يمثل الايمان والعمل الصالح احد المرتكزات الاساسية في المشروع الرسالي الذي جاء به الاسلام العظيم والذي اكدته مدرسة اهل البيت عليهم السلام بعمقها التربوي والمعرفي، فالإيمان ليس مجرد حالة نفسية بل هو وعي شامل يتغلغل في داخل شخصية الانسان ويعيد تشكيل نظرته الى الوجود وقيمه ومواقفه، وقد جعل القران الكريم الايمان نقطة الانطلاق في بناء الانسان اذ قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم من سورة العصر(وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِی خُسْرٍ إِلَّا الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[1]، هذه الآية المباركة تجمع في صياغة موجزة بين العقيدة والسلوك وبين الوعي والحركة وتشير الى ان النجاة والفلاح لا يتحققان الا عبر هذه الثنائية المتلازمة.
وإن الايمان في بعده العميق ليس مجرد اعتقاد نظري بل هو حالة حضور دائم لله تعالى في ضمير الانسان، ومن هنا كان الايمان مصدر الطمأنينة والقوة كما قال سبحانه (الَّذِینَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِکْر اللَّهِ أَلَا بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[2]، فذكر الله يحرر الانسان من الخوف ويجعله اكثر ثباتا امام الابتلاءات، وقد اكد رسول الله صلى الله عليه واله هذا المعنى حين قال (الايمان معرفة بالقلب واقرار باللسان وعمل بالأركان)[3]، فالرسول هنا يبين ان الايمان اذا لم يتحول الى عمل يفقد حقيقته ومضمونه ويغدو مجرد دعوى لا اثر لها.
اما العمل الصالح فهو ثمرة ذلك الايمان واثره في الواقع، وقد حرص القران الكريم على اقتران الايمان بالعمل الصالح في عشرات المواضع للدلالة على ان البناء الحضاري لا يتحقق بالإيمان وحده بل بمجموع الحوافز الروحية والانجازات العملية، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِیمٌ)[4]، فالأجر العظيم يأتي نتيجة التفاعل بين الايمان والافعال المنتجة التي تسهم في اصلاح النفس والمجتمع. ومن كلام الامام الصادق عليه السلام (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِی إِذَا غَضِبَ لَمْ یُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ حَقٍّ وَ الَّذِی إِذَا رَضِیَ لَمْ یُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِی بَاطِلٍ وَ الَّذِی إِذَا قَدَرَ لَمْ یَأْخُذْ أَکْثَرَ مِنْ مَالِهِ)[5]، وهذا الحديث يوضح ان العمل الصالح ليس مجرد فعل خارجي بل هو انضباط اخلاقي يجعل المؤمن منسجما مع قيمه في كل الاحوال.
وعندما ننظر الى بناء الفرد نجد ان الايمان يمنح الانسان رؤية واضحة للوجود ويخلق في داخله غاية يعيش من اجلها فيتحول من كائن تائه الى انسان صاحب مشروع، فالإنسان المؤمن يدرك انه خليفة الله في الارض وان عليه مسؤولية اعمارها وفق منهج الهداية، وهذا الوعي ينتج شخصية متوازنة قادرة على مواجهة التحديات بثقة وصبر، وقد اشار الامام الصادق عليه السلام الى هذا المعنى بقوله (الصبر رأس الايمان)[6]، فالصبر ليس ضعفا بل هو قوة ارادة تنبع من ايمان راسخ يجعل الانسان ثابت القدم عند الشدائد.
وعندما يقترن هذا الايمان بالعمل الصالح يصبح الفرد مصدرا للعطاء والاصلاح. فالعمل الصالح يشمل كل نشاط يسهم في تقويم الذات وخدمة المجتمع وتحقيق العدالة ونشر العلم وبناء المؤسسات النافعة، وقد ورد عن الامام الباقر عليه السلام (لاَ يُقْبَلُ عَمَلٌ إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ وَ لاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ وَ مَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ مَعْرِفَتُهُ عَلَی اَلْعَمَلِ وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَلاَ عَمَلَ لَهُ)[7]، وهذا النص الشريف يؤكد التكامل بين العلم والايمان والعمل ويرفض الفصل بينها.
اما في عملية بناء الامة فيظهر الدور الحقيقي للإيمان والعمل الصالح بشكل اوضح اذ يشكل الايمان الرابط المعنوي الذي يوحد ابناء المجتمع ويمنحهم شعورا مشتركا بالمسؤولية والغاية، والمجتمع الذي يفقد الايمان يتحول الى مجموع افراد متنافسين لا يجمعهم مشروع ولا يحكمهم معيار قيمي، بينما الامة المؤمنة تتوحد رؤيتها نحو الخير والحق والعدل مما يجعل تماسكها اقوى وقدرتها على مواجهة الاخطار اكبر. قال تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ)[8]، فالوحدة الحقيقية تنبع من عبادة الله ومن الارتباط بمنظومة القيم الالهية.
ثم ان العمل الصالح في المستوى الاجتماعي يمثل القوة المحركة لبقاء الامة وتطورها، فالأمة التي تنتشر فيها المبادرات الصالحة ومشاريع الخير والانجاز العلمي والاصلاح الاخلاقي هي امة تسير نحو النهوض. وقد جاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام (صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام)[9]، وهذا يدل على ان الاعمال الصالحة ذات البعد الاجتماعي لها اثر عظيم في حفظ تماسك المجتمع واستقراره، فالعمل الصالح ليس محصورا في الجانب التعبدي بل يمتد الى اصلاح العلاقات الانسانية وحماية القيم العامة وبناء واقع اجتماعي متماسك.
ومن هنا تتشكل معادلة النهوض الاخلاقي التي تقوم على الايمان كقوة داخلية تمنح الدعم الفرد والمجتمع على العمل الصالح كقوة خارجية تصنع الواقع وتنظم الحركة، واذا غاب احدهما انكسر بناء الفرد وضعفت الامة، فالإيمان بلا عمل يتحول الى مجرد شعارات لا تقوى على مواجهة الفساد والعمل بلا ايمان يتحول الى حركة بلا روح لا تملك قدرة الاستمرار، ولذا فالقران الكريم يلخص منهج الاصلاح في قاعدة واضحة هي (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)[10]، وإن الحاجة الى احياء هذه الثنائية اليوم اصبحت اكثر الحاحا في ظل ما يعانيه الواقع الاسلامي من ازمات فكرية واجتماعية واخلاقية، فالكثير من مظاهر الضعف والتراجع ناتجة عن الانفصال بين العقيدة والسلوك وعن تحول الدين عند البعض الى طقوس لا تغير الانسان ولا ترتقي بوعيه، ولذلك فان العودة الى رؤية القران الكريم و اهل البيت عليهم السلام التي تجمع بين عمق الايمان وفاعلية العمل تمثل خطوة اساسية نحو بناء انسان رسالي وامة قوية قادرة على حمل مسؤولياتها التاريخية في بناء عالم اكثر عدلا ونورا.
الهوامش:-----
[1]ـ سورة العصر الآية 2ـ 3.
[2] ـ سورة الرعد الآية 28.
[3] ـ عيون اخبار الرضا , ج1, ص226.
[4] ـ سورة المائدة الآية 9.
[5] البحار ج63,ص302.
[6] ـ ميزان الحكمة للريشهري,ج2,ص 1558.
[7] ـ البحار,ج75,ص 174.
[8] ـ سورة الانبياء, الآية 92.
[9] ـ نهج البلاغة,ج2,ص78.
[10] ـ سورة الكهف, الآية, 110.

اترك تعليق