اكتشافُ الكنوزِ الروحيّةِ: رحلةٌ في الفضائلِ القرآنيّة لأهلِ البيتِ(عليهم السلام)

   إنّ الفضائل هي الخصال الحسنة والكريمة في الإنسان (لسان العرب: 11/206)، وهي كنوز روحيّة تزيد من اتّصف بها حُسنا وكرامة وتُلبسه صفة المتّقين، وهذا ما أماط اللثام عنه أمير البلاغة الإمام عليّ(عليه السلام) في خطبة له في وصف المتّقين إذ قال فيها: ((فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل))(نهج البلاغة: 2/162). وخير من جسّد تلك الكنوز الروحيّة (الفضائل) هم أهل البيت (عليهم السلام)، وقد زاد في قيمتها أمران: الأوّل: هو احتواء القرآن الكريم عليها في سوره وآياته الكريمة، والآخر: تجسّدها في تلك الشخصيّات العظيمة التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا، فكانوا القدوة لمن أراد الاتّباع والتطبّع بها وجعلها ملَكة من الملَكات، فكانت فضائلهم هي ما وصفها الإمام عليّ (عليه السلام) في تلك الخطبة وهي:

    (منطقهم الصواب)، إذ قال تعالى: ) يوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا((النبأ: 38)، فمن هم المأذون لهم والقائلون بالصواب؟ ذكر صاحب تفسير(مجمع البيان:10/248) قولا عن الإمام الكاظم (عليه السلام) يوضّح فيه من هم، والرواية هي: ((نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا))(الكافي:1/ 435)، و(مشيهم التواضع)، إذ قال تعالى في وصفهم: )وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا((الفرقان: 63)، فمن هم الذين كرّمهم الله بوصف (عباد الرحمن) وزاد في تخصيصهم بـ (يمشون هونا)؟ ((هم الأئمّة يتّقون في مشيهم على الأرض))(بحار الأنوار: 24/ 133) و(تفسير القمّيّ:2/116)، يمضي الإمام في بيان صفات المتّقين فيقول: ((ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كُتِب لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب، عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها، أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا، يُحزِنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجبابهم، وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء)). فكانوا هم الراسخون في العلم، إذ قال الله تعالى: )وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأْلْباب((الزمر:18). إذ إنّه ((ما أحد أعلم بكتاب اللَّه بعد نبيّ اللَّه من عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ثمّ بعد أمير المؤمنين الذين فسّروا القرآن وكشفوا النقاب عن وجهه هم الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) الرّاسخون في العلم))(تفسير الصراط المستقيم للبروجرديّ:1/15). وذكر الله تعالى كلّ تلك الفضائل التي أعطى وصفها الإمام في خطبته في آيات سورة الفرقان إذ قال في حقّهم: ) وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا *وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا *وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا *إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا((الفرقان: 63-67 ). إذ دلّت الآيات على أنّهم: ((مع حُسن مخالَقَتهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحقّ، وجِلون من العذاب، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم))(التفسير الأصفى للكاشانيّ:2/875). وبيّنت آية (الإنسان/10) نوع الخوف بقوله تعالى: )إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(، فقمطريرًا معناه ((تعبيس الوجه، فيجتمع ما بين العينين، و قمطريرًا يعني شديدًا، يوم قمطرير، وقماطر إذا كان صعبًا شديدًا أشدّ ما يكون من الأيّام وأطوله في البلاء))(مفاتيح الغيب للرازيّ: 30/ 247). ثمّ من فضائلهم الأخرى التي ذكرها الإمام(عليه السلام) هي: ((فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم))، وهي تجسيد لقوله تعالى في وصفهم بـ)محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا((سورة محمّد: 29)، إذ إنّ هذه الآية وصف النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأتباعه من المؤمنين، فمن هم المؤمنين هؤلاء؟ وصفتهم الآية  بأنّهم: )يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّه النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَه نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمانِهِمْ((التحريم: 8)، أي: لا يُعذّب الله محمّدا، (والَّذِينَ آمَنُوا مَعَه) أي: لا يُعذّب عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وحمزة وجعفرا، (نُورُهُمْ يَسْعى) يُضيء على الصراط لعليّ وفاطمة مثل الدنيا سبعين مرّة فيسعى نورهم بين أيديهم ويسعى عن أيمانهم، وهم يتبعونه، فيمضي أهل بيت محمّد أوّل مرّة على الصراط مثل البرق الخاطف، يقول الله تعالى: )يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا( حتّى نجتاز به على الصراط، قال: فيجوز أمير المؤمنين(عليه السلام) في هودج من الزمرّد الأخضر، ومعه فاطمة على نجيب من الياقوت الأحمر، وحولها سبعون ألف حوراء كالبرق اللامع(ينظر: البرهان في تفسير القرآن للبحرانيّ:5/428). ثمّ يزيد الإمام في وصف فضائل المتّقين فيقول: ((إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يُعطِها سؤلها فيما تُحبّ. قرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، منزورا أكله، سهلا أمره))، إذ نجد هذه الفضائل متجسّدة في قوله تعالى في (سورة الإنسان، الآيات 7-10): )يوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا*وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(، إذ اتّفق العلماء على أنّ السورة قد نزلت في حقّ عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وأوردوا هذه الرواية في كتبهم العديدة واعتبروها من مفاخر الروايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)(ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: 19/252)، وهذا غيض من فيض فيطول المقال إن أتمننا تلك الخصال ويجرّنا إلى بيان أهمّيّة هذه الكنوز الروحيّة (الفضائل) في الحياة اليوميّة فهي تُغذّي الروح وتمنح الحياة معنى وهدفًا أسمى، وتتجلّى أهمّيّتها في توجيه السلوك نحو الخير وبناء علاقات إيجابيّة وسليمة و تحقيق التوازن النفسيّ والسلام الداخليّ وإضفاء معنى وهدف على الحياة وتعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع. وباختصار، الكنوز الروحيّة (الفضائل) لأهل البيت (عليهم السلام) هي بوصلة توجّهنا نحو حياة أفضل وأكثر سعادة ورضا، وهي الأساس الذي نبني عليه علاقاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا؛ لذا، يجب علينا أن نعتني بهذه الكنوز ومن حواها ونحافظ عليها وننمّيها في نفوسنا، لننعم بحياة مليئة بالخير والسعادة والسلام .

: أ.م.د مها طالب عبدالله الجبوري : دار القرآن الكريم