الصيام وتقوية الإرادة وضبط النفس

الصيام، ذلك الركن العظيم من أركان الإسلام، ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو رحلة روحية عميقة، وتمرينٌ نفسيٌ عالٍ، يهدف إلى صقل الإرادة، وترويض النفس، وتربيتها على الصبر والثبات. فالصيام، في جوهره، هو اختبارٌ للإنسان في قدرته على التحكم في شهواته، وضبط رغباته، ومواجهة وساوسه. 

الإرادة هي القوة الداخلية التي تمكّن الإنسان من تحقيق أهدافه، والتغلب على الصعاب، ومقاومة المغريات. وهي من أعظم النعم التي منحها الله للإنسان، إذ بها يرتقي إلى مراتب الكمال، ويحقق النجاح في الدنيا والآخرة. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية الإرادة في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). فالعزم هو الإرادة القوية التي تتوكل على الله تعالى، وتستمد منه العون والقوة. 

وحقيقة الامتناع عن الشهوات في شهر الصيام المبارك، يعلِّم الإنسان كيف يعزم، وكيف يتحكم في رغباته. فالإنسان الذي يستطيع أن يترك الطعام والشراب، وهما من أشد الحاجات الطبيعية، قادرٌ بلا شك على أن يترك ما هو أقل منهما ضرورةً. وهكذا، يصبح الصيام تدريباً عملياً على تقوية الإرادة، وبناء الشخصية القوية التي لا تنكسر أمام التحديات. 

والنفس البشرية، كما وصفها القرآن الكريم، تميل إلى السوء إلا ما رحم الله تعالى. قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53). هذه النفس الأمارة بالسوء تحتاج إلى ترويض وضبط على الدوام، والصيام هو الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك. 

فعندما يصوم الإنسان، فإنه يمارس ضبط النفس بشكل عمليٍّ، فهو يمتنع عن الطعام والشراب، ويمتنع عن الغيبة والنميمة، ويمتنع عن كل ما يفسد صومه، هذا الامتناع ليس مجرد فعل جسدي، بل هو تمرينٌ روحيٌ ونفسيٌ يعلِّم الإنسان كيف يسيطر على رغباته، وكيف يوجهها نحو الخير. 

وفي الحديث الشريف، يقول النبيُّ صلى الله عليه وآله: « يقول الله عز وجل من لم تصم جوارحه عن محارمي فلا حاجة لي في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي » وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك»، ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٢ - الصفحة ١٦٨٨.

هذان الحديثان يوضحان أن الصيام الحقيقي ليس مجرد ترك الطعام والشراب، بل هو ترك كل ما يغضب الله، وضبط النفس عن كل ما يفسد الروح والقلب. 

وكذلك الصيام يعلِّم الإنسان الصبر، والصبر هو أساس الإرادة القوية، فالإنسان الصائم يتعلَّم كيف يتحمَّل الجوع والعطش، وكيف يصبر على الشدائد، وهذا الصبر هو الذي يقوي الإرادة، ويمكِّن الإنسان من مواجهة التحديات الكبرى في الحياة. 

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153). والصيام هو أَحد أعظم أَشكال الصبر، إذ إنه صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصيته، وصبرٌ على مشقة الجوع والعطش ومجاهدة النفس.

وفضلاً عمَّا سبق فإنَّ الصيام يعلِّم الإنسان كيف يكون حراً من عبودية الشهوات، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يتحكم في رغباته يكون عبداً لها، أَمَّا الذي يصوم فإنَّه يحرر نفسه من هذه العبوديَّة، ويصبح سيداً لإرادته. 

ولقد ورد في الحديث ما يدل على أنه ليس المقصود من الصوم مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، بل لا بد من الإمساك معه عن الكلام البذيء والعمل القبيح وسائر المحرمات، إذ يقول (صلى الله عليه وآله): «الصيام جنة - أي سترة ووقاية- إذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإنْ سابَّه أَحد أَو قاتله فليقل إنِّي امرؤ صائم» وفي حديث آخر: «الصوم جُنَّة ما لم يخرقه بكذب أَو غيبة»، وفي حديث آخر: «إن الصوم أمانة فليحفظ أحد كم أمانته». فالصيام جنةٌ، أي وقايةٌ وحمايةٌ للإنسان من الوقوع في الرذائل، وهو أيضاً وسيلةٌ لتعزيز الإرادة، والتحرر من سيطرة الغرائز. 

فما تقدم يتضح أن الصيام ليس مجرد ترك الطعام والشراب، بل هو فرصةٌ لفهم النفس بشكل أعمق، فعندما يصوم الإنسان، فإنه يشعر بضعفه، ويشعر بحاجته إلى الله تعالى، وهذا الشعور يجعله أكثر تواضعاً، وأكثر قرباً من ربه. 

وفي هذا السياق، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، فالصيام هو طريقٌ لتقوى الله، والتقوى هي الخوف والحذر من الله سبحانه، ومراقبته في السر والعلن، وهذا الفهم العميق للنفس وللعلاقة مع الله تعالى هو الذي يقوي الإرادة، ويمكِّن الإنسان من مواجهة تحديات الحياة.

فالصيام، إذن، هو مدرسةٌ عظيمةٌ لتقوية الإرادة وضبط النفس، فهو يعلِّم الإنسان كيف يصبر، وكيف يتحكَّم في رغباته، وكيف يكون حراً من عبودية الشهوات، وهو أيضاً وسيلةٌ لفهم النفس، وتقوية العلاقة مع الله سبحانه وتعالى. 

فليكن الصيام، يا أخي المؤمن، فرصةً لتعزيز إرادتك، وترويض نفسك، والارتقاء بها إلى مراتب الكمال. وليكن تذكيراً بأن الإرادة القوية هي التي تصنع النجاح، وتقود إلى الفلاح في الدنيا والآخرة. 

وختاماً، نسأل الله أن يتقبل صيامنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين.

: ضياء قاسم عبد العالي