الثقافة المادية النسوية وسبل مواجهتها قرآنيا

تعد الثقافة المادية منذ نشوئها وإلى يومنا هذا من الثقافات الدخيلة التي تغزوا ثقافتنا وهويتنا الإسلامية، وهي تتغلغل بشراسة في الفكر النسوي خاصة، وقد تصل عند بعضهن إلى حد الهوس، حتى باتت المرأة اليوم أشبه بآلة أو روبورت تبرمج من قبل أدوات الإعلام الفاسد، وضغطه على العقل اللاواعي؛ لهدم فطرتها. ولعل من أهم أسباب ظهور مثل هكذا ثقافات، أسباب داخلية كحب الذات والأنا، وإرضاء هوى النفس، وانعدام الوعي وقلة المعرفة، وأسباب خارجية كالاستعمار والإعلام المضِل وإطاعة الطاغوت وسيطرته، ولو تفكرنا قليلا عن غاياتها وأهدافها لبزغت كبزوغ الشمس واضحة للعيان، من هدم المنظومة التربوية لدى الأسرة خصوصا والمجتمع عموما.

ولو تتبعنا القرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) لم نجد أثرا لدعوتهم لثقافة المادة والاستهلاك العشوائي، بداية من تكوين الأسرة واختيار الشريك المؤمن وإن كان فقيرا. فالله واسع برحمته عليم بأحوالنا، وهنا يتجلى الإيمان بالغيب والثقافة القرآنية في الامتثال لقول الله تعالى:

{وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (١).

وكذلك حثُّ الروايات المباركة على القيم والمبادئ الأساسية النابعة من الوحي، إذ رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)" (٢).

وهنا يبين نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله) الآثار المترتبة لهذه الثقافة واعتمادها كمنهج وأسلوب حياة، فالماديات التي تسعى لها بعض النساء لا تساوي شيئا مقابل الدين حتى تكون معيارا لبناء الأسرة، وكذلك سعي الرجل للحصول على امرأة ذات مال دون التدقيق في دينها مذموم أيضا، إذ ورد نهيُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك في قوله: "من تزوج امرأة لا يتزوجها إلا لجمالها لم يرَ فيها ما يحب، ومن تزوجها لمالها لا يتزوجها إلا له وكله الله إليه، فعليكم بذات الدين" (٣).

فلا الجمال ولا المال ولا حتى الحسب والجاه بل الدين هو ثقافة يريدها الله ورسوله. فالأخير هو الحاكم والفيصل، ومن لم يستجب لرسالة السماء ستكون هنالك عقبات على مستوى تربية الوالدين، إذ تسمع البنت منذ نشأتها عبارة (لا يعيب الرجل سوى جيبه) ويسمع الولد من أهله (سنزوجك أحلى وحدة)، وهم يؤسسون لثقافة مادية من حيث لا يشعرون، ولعل إحداهن تقول إن من ترفض هذه الثقافة ستصبح حياتها جحيما وفي غم وهم، فالحياة اليوم مختلفة عن الأمس، ولا بد من مواكبة تسارعها وتطورها، وهذه فكرة خطيرة تزرع في العقول. فالبيوت التي تبنى على هذا الأساس إنما تؤسس بنيانها على شفا جرف هار، بيوت أقرب لبيت العنكبوت خاو ضعيف، فها هي القدوة القرآنية امرأة فرعون {قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(٤).

فلم يكن طموحها وهمها الأول والأخير هي المادة بل (كانت ترجوا أن يبني اللّه لها بيتا عنده في الجنّة لتحقيق بعدين و معنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة «في الجنّة»، و البعد المعنوي و هو القرب من اللّه «عندك») (٥)، وهذه هي الثقافة الإيمانية الروحية، هذه هي ثقافة الثقلين.

ومن أجل تقليل خطر الثقافة المادية لا بد لنا من اتباع عدة خطوات منها:

١_ التدبر العملي في القرآن المبارك لاستلهام البصائر الحقة، ونبذ الغرق في الكماليات التي لا تروي جشع الإنسان بل تزيد ظمأه.

٢_ الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ودراستها دراسة واقعية لحل مشاكلنا وأخذ الإرشادات منها.

٣_ اتخاذ القدوة الصالحة عمليا عن طريق معرفة كيف كانت تعيش الصالحات من النساء كسيدة نساء إسرائيل مريم (عليها السلام)، فلقد كانت صدّيقة خلدها القرآن الكريم، وكيف كانت تعيش الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، يقول تعالى في سورة الإنسان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی‌ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَ يَتِيمًا وَ أَسِيرًا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُورًا إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرًا} (٦).

فهكذا كان بيت الزهراء (عليها السلام) بيتا قرآنيا خالصا، وعائلة ثقافتها خشية الله تعالى وإطعام المسكين واليتيم والأسير، والإخلاص ورضا الله (عز وجل).

ويعرض القرآن الكريم لنا في المقابل أنموذجا مغايرا من النساء لم تنفعها ثروتها وقوتها المادية، فلم يكن لديها عقيدة راسخة، بل كانت هي من تربي مجتمعها على ثقافات مادية وهي بلقيس، إذ كانت تتعامل مع مشاكلها بالمادة والمال لفساد عقيدتها، حيث قال الله تعالى على لسانها: {وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (٧).

بعد أن نبّأ هدهد سليمان عنها بأنها أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، ووجدها وقومها يعبدون الشمس، وقد زين لها الشيطان عملها، حتى نبهها النبي سليمان (عليه السلام) على فساد رأيها، وصحح لها ثقافتها: {قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّـهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} (٨) .

فتبين لها الحق بعد ذلك معترفة مذعنة {قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}(٩).

٤_ فمن أجل ألّا تنتشر المادية على مدار أوسع، ولكيلا تصبح جزءا من ثقافاتنا، علينا بالوقوف الواعي عند دوافعنا قبل أي خطوة نخطوها في الحياة، فإن كان الدافع رضا الله تعالى نقدم عليها، وإن كان الدافع رضا الناس نحجم عنها.

٥_ فهم الواقع فهما جيدا وتحليله تحليلا موضوعيا، ونشر الوعي بالآثار السلبية المفسدة للمادية، والتداعيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية لها، وهي أسهل وأقرب في عصرنا بسبب وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الطلبات المتوفرة في يد المستهلكين.

٦_ الالتحاق بحلقات المناقشات والحوارات الدينية الهادفة سواء في المؤسسات الدينية أو الحوزات العلمية أو الجلسات التوعوية الخاصة.

٧_ تقنين مشاهدة الإعلام المضاد ووضع البديل المناسب، وإدراك الحرب الناعمة الموجهة لتدمير قيمنا.

٨_ تعزيز التوسط والاعتدال، والتأكيد على القاعدة القرآنية في الإنفاق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (١٠).

علينا النظر إلى قيمتنا الإنسانية التي لا ترتبط بما نملكه، بل بما نحسنه، وأن ننشغل بالجوهر لا بالمظهر، فالمال وسيلة لا غاية، وأن نبتعد ونترفع في تعاملاتنا ومواقفنا عما هو ليس بقيمة عند الباري تعالى.

(1) سورة النور: آية ٣٢.

(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج ٥ ، ص٣٤٧.

(3) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج ٢٠ ، ص٥٠.

(4) التحريم: آية ١١.

(5) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج ١٨، ص ٤٦٧.

(6) سورة الإنسان: الآية ٧ _ ١٠.

(7) سورة النمل: آية ٣٥.

(8) سورة النمل: آية ٣٦.

(9) سورة النمل: آية ٤٤.

(10) سورة الفرقان: آية ٦٧.

: الحافظة للقرآن الكريم _ يقين محمد نعمة : دار القرآن الكريم