيرها، فالذي يتعبّد في مكة مثلاً، أكثر ثواباً وأجراً من المتعبِّد في المدينة أو الكوفة وغيرهما؛ وبهذا صارت هذه البقعة أفضل من غيرها.

وقد ذهب إلى هذا القول الآبي الأزهري من العامّة في كتابه (الثمر الداني)؛ حيث أفاد ـ عند تعرّضه للخلاف الواقع بين العامّة في أفضيلة مكة أو المدينة ـ أنّ المراد من التفضيل: «أنّ ثواب العمل في إحداهما أكثر من ثواب العمل في الأُخرى»([24]).

ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى كلّ مَنْ استدلّ على تفضيل مكة، بما روي من مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام، وأنّها بعشرة آلاف صلاة، فإنّ الاستدلال بهذه الروايات يكشف عن كون المدار في مسألة التفضيل على زيادة الثواب ومضاعفة الأجر.

وممَّن استدلّ على أفضلية مكة من المدينة ـ بما دلّ على مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام ـ من الخاصّة: الشيخ الطوسي؛ حيث قال مستدلاً على أفضلية مكة بما نصّه: «دليلنا: إجماع الفرقة، فإنّهم رووا أنّ صلاةً في المسجد الحرام بعشرة آلاف صلاة، وصلاةً في مسجد النبي صلى الله عليه وآله بألف صلاة؛ فدلّ ذلك على أنّ مكة أفضل»([25]).

وقد أشكل بعض العامّة على هذا القول، بأنّ سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل يكون لغيره، كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود([26]).

وما يمكن أن يُستدلّ به لهذا الاحتمال هو الروايات الدالّة على أفضلية الصلاة في المسجد الحرام، وأنّها مضاعفة، والروايات في ذلك كثيرة، فمنها:

1 ـ ما رواه الشيخ الصدوق قدس سره في ثواب الأعمال بسنده: «عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا، عن آبائه عليهم السلام  قال: قال الباقر عليه السلام : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره من المساجد»([27]).

2 ـ وروى الصدوق قدس سره أيضاً بسنده: «عن مسعدة بن صدقة، عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : صلاة مسجدي هذا تعدل عند الله عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلّا المسجد الحرام؛ فإنَّ الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة»([28]). إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة.

وقد استدلّ بهذه الروايات ونحوها كلّ مَنْ ذهب إلى الأفضلية بمعنى الأكثر ثواباً، والأعظم أجراً.

ولكن الاستدلال المذكور على المدّعى لا يخلو من مناقشات، وهي:

1 ـ إنّ الاستدلال بهذه الروايات أخصّ من المدّعى؛ لأنّ المُستدلّ يدّعي ثبوت الأفضلية لتمام البلد، لا لخصوص المسجد الحرام، ومن الواضح أنّ إثبات الأفضلية ـ بمعنى كثرة الثواب للعامل ـ لتمام البلد بعيد؛ إذ الروايات المذكورة لا تفيد سوى زيادة الثواب للعامل في نفس المسجد الحرام، أمّا ثبوت الزيادة أيضاً للعامل في بقية بقاع البلدة، فلا يُستفاد منها ذلك.

2 ـ الذي استدلّ على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب بهذه الروايات استدلّ أيضاً برواية أُخرى، وهي:

ما روي عن ابن عباس وغيره أنّ النبي صلى الله عليه وآله لمّا خرج من مكة التفت إليها وقال: «أنتِ أحبُّ البلاد إلى الله تعالى، وأنتِ أحب البلاد إليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منكِ ما خرجت»([29]).

وأنت تلاحظ أنّ ذكر هذا الحديث في معرض الاستدلال على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب في غير محله، اللهم إلّا أن يُراد الاستدلال به على الأفضلية بشكل عامّ؛ فيكون ذكره وجيهاً، ولكنّه يصلح ـ حينئذٍ ـ كقرينة على كون الأفضلية أعمّ من كثرة الثواب، كما هو واضح من سياق الحديث.

الثاني: إنّ الأفضلية راجعة إلى كون المكان أكثر مظنةً لاستجابة الدعاء، والتقرّب إلى الله تعالى، فالبقعة الأفضل هي التي يُستجاب فيها الدعاء أكثر من أيّ بقعةٍ أُخرى.

ويمكن الاستدلال لهذا الاحتمال بما يلي:

1 ـ ما روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام  أنّه قال ـ في الوقوف بعرفة ـ: «ما يقف على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب الله له، فأمّا البرّ، فيُستجاب له في آخرته ودنياه، وأمّا الفاجر، فيُستجاب له في دنياه»([30]).

2 ـ عن أبي هاشم الجعفري، قال: «بعث إليّ أبو الحسن عليه السلام  في مرضه، وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، فأخبرني محمد ما زال يقول: ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير. فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير؟ ثمّ دخلتُ عليه وقلتُ له: جُعلت فداك! أنا أذهب إلى الحير. فقال: انظروا في ذلك ـ إلى أن قال :ـ  فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع الحير؟ هو الحير، فقدمت العسكر، فدخلت عليه، فقال لي: اجلس. حين أردت القيام، فلما رأيته أنِسَ بي ذكرتُ له قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلتَ له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يطوف بالبيت، ويُقبِّل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله } أن يقف بعرفة، وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها، فأنا أُحبُّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها»([31]).

وهناك أحاديث أُخرى يُستفاد منها أنّ هناك بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء ـ وهي تتفاوت في ذلك ـ يجدها المتتبِّع في مظانها.

وهذه الأحاديث ـ كما تلاحظ ـ تُفيد أنّ هناك بقاعاً يُستجاب فيها الدعاء، وأنّ الله سبحانه يُحبّ أنّ يُدعى فيها، كما دلّ على ذلك صريحاً الحديثُ الثاني، بينما يدلّ الحديث الأول على أنّ الدعاء يوم عرفة فيها يُستجاب حتماً من البرّ والفاجر.

إذاً؛ يمكن أن يكون مرجع التفاضل بين البقاع إلى هذه النكتة، وهي كون البقعة أكثر مظنةً لاستجابة الدعاء.

ولكن هذا الاستدلال لا يتعدّى الاحتمال؛ إذ أقصى ما يفيد احتمال كون النكتة هي ذلك، ولا يُستفاد منه الجزم بأنّ المدار على مظنّة استجابة الدعاء.

نعم، هو ينفع في تعميم نكتة الأفضلية، وعدم اختصاصها بكثرة الثواب، كما هو مقتضى الاحتمال الأول.

الثالث: أن تكون الأفضلية راجعة إلى اشتمال البقعة على الأنفس المقدّسة والأجساد المطهّرة، كالمدينة؛ حيث أنّها تضمّنت أطهر الأنفس وأشرفها، وهو النبي صلى الله عليه وآله، فيكون التفاضل بين البقاع سببه اشتمال البقعة على مزايا توجب تفضيلها.

وهذا الاحتمال قد يُستفاد من بعض كلمات العامّة؛ فقد ذكر أبو البركات في الشرح الكبير ما نصّه: «والمدينة المنورة بأنوار أفضل الخلق، أفضلُ عندنا من مكة ـ وهو قول أهل المدينة ـ ثمّ مكة، فبيت المقدس...»([32]).

وهذا الاحتمال يفتقر إلى الدليل وهو مفقود، لا سيما بعد ملاحظة ما ذكرناه سابقاً عند تحرير محل الكلام، من أنَّ أجساد المعصومين عليهم السلام  وموضع قبورهم خارج عن محل البحث؛ لأنّ الكلام في أفضليّة ما يزيد على موضع قبورهم، ومن المعلوم أنّ أفضليّة ما يزيد على موضع القبر لا يُعلم استناده إلى أجسادهم عليهم السلام  فقط، فقد تكون الأفضلية مستندة إلى أسبابٍ أُخرى.

ويمكن أن يُؤيد هذا المعنى بما رُوي من أنّ النبي صلى الله عليه وآله إنّما قُبض في أطهر البقاع([33])؛ إذ يُستفاد منه أنّ البقعة التي قُبض فيها هي أطهر البقاع وأفضلها، بقطع النظر عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.

نعم، النبي صلى الله عليه وآله قد زادها شرفاً وفضلاً، وهذا يعني أنّ الأفضلية لا تستند إلى دفنه صلى الله عليه وآله فيها حصراً، بل لعلّ هناك أسباباً أُخرى أوجبت أشرفيتها وأفضليتها.

هذه احتمالات ثلاثة في معنى الأفضلية المبحوث عنها في المقام، ولعلّ المتأمِّل يجد احتمالاتٍ أُخر قد يُستفاد منها تفسيرات أُخر، ولكن المهم عندنا ـ  بعد عرض هذه الاحتمالات ـ ملاحظة ما يقتضيه التحقيق والنظر، من خلال متابعة الأدلّة والبراهين، وجمع القرائن والشواهد.

التحقيق في المقام

اتّضح من خلال عرض الاحتمالات المتقدِّمة ـ مع ما يمكن أن يُستدلّ به لها من روايات وشواهد وغيرها ـ أنّ المناسب تفسير الأفضلية بمعنى وسيع، وإرجاعها إلى ما يشمل الاحتمالات المتقدِّمة جميعاً، وكلّ ما يمكن أن يُذكر من احتمال آخر غيرها. فيُقال: إن المُراد من الأفضلية الأشرفيّة والأطهريّة، والأعظم حرمةً، والأكثر ثواباً، والأكثر استجابةً للدعاء، إلى غيرها من الاحتمالات والمعاني.

ويمكن أن يُستدلّ لذلك بما يلي:

1 ـ عدم الدليل على التضييق؛ إذ ما يمكن ان يُستدلّ به على تضييق دائرة الأفضلية بأحد الاحتمالات المتقدِّمة تبيَّن عدم تماميّته، وحيث إنّ لفظة الأفضلية ذات معنًى وسيع؛ فحينئذ تبقى على عمومها وسعتها.

2 ـ إنّ مراجعة الروايات الدالّة على الأفضليّة نجدها تستعمل ألفاظاً أُخرى غير لفظ (الأفضل) للدلالة على تمييز البقعة وتفضيلها، من قبيل الألفاظ التالية:

(أطيب البقاع)، و(أطهر البقاع)، و(أعظمها حرمة)، و(أحبّها إلى الله تعالى)، إلى غيرها من الألفاظ التي ستطّلع عليها عند استعراض روايات التفضيل.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير ذات معان وسيعة وعامّة.

3 ـ جاء في بعض الأحاديث: «أنّ الحطيم الذي هو ما بين الركن والمقام وباب الكعبة، هو أفضل البقاع حرمةً وأعظمها منزلةً، وهو روضةٌ من رياض الجنة»([34]). وهو يدلّ بشكل واضح على كون المدار في الأفضلية على (الحرمة) و(المنزلة)، وهذا يعني أنّ البقاع تتفاضل في الحرمة، فكلّما كانت أكثر حرمة كلّما كانت أكثر فضلاً من غيرها، وأعظم منزلة عمّا سواها.

وإذا تمّت هذه الرواية من حيث السند ـ ولم نضمّ إليها التعابير الأُخرى الواردة في بقية الروايات ـ يمكن أن يستدلّ بها على كون المراد من الأفضلية هو الأكثر حرمة، ولكن بعد ضمّها إلى تلك الروايات يكون معنى الأفضليّة شيئاً وسيعاً، فالبقعة الأفضل هي البقعة الأطهر والأطيب، والأعظم حرمةً، والأكثر محبوبيّةً لله تعالى ـ ونحو ذلك من المعاني، ومن الطبيعي أنّ البقعة التي هذا حالها تلازم ما ذُكر من احتمالات متقدِّمة، أي: يلزم أن تكون أكثر مظنّة لاستجابة الدعاء، والعمل فيها أكثر ثواباً من غيرها، وغير ذلك من اللوازم.

وقبل ختام القسم الأول من البحث نودُّ أن نلخّص أهمّ النتائج التي حصلنا عليها لحدّ الآن؛ وهي كالتالي:

1 ـ لا إشكال في فضيلة تربة كربلاء وحرمتها، سواءٌ في كتب العامّة أو كتب الخاصّة، وقد تقدّم تقريب الاستدلال على ذلك، وعرض الروايات والأدلّة ومناقشتها من الناحية السنديّة والدلاليّة.

2 ـ إنّ التفضيل المبحوث عنه لا يتناول أجساد المعصومين عليهم السلام  والقبور التي تضمَّنتهم، وإنّما يتناول ما يزيد على قبورهم من البقاع والأماكن.

3 ـ اتّضح من خلال الأدلّة أنّ أجسادهم عليهم السلام  وقبورهم هي أفضل البقاع على الإطلاق.

4 ـ إنّ المراد من التفضيل معنى أوسع ممّا ذكره البعض، أو ربما يُحتمل من خلال بعض الأدلّة، فإنّ المراد منه الأشرفية والأطهرية، والأعظم حرمة، والأكثر محبوبية لله تعالى.

5 ـ إنّ ما ذُكر من تفسير الأفضلية بكثرة الثواب، أو نحو ذلك من التفاسير الضيّقة إنّما هو لازم من لوازم الأفضلية، وأثر من آثارها وليس هو نفسها.

هذا أهمّ ما أردنا بيانه في القسم الأول من البحث، وسنتحدَّث في القسم الثاني ـ إن شاء الله تعالى ـ عن نقطتين مهمّتين بهما يتمّ البحث وهما:

النقطة الأُولى: بيان البقاع المفضّلة التي تدخل في الحساب.

النقطة الثانية: عرض الأدلّة والبراهين الدالّة على الأفضلية، ومناقشتها وتمحيصها، واستحصال النتيجة النهائية منها.

 

 الكاتب: الشيخ إسكندر الجعفري

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الرابع

 مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

__________________________________

[1]     الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج4، ص398.

[2]     الطبراني، المعجم الكبير: ج23، ص308.

[3]     الذهبي، تاريخ الإسلام: ج5، ص103.

[4]     المقريزي، إمتاع الأسماع: ج12، ص239.

[5]     الهيثميّ، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص187.

[6]     اُنظر: المصدر السابق: ج9، ص189.

[7]     الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج4، ص323.

[8]     اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص327.

[9]     الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة: ص531 ـ ص532.

[10]    العاملي، يوسف ابن حاتم، الدرّ النظيم: ص538ـ540.

[11]    اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: الباب13 فضل الفرات والشرب من مائه، والباب88 فضل كربلاء، والباب89. اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، الباب10 فضل الكوفة، والباب22 حدّ حرم الحسين عليه السلام  وفضل كربلاء. اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص513، الباب68 أبواب المزار وما يُناسبه، إلى غيرها من المصادر الكثيرة.

[12]    المفيد، محمد بن محمد، الاختصاص: ص325.

[13]    الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص27.

[14]    البروجردي، السيّد حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج16، ص149.

[15]    اُنظر: المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير: ج4، ص720. والعيني، محمود بن أحمد، عمدة القاري: ج20، ص69. وغيرهما.

[16]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص389.

[17]    الحلّي، حسن بن سليمان، المحتضر: ص269.

[18]    أفرد بعض العلماء باباً خاصاً لاستعراض الروايات الدالّة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام  هم أفضل الخلق، اُنظر: البحراني، هاشم، حلية الأبرار: ج2، ص8، فقد ذكر عدّة أحاديث في الباب(45) تحت عنوان (إنّ أمير المؤمنين عليه السلام  وبنيه الأئمة عليهم السلام ، أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله).

[19]    اُنظر: النووي، محي الدين، المجموع: ج8، ص476. الحطّاب الرعيني، محمد بن محمد، مواهب الجليل: ج4، ص533. وغيرها.

[20]    الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس: ج1، ص470، الدرس (118).

[21]    المصدر السابق.

[22]    الإحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي: ج1، ص430.

[23]    اُنظر: ابن منظور، لسان العرب: ج11، ص224. مادة (فضل).

[24]    الآبي الأزهري، الثمر الداني: ص659.

[25]    الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج2، ص451.

[26]    اُنظر: ابن حجر، فتح الباري: ج3، ص55.

[27]    الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج5، ص271.

[28]    المصدر السابق: ج5، ص271.

[29]    البهوتي، كشف القناع: ج2، ص548. الينابيع الفقهية: ج30، ص161. نقلاً عن: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج1، ص360.

[30]    الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج13، ص545.

[31]    المصدر السابق: ج14، ص537.

[32]    أبو البركات، الشرح الكبير: ج2، ص173.

[33]    اُنظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب: ج1، ص206.

[34]    النمازي، علي، مستدرك سفينة البحار: ج2، ص199.