اهتمت الرسالات الإلهية بأمر تهذيب النفس اهتماماً بالغاً حتى جعلت (تزكية النفس) غاية للأنبياء بجنب تعليمهم.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(1) ، وقال عز من قائل: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(2) .
فكانت تزكية النفس كتعليمها فريضة عامة وشاملة للجميع، كما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً من أهم فرائض الدين.
قال الله سبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(3)، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سحَهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(4).
وقال عز من قائل في وصف المؤمنين: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(5) ، ﴿الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾(6) .
وقد خص الله سبحانه سورة في القرآن الكريم للتنبيه على أهمية تزكية النفس ودورها في فلاح الإنسان في هذه الحياة وما بعدها، وأقسم على ذلك قسماً غليظاً مؤكداً بكل الكائنات التي يجدها الإنسان في هذا المشهد الكوني بما فيها من العظمة والروعة من سماوات مبنية فوقنا وأرض ممدودة تحتنا وشمس تشرق علينا ونهار يضيئنا وقمر ينير لنا ظلمة الليل، وذلك كله ما يشهده الإنسان حوله من الكون ومكوناته المبهرة، ويخالق هذه الكائنات كلها، كما أقسم بالنفس الإنسانية وخالقها التي ألهمها الله سبحانه المعاني النبيلة وأضدادها وجعل فيها محفزات الضمير ومزالق الشر، ووهب لها الاختيار والإرادة الحرة لكي يسير الإنسان بالمسيرة التي يراها.
فأقسم بذلك كله على أن فلاح الإنسان في هذه الحياة وما بعدها مقرون بتزكيته لنفسه، كما أن الخيبة حصاد من تركها ودساها، فالمبادئ الفاضلة هي مراقي الفوز والسلامة والمعاني الخاطئة هي منزلقات الخيبة والخسران، وضرب تعالى في نهاية السورة بقوم ثمود مثلاً للخيبة في هذه الحياة بما نتج من طغيانها.
قال عزّ من قائل: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُفْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾(7) .
حقيقة تهذيب النفس
إن مبادئ السلوك السليم هي أمور مركوزة في النفس الإنسانية، كما نشهدها جميعاً بالوجدان، ولكنها لیست بدرجة توجب انسياقنا قهراً إليها، لأن الإنسان مزود بجنبها بغرائز وانفعالات تدعو إلى الاستجابة لها وإروائها بشكل مطلق غير محددة بموافقة الفضيلة. مثلاً إذا كنا جائعين ووجدنا طعاماً مملوكاً للآخرين فإن الجوع يدعونا إلى تناول الطعام وإن لم يكن صاحبه قد أذن لنا في تناوله، فتحفيز الجوع لنا على تناول الطعام ليس محدداً بأن يكون على وجه غير ذميم.
وقد منح الإنسان القدرة على الحكم في سلوكه، وهو ما يسمى بالاختيار، فله أن يستجيب لصوت الفضيلة أو لإلحاح الغريزة والانفعال.
وأفعال الإنسان وسلوكياته كلها - رغم اختيار الإنسان فيها - إنما تنشأ عن الدواعي النفسية، فهذه الدواعي هي التي تدعو الإنسان إلى هذا السلوك أو ذاك، ومن ثم لا بد للإنسان في سعيه إلى السلوك الحكيم والفاضل من أن يقوي في نفسه الدواعي الحكيمة والفاضلة لتكون دواع مؤكدة وقوية وراسخة حتى يتأتى له في حين تعرضه الخيارات مختلفة اختيار الخيار الحكيم والفاضل.
توضيح ذلك : أن الداعي الحكيم والفاضل بالمستوى الأولي الذي جهز به الإنسان داع اعتيادي، ومن ثم لن يكون تأثيره في سوق الإنسان إلى السلوك الحكيم والفاضل تأثيراً مضموناً، بل يمكن أن يغلبه الداعي الغريزي في حينه، ولعله الغالب، لأن الداعي الغريزي بطبيعته يتسم بالإلحاح ويدفع إلى الاستعجال في الإيفاء بالحاجة، وأما الداعي الفاضل فهو على العموم داع هادئ وهو بطبيعته تضحوي، بمعنى أنه لا يفكر الإنسان في مراعاته في تحصيل نفع ظاهر، وإن كان نوعاً موافقاً الصلاح الإنسان، لكن يحتاج الانتباه إلى ذلك إلى ملاحظة العواقب والنتائج القريبة والبعيدة، فالداعي الفاضل أشبه بتقييد النفس، كما أن الداعي الغريزي أشبه بإطلاق النفس واستر سالها.
ومن ثم لا بد من السعي في جعل الداعي الحكيم والفاضل داعياً مؤكداً، وذلك بتعميقه وترسيخه من خلال أدوات ثلاث:
1 - أداة التأمل والتفكير الراشد.
2 - أداة السلوك المتكرر.
3 - أداة البيئة المشجعة والمثبطة.
فهذه الأدوات الثلاث هي العناصر المؤثرة في الإنسان.
فإذا تأمل الإنسان في قيمة الداعي الحكيم والفاضل ودوره الإيجابي في حياة الإنسان كان من شأن ذلك إلى تغليب هذا الداعي.
والتفكير أمر مهم للغاية، وغالب أخطاء الإنسان ينشأ عن عدم التفكير والبت الكافي حول الموضوع، بل يكون الاختيار لحظياً من غير أن يبتني على أساس راسخ.
كما إن السلوك المكرر يساعد على رسوخ هذا السلوك ويخفف مؤونته في النفس، فالمرء عندما يلتزم بالسلوك الحكيم والفاضل عند تعرضه للوسوسة في اختيار السلوك الآخر يحتاج في البداية إلى مؤونة إضافية في ممارسة العفاف، ولكن إذا رسخ فيه هذا السلوك عادة سهل وانساقت إليه النفس بسهولة ويسر.
وفي السلوكيات الخاطئة ما يفتح وقوعه من الإنسان لمرة واحدة باباً على الإنسان، فمن ارتكب الخطيئة الأخلاقية مرةً هانت عليه ووسوست له نفسه ارتكابها كلما أثير أو وجد بيئة للإثارة، ولن يتخلص من هذه الوسوسة إلا بعناء، بخلاف من لم يرتكبها أصلاً.
وأما البيئة فهي عامل ثالث تسهل على الإنسان السلوك، لأنها تزود النفس الإنسانية بدواع اجتماعية مساعدة أو منافرة، ومن ثم ترى أنه يصعب على المرء يسبح ضد التيار مخالفة الأعراف العامة، حتى كأنه الجارف حتى إذا كانت تلك الأعراف خاطئة.
وعلى ضوء ذلك يتضح أن حقيقة تهذيب النفس يرجع إلى إيجاد خصال راسخة واتجاهات سلوكية مستقيمة وفق المبادئ الأخلاقية، كما أن استرسال النفس
في مقابل تهذيبها - يرجع إلى غلبة الرغبات الغريزية والانفعالية العاجلة، بحيث تكون منهجاً للإنسان.
فعلينا لأجل تهذيب أنفسنا السعي في إرساء اتجاهات سلوكية مهذبة راسخة في نفوسنا والسعي إلى الحفاظ عليها عند تعرضها للاهتزازات والاختبارات الصعبة من خلال التفكير في الخطى والخيارات المختلفة وآثارها والانتفاع بتجارب الحياة ونصائح الآخرين، ومن خلال تقوية الإنسان لإرادته للسلوكيات الصحيحة بالالتزام العملي بها حتى تكون عادة للإنسان، ومن خلال إحاطة أنفسنا ببيئة سليمة في الأسرة والأصدقاء حتى يساعدنا ذلك على السلوك السليم ويصوننا بأجوائها عن السلوك الخاطئ.
كما إن علينا لأجل تهذيب أولادنا والمتعلمين منا:
أولاً: أن نسعى إلى ترشيد أفكارهم وقراراتهم بلغة عقلانية وراشدة ومقنعة تناسب إدراكاتهم.
وثانياً: أن نسعى من خلال التوجيه إلى اعتيادهم على هذا السلوك واستقرارهم عليه.
وثالثاً: أن نوجد بيئة أسرية وتعليمية واجتماعية مساعدة ومشجعة على السلوكيات السليمة والراشدة.
الهوامش:-----
(۱) سورة الجمعة : 2.
(2) سورة ال عمران: 164.
(3) سورة ال عمران: 104.
(4) سورة التوية: 71.
(5) سورة التوبة: 112.
(6) سورة الحج: 41.
(7) سورة الشمس : 1-15.
اترك تعليق