الإصلاح الحسيني والعدالة المهدوية - ج1

مقدّمة

إنّ لثورة الإمام الحسين عليه السلام أهدافاً كثيرةً وعميقةً، جميعها حري بالبحث والتنقيب والتدقيق، ونحن نُريد أن نُسلّط الضوء على أحد أهم أهداف تلك الثورة المباركة، والذي كان شعاراً لها، وهو: الإصلاح، وهذا ما صرَّح به الإمام الحسين عليه السلام في وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية: «إِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصلاح في أُمَّةِ جَدّي»، وهو إصلاح لا يقتصر على جنبة معيّنة، بل هو شامل لجميع الانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكية. ونحن لا نُريد الخوض في جميع أبعاد الإصلاح الحسيني، وإنّما هدفنا ـ من هذه المقالة ـ معرفة أصل الإصلاح ومدى ارتباطه بالعدالة المهدوية المنتظرة، وذلك من خلال الوقوف والتأمّل في وصيته عليه السلام قبل خروجه من المدينة متوجّهاً إلى مكّة.

 

نص الوصيّة

دعا الإمام الحسين عليه السلام ـ قُبيل خروجه من المدينة إلى مكة ـ بدواة وبياض، وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمّد بن الحنفية:

«بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، هذا ما أَوْصى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبي طالِب إِلى أَخيهِ مُحَمَّد المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفيَّةِ: أَنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلّا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جاءَ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِ الحَقِّ، وَأَنَّ الجَنَّةَ وَالنّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ، وَأَنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصلاح في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِب عليهما السلام، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقِّ فَالله أَوْلى بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ حَتّى يَقْضِيَ الله بَيْني وَبَيْنَ القَومِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمينَ، وَهذِهِ وَصِيَّتي يا أَخي إِلَيْكَ، وَما تَوْفيقي إلّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنيبُ».

 

مصادر الوصيّة

إنّ أقدم الكتب التي نقلت هذه الوصية، هي عبارة عن:

1ـ كتاب الفتوح للعلّامة المؤرّخ أبي محمّد أحمد بن أعثم أكتم الكوفي الشافعي المتوفّى في حدود سنة 314ﻫ/926م[1]، وقد قيل فيه: إنّه شيعي، أو متأثر بمذهب أهل البيت عليهم السلام؛ ولذا عدَّه بعض أهل الحديث ضعيفاً! وقال صاحب مجالس المؤمنين: إنّه من ثقات المتقدّمين أرباب السير[2].

2ـ كتاب مقتل الحسين عليه السلام للحافظ أبي المؤيَّد الموفَّق محمد بن أحمد المكّي الخوارزمي المتوفّى سنة 568ﻫ[3].

 وقد نقل عن الخوارزمي علماء الخاصّة والعامّة، وأكثروا من تخريج أحاديثه في كتبهم، فمن الخاصة: العلاّمة الحلي، والسيد ابن طاووس، وابن شهر آشوب، والإربلي، وغيرهم. ومن العامّة: السيوطي في البُلْغة، والگنجي الشافعي في كفاية الطالب، واليماني الصَّنعاني في الرَّوض الباسم، والزرَندي الحنفي في نَظْم دُرَر السمطين، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة، والسّمهودي في جواهر العِقدين، وغيرهم. ونُقِل له عن القِفْطي والصّفَدي مديحاً وإعجاباً به[4].

يُعدّ الخوارزميّ مؤرِّخاً وراوياً في الوقت نفسه، وقد امتاز بعدم تعصّبه ضدّ التشيّع[5].

نعم، ربّما عُدَّ من المتساهلين في أسانيده، إلّا أنّ التحقيق أثبت خلاف ذلك؛ لأنّه ـ ومِن أجل إكمال سَير الحوادث والوقائع ـ روى كثيراً من المراسيل، ولكن مع ذلك فهي مراسيل يعضدها الاعتبار نوعاً ما[6].

وهذا لا يعني جواز الأخذ بكلّ ما رواه الخوارزمي، بل لا بدّ من النظر في القرائن التي تساعد على صحّة ما روى.

3ـ كتاب مناقب آل أبي طالب للشيخ محمّد بن علي بن شهر آشوب المتوفّى 588ﻫ/1192م[7]، وهو غنيّ عن التعريف عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ولا يُطعَن فيه أو يُخدش في فضله.

كذلك نقل العديد من أساطين العلماء هذه الوصية[8].

 

اعتبار الوصية

هناك مجموعة من الشواهد تدلّ على صحّة الوصية، منها:

1ـ قد نقلها علماء الفريقين على اختلاف توجّهاتهم الفكرية والفقهية.

2ـ موافقتها لعمومات المذهب الإمامي وأهداف كربلاء.

3ـ إنّ مَن ذكرها من أعلام الطائفة لم يناقش في سندها. إلى غير ذلك من الشواهد التي تُثبِت اعتبار هذه الوصية.

وعلى كلّ حال، فقد اكتفينا بهذا المقدار؛ لما فيه الكفاية للحصول على الاطمئنان بصدور هذه الوصية عن الإمام عليه السلام.

 

إشكال على صحّة صدور الوصية

 ربما يقال: إنّ محمد بن الحنفية لم يخرج مع الإمام الحسين عليه السلام؛ وهذا يعني أنّه لم يكن معه على وفاق، وإذا كان كذلك فمن المستبعد جدّاً أن يوصي الإمام الحسين عليه السلام إليه.

جواب الإشكال

لكي يتّضح الجواب عن هذا الإشكال، وبيان ما دار بين محمّد بن الحنفية وبين الإمام الحسين عليه السلام حين كتابة هذه الوصية، لا بدّ من الوقوف قليلاً للتعرّف على سيرة محمّد بن الحنفية بشكل مختصر:

المشهور عند الإمامية أنّ محمّد بن الحنفية كان أحد رجال الدهر في العلم والزهد والعبادة والشجاعة وهو من أفضل وُلْد الإمام علي عليه السلام بعد الحسن والحسين عليهما السلام، وكان الولد المطيع لأمر والده وفي خدمته.

ولُقِّب بابن الحنفية، إمّا لأنّ أُمّه خولة الحنفية كانت من بني حنيفة، فغلبت عليه هذه النسبة، وإمّا تمييزاً له عن أخويه الحسن والحسين عليهما السلام، وإمّا لدفع شبهة فرقة الكَيْسانية[9]، فقد ادّعوا المهدوية والغيبة لابن الحنفية وأنّه هو المهديّ الموعود، سيّما وأنّ اسمه محمّد وكنيته أبو القاسم على ما سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله؛ ولذا كان تأكيدهم عليهم السلام ـ خصوصاً لدى الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام الذي اقترن زمانهما بتلك الدعوى ـ على هذا اللقب من أجل دفع هذه الشبهة؛ لأنّ المهدي عليه السلام من ولد فاطمة عليها السلام، كما هو الثابت في الروايات المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام.

وبما يتعلّق بمكانته عند رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، نكتفي بما رُوي في البحار: أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: «سيُولَد لك وَلدٌ سمّه باسمي، وكنّه بكنيتي». فلمّا وُلِد لعلي ولده هذا من خولة الحنفية سمّاه باسم النبيّ صلى الله عليه وآله، وكنّاه بكنيته[10].

وقبل رحيل أمير المؤمنين عليه السلام، أوصاه وصيّة خاصّة بأخويه الحسن والحسين عليهما السلام، فقال له: «...أُوصيك بتوقير أخَوَيك؛ لعِظَم حقّهما عليك، فلا تُوثِقْ أمراً دونَهما». وفي المقابل أوصى عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بأخيهما محمّد بن الحنفية، فقال لهما: «أُوصيكما به؛ فإنّه أخوكما وابن أبيكما، وقد كان أبوكما يُحبّه»[11].

وبقي ابن الحنفية على ارتباطٍ ولائي واعتقادي بإمامه أبي عبد الله الحسين عليه السلام حتى استشهاده. وكان معتقداً ـ أيضاً ـ بإمامة ابن أخيه الإمام علي بن الحسين عليه السلام[12]، فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: «ما مات محمّد بن الحنفية حتى آمَنَ بعلي بن الحسين عليهما السلام»[13].

 

سبب عدم خروج ابن الحنفية مع الحسين عليه السلام

وأمّا سبب عدم خروج ابن الحنفية مع الإمام الحسين عليه السلام فقد ذُكرت فيه عدّة وجوه:

الأوّل: إنّ الحسين عليه السلام أمره بالبقاء في المدينة؛ لأجل ائتمانه على مصالحه عليه السلام ومصالح مَن بقي من بني هاشم، حتى لا يتجرّأ عامل المدينة ـ الوليد بن عتبة ـ على أذاهم، حياءً منه أو خوفاً من خروجه عليه. قال الحسين عليه السلام: «وأمّا أنت يا أخي فلا عليك بأن تُقيم بالمدينة فتكون لي عيناً، لا تُخفي عنّي شيئاً من أُمورهم»[14].

 الثاني: أنّه أصابته عين، فخرج بيده خرّاج وعطّل يده عن المقارعة بالسيوف، فكان هذا عُذره في ترك المسير مع أخيه الحسين، وترك تكليفه في الخروج معه إلى العراق، فقد رُوي قوله لأخيه الحسين عليه السلام: «إنّي ـ والله ـ لَيَحزُنُني فراقُك، وما أقعَدَني عن المسير معك إلّا لأجل ما أجِده من المرض الشديد... فو الله ـ يا أخي ـ ما أقدر أن أقبضَ على قائم سيف، ولا كعب رمح، فوالله، لا فَرِحتُ بعدك أبداً!»، ثمّ بكى بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليه، فلمّا أفاق من غشيته، قال: «يا أخي، أستَودِعُك الله مِن شهيدٍ مظلوم»[15].

 الثالث: أَمَرَه الإمام الحسين عليه السلام بالبقاء من أجل التغطية الإعلامية لإبراز أهداف الثورة، أو إبراز مظلوميته عليه السلام لأهل المدينة. فإنّ كتابة الوصية لمحمّد بن الحنفية تؤكّد ذلك[16].

إلى غير ذلك من الوجوه التي ذُكرت لبيان سبب عدم خروج ابن الحنفية مع الإمام الحسين عليه السلام.

والنتيجة: إنّ محمّد بن الحنفية كان له تكليفه الخاصّ في ثورة الإصلاح الحسيني، وقد كان مؤيَّداً من إمام زمانه حسب الشواهد التاريخية، مطيعاً له ومنفِّذاً لأوامره.

وبذلك يتبيَّن الجواب عن الإشكال المتقدّم وأنّه لا يصلح لتضعيف صدور الوصية.

 

المعنى الإجمالي للوصية

إنّ وصية الإمام الحسين عليه السلام لها أبعاد عديدة ومتنوعة:

البعد الأوّل: بيان العقيدة

وهو الإقرار بالعبودية لله والتوحيد الخالص، حيث بدأ وصيته: «إِنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلّا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ»، وكأنّه عليه السلام ينعى نفسه في بادئ الأمر، ومن ثمَّ يعرِّف عقيدته للمسلمين؛ إذ إنّه عليه السلام لم يقل: أشهد، وإنّما قال: «الحُسَيْن يَشْهَدُ».

 وبعد ذلك تطرّق إلى الاعتقاد الثاني، وهو الإيمان بالنبوّة وبما جاء به محمّد صلى الله عليه وآله من عند الله تعالى. ثمّ بعد ذلك ذكر اعتقاده بيوم المعاد.

البعد الثاني: بيان أهداف النهضة

بعدما عرَّف الإمام عقيدته بادر إلى بيان هدفه من هذه النهضة المباركة، وقد ابتدأ بنفي شهوة البطر والأشر أي: الفرح والسرور وجحود النعم وعدم شكرها، ثمّ نفى الظلم والمفسدة وهي شهوة الغضب، حتى لا يُفهم أنّ نهضته من أجل الحصول على الراحة الدنيوية، أو من أجل الطغيان والظلم وإثبات الوجود، وكلا الأمرين لا يطلبه مَن يؤمن بالله واليوم الآخر.

وبعد أن نفى جميع هذه الأُمور عرَّج لبيان هدفه، وهو: الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يتمّ إلّا من خلال ملازمة ومتابعة سيرة النبي صلى الله عليه وآله، والتي سار عليها أمير المؤمنين في إمارته وخلافته باعتباره امتداداً لذلك الوجود المبارك.

البعد الثالث: بيان أنّه عليه السلام واجب الطاعة

تحدّث الإمام عن أمر صعب ومهمّ جدّاً وهو الطاعة له، قال: «فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الحَقِّ فَالله أَوْلى بِالحَقِّ»، فأراد أن يُبيِّن أنّ وجوب طاعته نابع من الحقّ، فعلى مَن صدَّق وآمن بالنبي صلى الله عليه وآله قبول ذلك.

البعد الرابع: بيان صبره وتوكّله عليه السلام

إنّ الإمام الحسين عليه السلام يعلم أنّ القوم ـ كباقي الملل السابقة ـ لا تقبل الحقّ، وبالتالي يصعب عليها قبول الطاعة له، فبيَّن بقوله: «وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ، حَتّى يَقْضِيَ الله بَيْني وَبَيْنَ القَومِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمينَ». إنّ هذا الأمر يحتاج إلى صبر وبذل تضحيات كبيرة من أجل إيصال هذه الفكرة، وهذا لا يتم إلّا بالتوكّل على الله سبحانه وتعالى.

 

معنى الإصلاح والعدالة

معنى الإصلاح

إنّ من أهمّ الأُمور التي بيَّنتها الوصية المتقدّمة والذي هو شعار النهضة الحسينية هو الإصلاح، وهو لغة: ضدّ الإفساد، وهو من الصلاح المقابل للفساد، وكذلك هو في قبال السيئة.

جاء في القرآن الكريم: ﴿ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾[17]، ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾[18]، فكلمتي الإصلاح، والإفساد من الكلمات المتقابلة التي وردت متكررة في القرآن، فهما من المصطلحات الإسلامية والاجتماعية التي يمكن معرفة إحداهما بالثانية، من قبيل: التوحيد والشرك، الإيمان والكفر، الهداية والضلال، العدل والظلم، الخير والشرّ، الطاعة والمعصية، الشكر والكفران، الاتحاد والاختلاف، الغيب والشهادة، العلم والجهل، التقوى والفسوق، الاستكبار والاستضعاف، وأمثالها.

فالإصلاح هو: التغيَّر إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة. فالحركات الإصلاحية هي الدعوات التي تُحرّك قطّاعات من البشر لإصلاح ما فسد في الميادين الاجتماعية المختلفة، انتقالاً بالحياة إلى درجة أرقى في سُلّم التطوّر الإنساني[19].

وأمّا اصطلاحاً: فلا يفرَّق بينه وبين مصطلح الثورة على مستوى التغيير وشموله، وإنّما الاختلاف من حيث الأُسلوب في التغيير وزمن التغيير، فالثورة تسلك سُبل العنف غالباً والسرعة في التغيير، بينما تتم التغييرات الإصلاحية بالتدريج، وكثيراً ما تكون للثورة الأولوية لتغيير الواقع، بينما تبدأ مناهج الإصلاح عادة بتغيير الإنسان، وإعادة صياغة نفسه وفق الدعوة الإصلاحية، وبعد ذلك ينهض هذا الإنسان بتغيير الواقع وإقامة النموذج الإصلاحي الجديد[20].

معنى العدالة

العدالة لغة: هي الاستقامة، أو الإنصاف والمساواة، وهي خلاف الجور والظلم[21].

وأمّا في الاصطلاح فلها أكثر من استعمال:

العدالة عند أرباب الحكمة وأهل العرفان: هي عبارة عن تعديل قوى النفس، وتقويم أفعالها بحيث لا يغلب بعضها على بعض[22].

العدل في أُصول الدين: هي الاعتقاد بأنّ الله تعالى عادل لا يفعل القبيح مثل الظلم، ولا يترك الحسن مثل اللطف[23].

العدالة في الشرع: مَلَكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى، من فعل الواجبات، وترك المحرَّمات[24]. وهناك تعاريف أُخرى للعدالة في الشرع مذكورة في محلّها.

العدل في القرآن الكريم: استُعمِل العدل في القرآن بمعانٍ عديدة منها: الاستقامة[25]، الإنصاف[26]، الفدية[27]، الوسطية[28]، الاستواء[29]، إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه[30]، إلى غير ذلك من المعاني.

ويمكن جمعها في معنى واحد، وهو إظهار كلمة الله في الأرض في جميع الميادين السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والجزائية. قَالَ تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾[31]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[32]، والقسط هو العدل.

الارتباط بين الإصلاح والعدالة

تبيَّن من خلال عرض معاني الإصلاح والعدالة أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين المصطلحين، وأنّ العدالة لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال الإصلاح بأنواعه كافّة، فإنّ إظهار الحقّ وإعلاء كلمة الله في جميع الميادين ـ سواء السياسية، أو الاجتماعية، أو الفكرية ـ لا يتحقّق إلّا إذا تحقّق الإصلاح في تلك الميادين، فهناك شبه عِلّية ومعلولية بين الإصلاح والعدالة.

 

الفهم المتعارف للإصلاح عبر الزمان

إنّ الإصلاح الذي قام به الأنبياء عليهم السلام منذ خلق البشر، لا يختلف مضمونه وحقيقته عبر الزمان؛ لأنّ المنشأ واحد والأهداف والغايات واحدة، فهم عليهم السلام جميعاً مرسَلون من الله سبحانه، ولكن الاختلاف في الوسائل التي ترسم وتبرز الإصلاح عبر الزمان، وذلك حسب ما تقتضيه الظروف التي يعيشها ذاك أو هذا المعصوم؛ من هنا فإنّ الأشكال التي يظهر فيها الإصلاح يمكن أن تتفاوت وتخضع لظروف معيَّنة في كل مجتمع عاشه النبي المعصوم، أو الإمام المعصوم.

فتارةً: يقوم النبي بإظهار الإصلاح المتمثل في عدم سفك الدماء من خلال محاربة الفساد، فإنّ سفك الدم يُعدُّ جريمةً كبرى منعتها السماء، ولعلّها أوّل جريمة قام بها البشر عندما قتل قابيل أخاه هابيل. وهنا يأتي دور التعاليم السماوية لتبرز فكرة الإصلاح من خلال منع سفك الدم، ومنع القتال والتقاتل، جاء في القرآن الكريم: ﴿لئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ  إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾[33]، ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[34]، ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾[35].

نعم، إنّ مبدأ الإصلاح من خلال منع القتل والتقاتل، وإن كان مبدأً نبيلاً ولكن ربما يُستغَل من قبل الظالمين أيضاً؛ لتمرير غاياتهم، كما في قصّة موسى عليه السلام ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾[36].

وأُخرى: يكون الإصلاح من خلال المحاججة وبيان الأدلّة والبراهين، كما في قصّة قوم سبأ؛ إذ إنّهم كانوا يعتقدون بإله آخر متصوّرين أنّه هو الذي يستحق العبادة، باعتقادهم أنّ الشمس وما لها من فائدة يجب أن  تُعبَد، من دون الالتفات إلى مَن هو المعطي الحقيقي؟ ولأجل ماذا يعطي؟ وكيف يُعطي؟ فقد جاء في الذكر الحكيم على لسان الهدهد: ﴿نِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّـهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾[37]، فقام النبي سليمان عليه السلام بمحاججتهم وإقامة البراهين والأدلّة، وترك القتال، وكذلك كان جواب ملكة سبأ، حيث إنّها أرسلت الهدية وعلَّلت ذلك بطريقةٍ، فقد جاء في الذكر الحكيم: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً  وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾[38].

وثالثة: يكون الإصلاح من خلال بيان الأمراض السلوكية التي تلمُّ بالمجتمع، والتي تؤدّي إلى الفساد والهلاك والهاوية، كما جاء في قصّة نبي الله شعيب عليه السلام، حيث قال: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾[39]، فكان الجواب من قومه هو: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ  إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا  وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[40].

ورابعة: يكون الإصلاح من خلال الحرب والقتال، وقطع دابر المشركين والمفسدين في الأرض، كما في الحروب التي قادها أنبياء الله وأولياؤه، قال تعالى: ﴿اتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾[41].

وهكذا فقد ذكر لنا التاريخ دور الأنبياء في إصلاح الفساد في الأرض، فكرياً وعملياً، وفي جميع الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، من أجل استمرار النظام الكوني الإلهي، وحفظ الوجود الإنساني.

(يتبع في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى)

 

الكاتب : الشيخ غدير حمودي

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد السابع

مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________

[1]     ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص21.

[2]     اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج2، ص481.

[3]     الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين عليه السلام: ج1، ص188.

[4]     اُنظر: كلمة التحقيق الشيخ مالك المحمودي لكتاب المناقب، للخوارزمي. مقدمة التحقيق الشيخ محمد السماوي لكتاب مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي.

[5]     مقدمة التحقيق الشيخ محمد السماوي لكتاب مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي.

[6]     المصدر السابق.

[7]     اُنظر: ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص241.

[8]     اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص 329. البحراني، عبد الله، العوالم: ص179. الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص30. الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص588.

[9]     الكَيْسانية: هم القائلون بإمامة محمّد بن الحنفية، ويزعمون أنّه اليوم حيّ، وهو المهدي، باعتبار أنه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه فسمّوا الكيسانية، أو لأنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي كان رئيسهم، وكان يلقّب كيسان. اُنظر: النعمان، القاضي المغربي، شرح الأخبار: ج3، ص315. والفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ج2، ص248.

[10]    اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج18، ص112، ج42، ص99.

[11]    المصدر السابق: ج42، ص245.

[12]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص 348.

[13]    ابن بابويه، علي بن الحسين، الإمامة والتبصرة: ص60.

[14]    المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[15]    المازندراني، محمد مهدي، معالي السبطين: ج1، ص 229. الدربندي، فاضل، أسرار الشهادة: ص246. أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين: ص61.

[16]    اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[17]    التوبة: آية102.

[18]    الأعراف: آية56.

[19]    اُنظر: مطهّري، مرتضى، الحركات الإسلامية: ص10.

[20]    المصدر السابق.

[21]    اُنظر: فتح الله، أحمد، معجم ألفاظ الفقه الجعفري: ص286.

[22]    البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة: ج10، ص13.

[23]    فتح الله، أحمد، معجم ألفاظ الفقه الجعفري: ص286.

[24]    المصدر السابق.

[25] ﴿ إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النحل: آية90.

[26]    ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ  وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ . . . ﴾ المائدة: آية8.

[27]    ﴿... وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا...﴾ الأنعام: آية70.

[28]    ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا...﴾ البقرة: آية143.

[29]    ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ الانفطار: آية7.

[30] ﴿... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾ النساء: آية58.

[31]    الأنعام: آية115.

[32]    الحديد: آية25.

[33]    المائدة: آية28.

[34]    المائدة: آية30.

[35]    المائدة: آية32.

[36]    القصص: آية19.

[37]    النمل: آية23ـ 24.

[38]    النمل: آية34ـ 35.

[39]    هود: آية85.

[40]    هود: آية87 ـ 88.

[41]    التوبة: آية14.