جاء رسول الله صلى الله عليه وآله من أجل إيصال المجتمع الإنساني إلى قمّة التكامل والسموّ والارتقاء ؛ بتقرير المنهج الإلهي في واقع الحياة ، وجعله الحاكم على تصوّرات الناس ومشاعرهم ومواقفهم ، وقد عاش مع المجتمع يدعوه إلى عبادة الله تعالى وإلى إصلاح وتغيير العقول والقلوب والإرادات ، ويدعوه إلى الارتباط بالقدوة والأسوة الصالحة ، ولذا نجده يوازن بين الدعوة إلى الدين كمفاهيم وقيم وبين الدعوة لمن يمثّل هذا الدين في حركة الواقع ، ويأتي تبيانه لفضائل أهل البيت عليهمالسلام ضمن هذا التوازن. وفي هذا المقام فإنّ تبيان فضائل الإمام الحسن عليهالسلام لم يكن نابعاً عن الرغبة العاطفية المحضة نتيجة القرابة القريبة ، بل هو دعوة للاستمرار في حركة الرسالة وامتدادها في الإمام الحسن عليهالسلام الذي جسّدها ويجسّدها في سكناته وحركاته وأقواله وأفعاله. فالإمام الحسن عليهالسلام هو سيّد شباب أهل الجنّة ، كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة »(1). وقال أيضاً : « من سرّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة ، فلينظر إلى الحسن بن علي »(2). وهذا التفضيل العظيم للحسنين عليهماالسلام لم يكن على أساس القربى النسبية ، بل هو تفضيل رسالي ، فهما أفضل من الغير بدرجة قربهم من المفاهيم والقيم الإلهيّة التي جسّدوها ويجسّدونها في أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم.
وعن عبد الله بن عمر قال : « سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إنّ الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا »(3). وفي الحديث : « خير رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير شبابكم الحسن والحسين ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد »(4). وفيه أيضاً : « نحن ولد عبدالمطّلب سادة أهل الجنّة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي »(5). وفيه حديث آخر : « الحسن والحسين سيفا العرش وليسا بمعلّقين »(6). وعن عمر بن الخطاب أنّه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبّة بيضاء سقفها عرش الرحمن »(7). وعن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يحشر الأنبياء يوم القيامة على الدّواب ليوافوا من يومهم المحشر ، ويبعث صالح على ناقته ، وأبعث أنا على البراق ، ويبعث ابناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنّة »(8). وعن زينب بنت أبي رافع ، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أنّها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكواه الذي توفي فيه ، فقالت : « يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً ، فقال : أمّا الحسن فله هيبتي وسؤددي ، وأما حسين فله جرأتي وجودي »(9). وعن جابر قال : « قال رسول الله صلى اللهعليه وآله : إنّ الله عزّ وجل جعل ذريّة كلّ نبي في صلبه ، وإنّ الله تعالى جعل ذريّتي في صلب علي بن أبي طالب »(10).
وعن عمر بن الخطّاب ، قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : كلّ بني أنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم »(11). وقال صلى الله عليه وآله : « الحسن والحسين سبطان من الأسباط »(12). وقال صلى الله عليه وآله : « حسن سبط من الأسباط »(13).
والأحاديث الشريفة المتقّدمة والتي تبيّن فضائل الإمام الحسن عليهالسلام يراد منها : تنبيه المسلمين وتوجيههم للارتباط بأرقى نماذج الشخصية الإنسانية لكي يقتدوا بها ويستسلمون استسلاماً واعياً متعقّلاً لمفاهيمها وقيمها ، ولكي يميّزوا بين الحقّ والباطل في معترك الأهواء والصراع والمنافسة بين التيّارات المتصارعة الآنية والمستقبلية ، فجعل رسول الله صلى اللهعليه وآله أهل البيت عليهمالسلام المقياس والميزان الذي تقاس وتوزن به المواقف والشخصيّات والتيّارات ، فمحاربتهم محاربة لرسول الله صلىاللهعليهوآله ومسالمتهم مسالمة لرسول الله صلىاللهعليهوآله كما ورد عن أبي هريرة ، قال : « نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عليّ وابنيه وفاطمة ، فقال : أنا حرب لمن حاربكم ، سلم لمن سالمـكم »(14). ونحوه عن زيد بن أرقـم(15). وفي هذا الحديث الشريف ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله الحجّة على أعداء أهل البيت عليهمالسلام وبيّن سلامة مواقفهم في خضمّ الأحداث الواقعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كحرب الجمل وصفّين والنهروان ، وتمرّد معاوية الباغي الخبيث على دولة الإمام الحسن عليه السلام ، وقتل يزيد ( لعنه الله ) للإمام الحسين عليه السلام.
الإمامة بعد رسول الله صلى اللهعليه وآله تعيّن بالنصّ ولا تترك لاختيار الأمّة ؛ فهي عهد من الله عزّ وجلّ للمصطفين من عباده ، وقد أكّد أهل البيت عليهم السلام تلك الحقيقة ، فالأمر ليس متروكاً للأمة ولا حتى لأهل البيت عليهمالسلام أنفسهم ، فهم لا يستخلفون أو ينصّون على من بعدهم إلاّ بعهد معهود من رسول الله صلىاللهعليهوآله وبأمر الله تعالى.
عن أبي بصير ، قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فذكروا الأوصياء وذكرت إسماعيل فقال : لا والله يا أبا محمد ما ذاك إلينا وما هو إلاّ إلى الله عزّ وجلّ ينزل واحداً بعد واحد »(16). وقال عليهالسلام : « أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد ؟ لا والله ولكن عهد من الله ورسوله صلى الله عليه وآله لرجل فرجل حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه »(17).
وعلّة النصّ هي أنّ الإمامة منصب عظيم وخطير ؛ لأنّ الإمام هو حجّة الله على خلقه ، وهو المقتدى به في أقواله وأفعاله ؛ ولذا فإنّ الإمّة لا تستطيع أن تشخّص إمامها ، وهذا ما تؤكّده المسيرة الإسلامية وسير الأحداث ؛ فلابدّ وأن يكون الاختيار إلهياً للحفاظ على سلامة المفاهيم والقيم الإسلامية ، وحماية الإسلام من تحريف الضّالين وتأويل الجاهلين ، والنصّ سنة من سنن الله تعالى في تعيين الأئمّة والأوصياء من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين. وقد نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله على إمامة الحسن عليه السلام في أقواله باعتباره أحد الأئمّة الإثني عشر ، فقد وردت روايات عديدة تنصّ على عدد الأئمّة نختار بعضها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش »(18). وقال : « بعدي إثنا عشر خليفة » ، ثمّ أخفى صوته وقال : « كلّهم من بني هاشم »(19). وقال : « أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي ، هم الأئمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل » (20). وقال : « يا علي أنا وأنت وابناك الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين أركان الدين ودعائم الإسلام ، من تبعنا نجا ، ومن تخلّف عنّا فإلى النار »(21). وقال للإمام الحسين عليه السلام : « أنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة تاسعهم قائمهم »(22). وقال في بيان أوصيائه من بعده : « أوّلهم أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمّتي ، ووليّ كلّ مؤمن بعدي ... ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين ، ثمّ تسعة من ولد الحسين ؛ واحد بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ، هم شهداء الله في أرضه ، وحجّته على خلقه ، وخزّان علمه ، ومعادن حكمته ؛ من أطاعهم أطاع الله ، ومن عصاهم عصى الله »(23). وقال بشأن الحسن والحسين عليهما السلام : « هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا »(24). وقال في أهل بيته عليهم السلام : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدى ؛ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(25). وقال أيضاً : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غُفِر له » (26). وقال : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس »(27).
وما تقدّم يدلّ دلالة واضحة على إمامة الحسن عليه السلام فهو إمام مفترض الطاعة منصّب من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله ، وهو المقتدى به في أقواله وأفعاله ؛ وعلى ضوء ذلك فهو المقياس الذي تقاس به أفكار ومواقف الآخرين ، فمن وافقه نجا ، ومن خالفه خسر وهوى ؛ ولهذا فلا يعذر من خالفه ومن قاتله كمعاوية ، فهو ليس مجتهداً فأخطأ ، كما يزعم أنصار الشجرة الملعونة(28) بل هو من البغاة العتاة المردة مع سبق الإصرار ؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد ألقى الحجّة على المسلمين بالنصّ على إمامة سبطه الحسن عليه السلام وعلى عصمته وصحّة أفكاره ومواقفه ، فلا تجوز مخالفته فضلاً عن التمرّد على خلافته بالعصيان العسكري.
الهوامش:-----
(1) سنن الترمذي : حديث ٣٧٩٣ ، باب مناقب الإمام الحسن عليهالسلام.
(2) تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر ١٣ : ٢٠٩.
(3) سنن الترمذي : حديث ٣٧٩٥.
(4) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٢٣ / ١٠٤١.
(5) المعجم الكبير ٣ : ٤٤ / ٢٦٣٠.
(6) المعجم الكبير ٣ : ٤٤ / ٢٦٣١.
(7) كنز العمّال ١٢ : ١١٩ / ٣٤٢٨٣.
(8) أسد الغابة / ابن الأثير ١ : ٤٩٠.
(9) سير أعلام النبلاء ٣ : ٢٥٨.
(10) المعجم الكبير ٣ : ٤٠ / ٢٦٢٠.
(11) تاريخ مدينة دمشق ١٤ : ١٦٧.
(12) كنز العمال / المتّقي الهندي ١٢ : ٩٧ / ٣٤١٦٢.
(13) كنز العمال ١٢ : ١١٤ / ٣٤٢٦٢.
(14) تاريخ مدينة دمشق ١٣ : ٢٢٩.
(15) المعجم الكبير ٣ : ٤٣ / ٢٦٢٩.
(16) الكافي ١ : ٢٧٧ / ١ ، كتاب الحجّة ، باب : إنّ الإمامة عهد من الله.
(17) الكافي ١ : ٢٧٨ / ٢ ، كتاب الحجّة ، باب : إنّ الإمامة عهد من الله.
(18) صحيح مسلم ٢ : ١٨٣ / ١٨٢١ ، كتاب الإمارة ، باب : الخلافة في قريش.
(19) ينابيع المودّة / القندوزي الحنفي ١ : ٣٠٨.
(20) كفاية الأثر في النصّ على الأئمّة الاثني عشر / الخزاز : ٨٩.
(21) الأمالي / المفيد : ٢١٧ / ٤ ، مجلس ٢٥.
(22) جامع الأخبار / السبزواري : ٦٢ / ٨.
(23) فرائد السمطين ، / الجويني ١ : ٣١٨ / ٢٠٥.
(24) إعلام الورى بأعلام الهدى / الطبرسي : ٢١٤.
(25) سنن الترمذي : حديث ٣٨١٣ ، مناقب أهل بيت النبي صلىاللهعليهوآله.
(26) مجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ١٦٨ ، ونحوه في الصواعق المحرقة / الهيتمي : ٢٣٤ ، ويُنظر : المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ١٥١.
(27) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٩.
(28) الصواعق المحرقة : ٣٢٨.
اترك تعليق