تحلّ ذكرى معركة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان، ذلك اليوم الذي شكل علامة فارقة في مسيرة الإسلام، وموطئًا لنصرٍ سماوي غيَّر موازين القوى وأرسى دعائم الأمة. لم تكن بدر مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت امتحانًا إلهيًا لجيلٍ آمن برسالة التوحيد وهو في غربةٍ وقلة، فواجه جبروت قريش وصلفها، مستندًا إلى يقينٍ راسخ بأن الله ناصره لا محالة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾.
المدد الإلهي وظهور الحق
في ظلِّ قلة العدد والعدة، كان لا بد من إمدادٍ رباني يثبت المؤمنين، فكان أن أيدهم الله بجندٍ من الملائكة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ﴾، فكانت هذه البشارة عزاءً للقلوب المؤمنة، التي لم تستوحش قلة الناصر بقدر ما استبشرت بوعد الله الحق.
لكن الله لم يمدّهم بالملائكة وحسب، بل بعث إليهم أسد الله الغالب، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي كان في ريعان شبابه، لكنه جسّد بسيفه وبأسه أعظم ملحمة إيمانية، ففلق هام أبطال قريش وأردى فرسانهم، حتى صار اسمه مرعبًا في صفوف المشركين. ولم يكن قتاله مجرد سيوفٍ تتلاقى، بل كان ترسيخًا لحقيقةٍ أن النصر ليس بعددٍ أو عتاد، وإنما بصبرٍ وثباتٍ وإخلاصٍ لله.
عليٌّ (عليه السلام) ومفاتيح النصر
في يوم بدر، حيث اختلّت موازين القوى، وكان عدد المسلمين لا يتجاوز ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلًا، بينما جيش قريش يقارب الألف، تجلت قدرة الله في نصرة أوليائه. وكان الإمام علي (عليه السلام) في طليعة الفرسان الذين قلبوا المعادلة، حيث قُتل من المشركين اثنان وسبعون رجلًا، نصفهم بسيف عليّ وحده، وأما النصف الآخر فقد شارك فيه بقية المسلمين. ولم يكن قتلاه رجالًا عاديين، بل كانوا سادات قريش وأبطالها، وهو ما أكّد موقعه المتقدم في الإسلام، وجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يخلد مقولته الشهيرة: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي».
اللواء الذي لا يسقط
كان اللواء في المعارك عنوان الصمود، فإن سقط، تزعزعت الصفوف، وأيقن المقاتلون بالهزيمة. ولأن المعركة كانت فاصلة، كان لا بد أن يُعهد بالراية إلى أشجع الناس، فحملها أمير المؤمنين (عليه السلام) على صغر سنّه، فكان المثل الأعلى في الثبات والبأس، حتى غدا اسمه مرادفًا للنصر، ورمزه الخالد.
بدر: ولادة دولة الإسلام
لم تكن بدر مجرد انتصارٍ عسكري، بل كانت ولادةً جديدة للأمة الإسلامية، إذ أزالت هاجس الخوف الذي حاول المشركون زرعه في النفوس، وأثبتت أن أهل الإيمان، متى ما صدقوا الله، فإنهم منصورون، وإن قلَّ عددهم وعزَّ ناصرهم. وقد أرست هذه المعركة القاعدة التي سارت عليها الفتوحات الإسلامية من بعدها، حيث باتت موقعة بدر شاهدًا أبديًا على أن النصر لا يُهدى لمن يملك القوة وحدها، بل لمن يملك الإيمان والبصيرة والاستعداد لبذل الروح في سبيل الله.
وهكذا، بقي يوم بدر يوم الفرقان، الذي انتصر فيه الحق على الباطل، وأثبت أن راية الإسلام لا تسقط، ما دام هناك عليٌّ يحملها، وجنودٌ يفدونها بقلوبهم وسيوفهم.
اترك تعليق